بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً .. أمْا بَعد ... [size=25]المُبَشَرُوُن بِالجَنْة [url=http://www.maktoobblog.com/re.....تمنع روابط التحميل الغير قانوني.......php?link=http%3A%2F%2Fupload.arabia4serv.com%2Fviewer.php%3Ffile%3Don215fhkraydpzw5ysnc.gif][/url] [/size] إن تاريخ الأمة الإسلامية مليء بالدروس والعبر، فتاريخ الصحابة إذا أحسن عرضه فإنه يغذي الأرواح، ويهذب النفوس، وينور العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العِبَر، وينضج الأفكار، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة، ونتعرف على حياة وعصر من قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [(100) سورة التوبة]، وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [(29) سورة الفتح]. وقال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم)). وقال فيهم عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم". فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشره في مشارق الأرض ومغاربها، فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم، ورووا لها السنن والآثار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتاريخهم هو الكنـز الذي حفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والجهاد وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد، وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس. من الضروري جداً أن يقرأ التاريخ على أبناء الجيل ليتعرفوا على الصفحات المشرقة والتي هي محل القدوة ليتأسوا بها. واليوم نقلب بعض صفحات فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الجبل، وتلك الشخصية المثالية التي يجهل عدد من المسلمين الكثير عن حياته إن الحديث عن الفاروق عمر بن الخطاب حديث ذو شجون، ولا تدري عن ماذا تتحدث !. شخصية كشخصية عمر بن الخطاب لا يكفيه مجلدات، فماذا عساك أن تقدم في سطور!. لكن ما يدرك كله لا يترك جله. اسمه: عمر بن الخطاب بن نُفيل القرشي العدوي، يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي بن غالب، ويكنى أبا حفص، ولقب بالفاروق، لأنه أظهر الإسلام بمكة ففرّق الله به بين الكفر والإيمان. ولد عمر رضي الله عنه بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان رضي الله عنه أبيضاً، تعلوه حمرة، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، وكان طويلاً جسيماً، وكان قوياً شديداً، لا واهناً ولا ضعيفاً، وكان يخضب بالحناء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع. أمضى عمر في الجاهلية شطراً من حياته، ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، وامتاز عليهم بأنه كان ممن تعلّموا القراءة، وهؤلاء كانوا قليلين جداً، وقد حمل المسؤولية صغيراً، ونشأ نشأة غليظة شديدة، لم يعرف فيها ألوان الترف ولا مظاهر الثروة، ودفعه أبوه الخطاب في غلظة وقسوة إلى المراعي يرعى إبله، وتركت هذه المعاملة القاسية من أبيه أثراً سيئاً في نفس عمر رضي الله عنه، فظل يذكرها طيلة حياته، ولا شك أن حرفة الرعي التي لازمت عمر بن الخطاب في مكة قبل أن يدخل الإسلام قد أكسبته صفات جميلة: كقوة التحمل، والجلد، وشدة البأس، ولم يكن رعي الغنم هو شغل ابن الخطاب في جاهليته، بل حذق من أول شبابه ألواناً من رياضة البدن، فحذق المصارعة، وركوب الخيل والفروسية، وتذوق الشعر ورواه، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، وحرص على الحضور في أسواق العرب الكبرى، كعكاظ ومجنة وذي المجاز، واستفاد منها في التجارة ومعرفة تاريخ العرب وما حدث بين القبائل من وقائع. وكان يدافع عن كل ما ألفته قريش من عادات وعبادات ونُظُم، وكانت له طبيعة مخلصة تجعله يتفانى في الدفاع عما يؤمن به، وبهذه الطبيعة التي جعلته يشتد في الدفاع عما يؤمن به، قاوم عمر الإسلام في أول الدعوة، وكان من أشد أهل مكة بطشاً بهؤلاء المستضعفين. ولقد ظل يضرب جارية أسلمت، حتى أعيت يداه، ووقع السوط من يده، فتوقف إعياءً، ومر أبو بكر فرآه يعذب الجارية، فاشتراها منه وأعتقها. لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها، وتقاليدها وأعرافها، ودافع عنها بكل ما يملك من قوة، ولذلك لما دخل في الإسلام عرف جماله وحقيقته وتيقن الفرق الهائل بين الهدى والضلال والكفر والإيمان والحق والباطل، ولذلك قال قولته المشهورة: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركن بلدهنّ ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهنّ بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرقّ قلبه، وعاتبه ضميره، فرثى لهنّ، وأسمعهنّ الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها. قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنّا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. فقال عمر: صحبكم الله. ورأيت منه رقة لم أرها قط. فلما جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم فقال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب. لقد تأثر عمر من هذا الموقف وشعر أن صدره قد أصبح ضيقاً حرجاً، فأي بلاء يعانيه أتباع هذا الدين الجديد، وهم على الرغم من ذلك صامدون! ما سر تلك القوة الخارقة؟ وشعر بالحزن وعصر قلبه الألم، وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر رضي الله عنه، وبسبب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت السبب الأساسي في إسلامه، فقد دعا له بقوله: اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر. دخل عمر في الإسلام بإخلاص متناهٍ، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متّم وإن حييتم. قال: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لَتَخرُجَنّ. فأذن بالإعلان، وخرج صلى الله عليه وسلم في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق. وتحدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشركي قريش، فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة، وصلى معه المسلمون، وحرص عمر على أذية أعداء الدعوة بكل ما يملك، فقال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له جميل بن معمر الجُمحي. يقول ولده عبدالله: فخرج إليه وأنا معه أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلّما رأيت وسمعت. فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت، فوالله ما ردّ عليه كلمة حتى قام يجرّ رداءه، وتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش: وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إنَّ عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فثاروا إليه، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عُتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلسها بالكفر فأظهر فيها الإيمان، وما زال يقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم، وفتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم. فبينما هم كذلك إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص مُوّشّى، قال: ما بالكم؟ قالوا: ابن الخطاب قد صبأ. قال: فَمَهْ؟ امرؤا اختار ديناً لنفسه، أتظنون أن بني عديّ يُسلمون إليكم صاحبهم، فكأنما كانوا ثوباً انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت من الرجل ردّ عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بَني، ذاك العاص بن وائل السهمي. أسلم عمر رضي الله عنه في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان إسلامه بعد إسلام حمزة رضي الله عنه بثلاثة أيام، وكان المسلمون يومئذ تسعة وثلاثين: فكمّلهم أربعين. ولما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة، تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عنـزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام، فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي. قال عليُّ رضي الله عنه: فما تبعه أحد. إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر، وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وهو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا نائم شربت اللبن حتى أنظر إني الرّي يجري في ظفري أو في أظفاري، ثم ناولت عمر". فقالوا: فما أولته قال: "العلم". متفق عليه. والمراد بالعلم في الحديث سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان. وقال صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا نائم رأيت الناس عُرضوا علي وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه". قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: "الدين". رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر". متفق عليه. والمراد بالمحدَّث: الملهم، ومن يجري الصواب على لسانه من غير قصد، قال ابن القيم: ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث، فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله، بأنه الحكيم الخبير. وفي خلافة الصديق رضي الله عنه كانت له مواقف عديدة منها: اعتراضه على إقطاع الصدّيق للأقرع بن حابس وعينيه بن حصن: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضاً سبخة لا ينتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتاباً، وأشهد عمر، وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه قائماً يهنأ بعيراً له، فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك، فقرءا، فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمّرا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمّران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر: فقال:لا، بل هو لو كان شاء. فجاء عمر وهو مغضب فوقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين، أرض هي لك خاصة أم للمسلمين عامة. قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا عليّ بذلك. قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضاً. فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد كنت قلت لك إنك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني. باشر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر رضي الله عنه. وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر. فنـزل درجة، فحمد الله وأثنى عليه ثم أكمل خطبته. لقد كان الفاروق قدوة في عدله، أسر القلوب وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام، به تفتح قلوب الناس للإيمان، وقد سار على ذات نهج الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير لا تكاد تصدقه العقول حتى اقترن اسمه بالعدل. حكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه. وقصته مع ابن عمرو بن العاص مشهورة، "مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟". وعندما أصاب الناس سنة جدب بالمدينة وما حولها، فكانت تسفي الريح تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فحلف عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيا الناس، وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم. وعندما أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول: "قرقر ما شئت، فو الله لا تأكل السمن حتى يأكله الناس". ولم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأُتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز. وعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أُتي بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: خبيص، فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أَكُلّ المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أمّا لا، فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك. مرض عمر يوماً، فوصفوا له العسل دواءً، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس وصعد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليّ حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه، وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك. وكان أول من وضع التاريخ بالهجرة عمر، وسبب ذلك أنه دُفِعَ إلى عمر رضي الله عنه صكٌ محلُّه في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى، أو الذي هو آت، أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم. