بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين . أما بعد :
سلسلتنا هذه بعنوان : مقومات الداعية . للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي
الفصل السادس
صفات الداعية الناجح
نصل بعد هذا إلى صفات
الداعية الناجح : فالداعية الناجح لابد أن يتصف بعدد من الصفات، بعضها كسبي
وبعضها وهبي : فالكسبي منها : الذي يكتسبه الإنسان ويمكن أن يزيد فيه،
والوهبي منها : ما يمنحه الله سبحانه وتعالى للذين يأتمنهم على وحيه، ويبعث
في أنفسهم حب التضحية في سبيله، والسعي لإعلاء كلمته . ......
الصفة الاولى
الرحمة
فأول صفة من هذه الصفات:
هي الرحمة، وهي خُلُقُ هذا الدين، فلكل دين خلق، وخلق الإسلام الرحمة، وقد
كتبها الله على نفسه، وتَسمى بها، وقال سبحانه وتعالى: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [الأنعام:54] ، وقال تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) [الحشر:22] . وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة
رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة
واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها
عن ولدها). فلابد أن يكون الداعية
رحيماً بالمدعوين؛ لأن حرصه عليهم ورأفته بهم ستكون سر إصراره في دعوته،
واستمراره فيها، وتذكره أن هؤلاء عرضة لأن يكبهم الله على وجوههم في النار،
فهو يرحمهم، ويسعى للحيلولة بينهم وبين ذلك، وقد قال الله تعالى لرسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )
[آل عمران:159] . والرحمة صفة مطلوبة في كل مؤمن، ولذلك صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي الحديث
المسلسل بالأولوية، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي قابوس ،
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في
الأرض يرحمكم من في السماء)، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال
أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها). وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الرحمة في عدد من الآيات، فقد سبق قوله : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) [آل عمران:159] ، وقال الله تعالى: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [التوبة:128] ، وقال تعالى: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )
[الفتح:29] . والرحمة تقتضي من الداعية ألا يخاطب الناس من منطلق الترفع
والتعالي، بل يخاطبهم من واقع الحرص عليهم؛ لإنجائهم من عذاب الله، يقول
أحد العلماء: ارحم بنيي جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة
وقِّر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ وراعِ في كل خلق حق من خلقه
الصفة الثانية
الاحتساب
الصفة الثانية :
الاحتساب، فلا ينجح الداعية إلا إذا كان محتسباً في دعوته لله تعالى، لا
يطلب عليها جزاء ولا شكوراً، ولهذا فما من نبيٍّ من الأنبياء إلا قال
لقومه: ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) [ص:86] ،( ولا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً )
[هود:29] ، وهكذا، فما من نبي من الأنبياء إلا تبرأ من ذلك. فالداعية إذا
كان يطلب غير وجه الله بدعوته فإنما يدعو إلى نفسه، أو إلى ذلك الذي يطلبه،
ومن هنا فلا بد من التوحيد في الدعوة، أي: أن تكون الدعوة خالصةً لوجه
الله؛ لأنها عبادة يبتغى بها وجه الله ويتقرب بها إليه. وقد أخرج مسلم في
الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك: فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه). والاحتساب
يقتضي من الداعية : أن يجتهد في أن يكون قدوة حسنةً، ومثالاً صالحاً يهتدي
به الآخرون، فيحاول أن يكون أبلغ الناس تضحية، وأكثرهم عبادة، وأكثرهم
تأثراً بما يقول. ولذلك فإن ابن الجوزي رحمه الله كان خطيباً مفوهاً، وكان
إذا خطب في أمر استجاب الناس لخطبته، فأتاه الأرقاء في الشام فقالوا: لو
خطبت عن العتق فلعل موالينا يعتقوننا، فوعدهم خيراً، فانتظروا الخطبة فخطب،
ولم يذكر الرقَّ، ثم الخطبة الأخرى ولم يتعرض للعتق، ثم الثالثة فخطب عن
العتق، وحظ الناس عليه، فأعتق الناس أرقاءهم، فأتوه فقالوا: رحمك الله
تأخرت عن وعدك، فقال: (إني لا يمكن أن آمر الناس بأمر قبل أن أبدأ فيه
بنفسي، ولم يكن لي رقيق أعتقه، فأخرت ذلك حتى أحرزت مالاً فاشتريت به
رقيقاً فأعتقته، وحينئذ أمرت الناس بالعتق فبادروا إليه؛ لأنني بدأت
بنفسي)!
الصفة الثالثة
المعرفة
الصفة الثالثة :
المعرفة، فلابد أن يكون الداعية عارفاً بما يدعو إليه، وبمن يدعوه،
وبأساليب الدعوة، وبمعاش الناس وما هم فيه، وبلغتهم كذلك، فالله تعالى يقول
في كتابه: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )
[إبراهيم:4] . فإذا كان الداعية لا يستطيع البيان لقومه بلسانهم، فلا يمكن
أن يبلغ رسالات الله وأن يبينها، وكذلك إذا كان غير عارف بهم، وبمكان
التأثير فيهم، أو بأولويات حياتهم، وأنماط معاشهم، فلا يمكن أن يؤثر فيهم،
ومن هنا احتيج الداعية إلى أن يتعرف على المدعوين بأوجه المعرفة المختلفة،
وقد سبق أن من قواعد الدعوة : أن المعرفة سابقة على الدعوة .
الصفة الرابعة
الثقة
الصفة الرابعة : الثقة،
فلابد أن يكون الداعية واثقاً من نفسه، واثقاً من منهجه، وأن يكون من يدعى
واثقاً به، ولابد أن يبني ثقة الناس به هو، فإذاً لابد أن يبني ثقته أولاً
هو بنفسه، وبمنهجه، وبالناس، ثم يبني ثقة الناس به، فالذي لا يثق بنفسه لا
يمكن أن يضحي. ولهذا فإن بني إسرائيل حين فرض الله عليهم دخول (أريحا)، ( قالوا إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ )
[المائدة:22] ، ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى
مات كبارهم الذين تعودوا على المذلة لفرعون وجنوده، ونشأ جيل عاشوا في
الشغف والتنقل والتيه، فكانوا هم الذين يستطيعون الجهاد في سبيل الله.
وإنما وثق من بني إسرائيل رجلان فقط، حكى الله كلامهما فقال : " قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ " أي : من بني إسرائيل الذين هم أهل الخوف والذلة والمسكنة، أو من الذين يخافون الله ، ( قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )
[المائدة:23] . ومثل ذلك أن يثق بمنهجه، فإذا كان الداعي إلى منهج أو على
منهج لا يثق به، ويتردد فيه، ولا يدري هل غيره أقوم من منهجه، فإنه لا يمكن
أن ينجح في دعوته؛ لذلك التردد الحاصل لديه، ولهذا قال الزبيري رحمه الله
عندما جادله بعض الجهمية: أأرجع بعدما رجِفت عظامي وكان الموت أقرب ما
يليني إلى أن قال: فما عوض لنا منهـاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين صلى الله
عليه وسلم فلابد أن يثق الداعية بمنهجه وأن يعلم أنه أحسن الموجود وأقومه،
ولو كان اجتهاداً، فهو يعلم أنه هو أصح الموجودين لو علم أن غيره أصح منه
وأحسن لتبعه بالضرورة؛ لأن اتباع الحق واجب، وقد قال عمر رضي الله عنه في
كتابه لـأبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه
نفسك فهديت إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). وكذلك ثقته بالمدعوين، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به . ثم بعد هذا بناء ثقة الآخرين به هو، فالداعية عرضة للعداوة، كما قال ورقة بن نوفل : (إنه لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) وقد قال الشاعر : ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل والداعية قد دعا الناس إلى ذمه بسلوكه طريق الحق ، فلابد
أن يجد عليه أعداءً يدافعون عن الباطل، ولا يرضون طريق الحق أبداً، وهم
خصوم الرسل، وما من نبي إلا وقال فيه بعضهم : كذاب مجنون ساحر إلى غير ذلك
من أنواع التُّهمِ والشبهات، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن ذلك ماضٍ
مسلسل، فقال : ( أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )
[الذاريات:53] . ومن هنا فلن يضيق الداعية ذرعاً بما يوجه إليه من
الشبهات؛ لعلمه أنها وجهت إلى من هو خير منه، لكن مع هذا يسعى لقطعها عن
نفسه ما استطاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع
الشبهات عن نفسه، فقد كان في معتكفه في رمضان فأتت أم المؤمنين صفية بنت
حيي تزوره في معتكفه، وكان ذلك في ليلة مظلمة فأراد أن يرجعها إلى غرفتها؛
حتى لا تخرج وحدها في الليل، فخرج يقلبها، فرآه رجلان من الأنصار، فلما
رأيا المرأة معه أسرعا، فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي ، فقالا سبحان
الله!! أنتهمك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). فلابد
أن يكون الداعية بعيداً عن مواقع التهم، وقد كان مالك يعتذر عن نفسه إذا
حصل منه أمر ظن أن الناس سينقدونه، وبين وجهه فيه. وهذا ما حصل للخضر مع
موسى، فإن موسى انتقد عليه ثلاثة أمور: الأمر الأول: خرقه للسفينة وقد حمل
فيها بغير أجرٍ وهي في عرض الماء، والثاني: قتله للولد الصغير الذي لم يبلغ
الحلم والتكليف بعد، والثالث: إصلاحه لجدار أهل القرية الذين امتنعوا من
ضيافتهم، ولم يأخذ عليه أجراً، فأجابه عن ذلك جميعاً بما بيَّنه الله في
كتابه. ومما يذكره أهل التفسير في هذا الأمر أن ذلك كان دروساً أخرى لموسى
من وجه آخر، فموسى عندما أنكر على الخضر خرق السفينة في الماء كان يظن أن
السفينة إذا خرقت ودخلها الماء ستغرق، وقد نبه بذلك إلى أنه هو قد رمته أمه
في التابوت في البحر ولم يغرق وهو صغير. كذلك إنكاره عليه قتل الغلام فيه
تنبيه لقتله هو للرجل الذي وكزه فقضى عليه. وكذلك في إصلاحه للجدار لولدي
الرجل الصالح، فيه تنبيه لقصة حصلت له هو عندما ورد ماء مدين كما قال
تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ
امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) [القصص:23] ، فسقى لهما، ولم يأخذ على ذلك أجراً، فكان ذلك تنبيهاً له على فضل الله عليه ونعمته به.
الصفة الخامسة
الحلم
الصفة الخامسة: الحِلم،
فلابد أن يكون الداعية حليماً، فمن كان عجولاً لا يمكن أن يحصل على مآربه
الدنيوية فضلاً عن أموره الأخروية، والحلم يقتضي من الإنسان أن يكون
وقوراً، وأن يكون صاحب سكينة، وأن يكون صاحب ثبات، والحلم والأناة صفتان
يحبهما الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس .
وحاجة الداعية إلى الحلم عظيمة جداً، فبالحلم يعرض عن الجاهلين، وبالحلم
كذلك يتغلب على كثير من العقبات التي تعرض له من مخالطة الناس، ولهذا قال
الله تعالى: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) [الفرقان:63] .
الصفة السادسة
الصبر
الصفة السادسة من هذه
الصفات : الصبر، فلابد أن يكون الداعية صبوراً على الأذى، وأن يعلم أن هذا
الطريق طريق محفوف بالمكاره، وأن الأذى فيه مضمون، لكن الأذى معلمة من
معالم الطريق يعرف به أنه سلك طريق الحق. والأذى للسالكين لطريق الحق لله
فيه حِكم عظيمة، فمنها: أولاً : أن الله سبحانه وتعالى يصرف به الذين لا
يرتضي خدمتهم للدين، كما قال تعالى : ( سَأَصْرِفُ
عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) [الأعراف:146] ، وقال تعالى : ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) [الذاريات:9] ، وقال تعالى : (
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ
اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ
الْقَاعِدِينَ ) [التوبة:46] ، وقال تعالى: (
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ ) [الحج:11] ، فهذه الحكمة الأولى. ثانياً : أن هذا
الأذى يعرف به السالكون لطريق الحق أنهم ما ضيعوا، وأنهم سلكوا طريق
الأنبياء، فمن سلك طريق الأنبياء ولم يؤذَ، ولم يجد ما وجده الأنبياء على
هذا الطريق، فليعلم أنه قد ضيع الطريق وسلك فجاً آخر؛ لأنه لم يسلكه نبي قط
إلا أوذي، كما بينَّا في حديث ورقة بن نوفل ، وكما نص الله عليه في كتابه :
( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لايُفْتَنُونَ
* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [العنكبوت:1-3]
. ثالثاً : من حكم الله في الأذى الذي يلحق الدعاة على طريق الحق : أنه
رفع لمستواهم ولمكانتهم، فقد يكتب الله المنزلة للداعية فلا يبلغها بعمله،
فيقيض الله إليه من يتنقصه ويؤذيه؛ فيرفع الله بذلك منزلته وقدره، وقد يكون
ذلك بعد موته، فتتلقى ذلك الألسنة، فيرفع الله قدره بذلك ومنزلته، ويهبُ
له أولئك المتنقصون حسناتهم إن كانوا من أهل الإيمان. رابعاً : من حكم الله
في ذلك : أن هذه الدعوة ليس لديها من الوسائل ما تصل به كثيراً من البيئات
والملأ فتحتاج إلى الوسائل؛ للوصول إلى هنالك. ومن الوسائل : أن يتكلم
الناس فيها، وينتقدونها، فيكون ذلك وسيلة لتقصي أخبارها والبحث عنها ،
وقديماً قال الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
فإذا تكلم فيها الناس
اقتضى ذلك أن يبحث عنها الباحثون عن الحق، وأن يتلمسوا أمورها حتى يطلعوا
على جليِّ الأمر وحقيقته، فتصل الدعوة إلى أماكن لم تكن لتصلها من قبل،
لولا تنقُّص الناس لها . خامساً : ومن حكم الله فيها : أنها مقتضية لتوحيد
جهد الدعاة واتفاقهم ،
قال الشاعر:
لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد
بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد
انتهت السلسلة بفضل الله تعالى
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين . أما بعد :
سلسلتنا هذه بعنوان : مقومات الداعية . للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي
الفصل السادس
صفات الداعية الناجح
نصل بعد هذا إلى صفات
الداعية الناجح : فالداعية الناجح لابد أن يتصف بعدد من الصفات، بعضها كسبي
وبعضها وهبي : فالكسبي منها : الذي يكتسبه الإنسان ويمكن أن يزيد فيه،
والوهبي منها : ما يمنحه الله سبحانه وتعالى للذين يأتمنهم على وحيه، ويبعث
في أنفسهم حب التضحية في سبيله، والسعي لإعلاء كلمته . ......
الصفة الاولى
الرحمة
فأول صفة من هذه الصفات:
هي الرحمة، وهي خُلُقُ هذا الدين، فلكل دين خلق، وخلق الإسلام الرحمة، وقد
كتبها الله على نفسه، وتَسمى بها، وقال سبحانه وتعالى: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [الأنعام:54] ، وقال تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) [الحشر:22] . وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة
رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة
واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها
عن ولدها). فلابد أن يكون الداعية
رحيماً بالمدعوين؛ لأن حرصه عليهم ورأفته بهم ستكون سر إصراره في دعوته،
واستمراره فيها، وتذكره أن هؤلاء عرضة لأن يكبهم الله على وجوههم في النار،
فهو يرحمهم، ويسعى للحيلولة بينهم وبين ذلك، وقد قال الله تعالى لرسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )
[آل عمران:159] . والرحمة صفة مطلوبة في كل مؤمن، ولذلك صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي الحديث
المسلسل بالأولوية، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي قابوس ،
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في
الأرض يرحمكم من في السماء)، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال
أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها). وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الرحمة في عدد من الآيات، فقد سبق قوله : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) [آل عمران:159] ، وقال الله تعالى: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [التوبة:128] ، وقال تعالى: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )
[الفتح:29] . والرحمة تقتضي من الداعية ألا يخاطب الناس من منطلق الترفع
والتعالي، بل يخاطبهم من واقع الحرص عليهم؛ لإنجائهم من عذاب الله، يقول
أحد العلماء: ارحم بنيي جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة
وقِّر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ وراعِ في كل خلق حق من خلقه
الصفة الثانية
الاحتساب
الصفة الثانية :
الاحتساب، فلا ينجح الداعية إلا إذا كان محتسباً في دعوته لله تعالى، لا
يطلب عليها جزاء ولا شكوراً، ولهذا فما من نبيٍّ من الأنبياء إلا قال
لقومه: ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) [ص:86] ،( ولا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً )
[هود:29] ، وهكذا، فما من نبي من الأنبياء إلا تبرأ من ذلك. فالداعية إذا
كان يطلب غير وجه الله بدعوته فإنما يدعو إلى نفسه، أو إلى ذلك الذي يطلبه،
ومن هنا فلا بد من التوحيد في الدعوة، أي: أن تكون الدعوة خالصةً لوجه
الله؛ لأنها عبادة يبتغى بها وجه الله ويتقرب بها إليه. وقد أخرج مسلم في
الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك: فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه). والاحتساب
يقتضي من الداعية : أن يجتهد في أن يكون قدوة حسنةً، ومثالاً صالحاً يهتدي
به الآخرون، فيحاول أن يكون أبلغ الناس تضحية، وأكثرهم عبادة، وأكثرهم
تأثراً بما يقول. ولذلك فإن ابن الجوزي رحمه الله كان خطيباً مفوهاً، وكان
إذا خطب في أمر استجاب الناس لخطبته، فأتاه الأرقاء في الشام فقالوا: لو
خطبت عن العتق فلعل موالينا يعتقوننا، فوعدهم خيراً، فانتظروا الخطبة فخطب،
ولم يذكر الرقَّ، ثم الخطبة الأخرى ولم يتعرض للعتق، ثم الثالثة فخطب عن
العتق، وحظ الناس عليه، فأعتق الناس أرقاءهم، فأتوه فقالوا: رحمك الله
تأخرت عن وعدك، فقال: (إني لا يمكن أن آمر الناس بأمر قبل أن أبدأ فيه
بنفسي، ولم يكن لي رقيق أعتقه، فأخرت ذلك حتى أحرزت مالاً فاشتريت به
رقيقاً فأعتقته، وحينئذ أمرت الناس بالعتق فبادروا إليه؛ لأنني بدأت
بنفسي)!
الصفة الثالثة
المعرفة
الصفة الثالثة :
المعرفة، فلابد أن يكون الداعية عارفاً بما يدعو إليه، وبمن يدعوه،
وبأساليب الدعوة، وبمعاش الناس وما هم فيه، وبلغتهم كذلك، فالله تعالى يقول
في كتابه: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )
[إبراهيم:4] . فإذا كان الداعية لا يستطيع البيان لقومه بلسانهم، فلا يمكن
أن يبلغ رسالات الله وأن يبينها، وكذلك إذا كان غير عارف بهم، وبمكان
التأثير فيهم، أو بأولويات حياتهم، وأنماط معاشهم، فلا يمكن أن يؤثر فيهم،
ومن هنا احتيج الداعية إلى أن يتعرف على المدعوين بأوجه المعرفة المختلفة،
وقد سبق أن من قواعد الدعوة : أن المعرفة سابقة على الدعوة .
الصفة الرابعة
الثقة
الصفة الرابعة : الثقة،
فلابد أن يكون الداعية واثقاً من نفسه، واثقاً من منهجه، وأن يكون من يدعى
واثقاً به، ولابد أن يبني ثقة الناس به هو، فإذاً لابد أن يبني ثقته أولاً
هو بنفسه، وبمنهجه، وبالناس، ثم يبني ثقة الناس به، فالذي لا يثق بنفسه لا
يمكن أن يضحي. ولهذا فإن بني إسرائيل حين فرض الله عليهم دخول (أريحا)، ( قالوا إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ )
[المائدة:22] ، ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى
مات كبارهم الذين تعودوا على المذلة لفرعون وجنوده، ونشأ جيل عاشوا في
الشغف والتنقل والتيه، فكانوا هم الذين يستطيعون الجهاد في سبيل الله.
وإنما وثق من بني إسرائيل رجلان فقط، حكى الله كلامهما فقال : " قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ " أي : من بني إسرائيل الذين هم أهل الخوف والذلة والمسكنة، أو من الذين يخافون الله ، ( قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )
[المائدة:23] . ومثل ذلك أن يثق بمنهجه، فإذا كان الداعي إلى منهج أو على
منهج لا يثق به، ويتردد فيه، ولا يدري هل غيره أقوم من منهجه، فإنه لا يمكن
أن ينجح في دعوته؛ لذلك التردد الحاصل لديه، ولهذا قال الزبيري رحمه الله
عندما جادله بعض الجهمية: أأرجع بعدما رجِفت عظامي وكان الموت أقرب ما
يليني إلى أن قال: فما عوض لنا منهـاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين صلى الله
عليه وسلم فلابد أن يثق الداعية بمنهجه وأن يعلم أنه أحسن الموجود وأقومه،
ولو كان اجتهاداً، فهو يعلم أنه هو أصح الموجودين لو علم أن غيره أصح منه
وأحسن لتبعه بالضرورة؛ لأن اتباع الحق واجب، وقد قال عمر رضي الله عنه في
كتابه لـأبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه
نفسك فهديت إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). وكذلك ثقته بالمدعوين، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به . ثم بعد هذا بناء ثقة الآخرين به هو، فالداعية عرضة للعداوة، كما قال ورقة بن نوفل : (إنه لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) وقد قال الشاعر : ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل والداعية قد دعا الناس إلى ذمه بسلوكه طريق الحق ، فلابد
أن يجد عليه أعداءً يدافعون عن الباطل، ولا يرضون طريق الحق أبداً، وهم
خصوم الرسل، وما من نبي إلا وقال فيه بعضهم : كذاب مجنون ساحر إلى غير ذلك
من أنواع التُّهمِ والشبهات، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن ذلك ماضٍ
مسلسل، فقال : ( أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )
[الذاريات:53] . ومن هنا فلن يضيق الداعية ذرعاً بما يوجه إليه من
الشبهات؛ لعلمه أنها وجهت إلى من هو خير منه، لكن مع هذا يسعى لقطعها عن
نفسه ما استطاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع
الشبهات عن نفسه، فقد كان في معتكفه في رمضان فأتت أم المؤمنين صفية بنت
حيي تزوره في معتكفه، وكان ذلك في ليلة مظلمة فأراد أن يرجعها إلى غرفتها؛
حتى لا تخرج وحدها في الليل، فخرج يقلبها، فرآه رجلان من الأنصار، فلما
رأيا المرأة معه أسرعا، فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي ، فقالا سبحان
الله!! أنتهمك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). فلابد
أن يكون الداعية بعيداً عن مواقع التهم، وقد كان مالك يعتذر عن نفسه إذا
حصل منه أمر ظن أن الناس سينقدونه، وبين وجهه فيه. وهذا ما حصل للخضر مع
موسى، فإن موسى انتقد عليه ثلاثة أمور: الأمر الأول: خرقه للسفينة وقد حمل
فيها بغير أجرٍ وهي في عرض الماء، والثاني: قتله للولد الصغير الذي لم يبلغ
الحلم والتكليف بعد، والثالث: إصلاحه لجدار أهل القرية الذين امتنعوا من
ضيافتهم، ولم يأخذ عليه أجراً، فأجابه عن ذلك جميعاً بما بيَّنه الله في
كتابه. ومما يذكره أهل التفسير في هذا الأمر أن ذلك كان دروساً أخرى لموسى
من وجه آخر، فموسى عندما أنكر على الخضر خرق السفينة في الماء كان يظن أن
السفينة إذا خرقت ودخلها الماء ستغرق، وقد نبه بذلك إلى أنه هو قد رمته أمه
في التابوت في البحر ولم يغرق وهو صغير. كذلك إنكاره عليه قتل الغلام فيه
تنبيه لقتله هو للرجل الذي وكزه فقضى عليه. وكذلك في إصلاحه للجدار لولدي
الرجل الصالح، فيه تنبيه لقصة حصلت له هو عندما ورد ماء مدين كما قال
تعالى: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ
عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ
امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) [القصص:23] ، فسقى لهما، ولم يأخذ على ذلك أجراً، فكان ذلك تنبيهاً له على فضل الله عليه ونعمته به.
الصفة الخامسة
الحلم
الصفة الخامسة: الحِلم،
فلابد أن يكون الداعية حليماً، فمن كان عجولاً لا يمكن أن يحصل على مآربه
الدنيوية فضلاً عن أموره الأخروية، والحلم يقتضي من الإنسان أن يكون
وقوراً، وأن يكون صاحب سكينة، وأن يكون صاحب ثبات، والحلم والأناة صفتان
يحبهما الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس .
وحاجة الداعية إلى الحلم عظيمة جداً، فبالحلم يعرض عن الجاهلين، وبالحلم
كذلك يتغلب على كثير من العقبات التي تعرض له من مخالطة الناس، ولهذا قال
الله تعالى: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) [الفرقان:63] .
الصفة السادسة
الصبر
الصفة السادسة من هذه
الصفات : الصبر، فلابد أن يكون الداعية صبوراً على الأذى، وأن يعلم أن هذا
الطريق طريق محفوف بالمكاره، وأن الأذى فيه مضمون، لكن الأذى معلمة من
معالم الطريق يعرف به أنه سلك طريق الحق. والأذى للسالكين لطريق الحق لله
فيه حِكم عظيمة، فمنها: أولاً : أن الله سبحانه وتعالى يصرف به الذين لا
يرتضي خدمتهم للدين، كما قال تعالى : ( سَأَصْرِفُ
عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) [الأعراف:146] ، وقال تعالى : ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) [الذاريات:9] ، وقال تعالى : (
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ
اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ
الْقَاعِدِينَ ) [التوبة:46] ، وقال تعالى: (
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ ) [الحج:11] ، فهذه الحكمة الأولى. ثانياً : أن هذا
الأذى يعرف به السالكون لطريق الحق أنهم ما ضيعوا، وأنهم سلكوا طريق
الأنبياء، فمن سلك طريق الأنبياء ولم يؤذَ، ولم يجد ما وجده الأنبياء على
هذا الطريق، فليعلم أنه قد ضيع الطريق وسلك فجاً آخر؛ لأنه لم يسلكه نبي قط
إلا أوذي، كما بينَّا في حديث ورقة بن نوفل ، وكما نص الله عليه في كتابه :
( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لايُفْتَنُونَ
* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [العنكبوت:1-3]
. ثالثاً : من حكم الله في الأذى الذي يلحق الدعاة على طريق الحق : أنه
رفع لمستواهم ولمكانتهم، فقد يكتب الله المنزلة للداعية فلا يبلغها بعمله،
فيقيض الله إليه من يتنقصه ويؤذيه؛ فيرفع الله بذلك منزلته وقدره، وقد يكون
ذلك بعد موته، فتتلقى ذلك الألسنة، فيرفع الله قدره بذلك ومنزلته، ويهبُ
له أولئك المتنقصون حسناتهم إن كانوا من أهل الإيمان. رابعاً : من حكم الله
في ذلك : أن هذه الدعوة ليس لديها من الوسائل ما تصل به كثيراً من البيئات
والملأ فتحتاج إلى الوسائل؛ للوصول إلى هنالك. ومن الوسائل : أن يتكلم
الناس فيها، وينتقدونها، فيكون ذلك وسيلة لتقصي أخبارها والبحث عنها ،
وقديماً قال الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
فإذا تكلم فيها الناس
اقتضى ذلك أن يبحث عنها الباحثون عن الحق، وأن يتلمسوا أمورها حتى يطلعوا
على جليِّ الأمر وحقيقته، فتصل الدعوة إلى أماكن لم تكن لتصلها من قبل،
لولا تنقُّص الناس لها . خامساً : ومن حكم الله فيها : أنها مقتضية لتوحيد
جهد الدعاة واتفاقهم ،
قال الشاعر:
لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد
بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد
انتهت السلسلة بفضل الله تعالى
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .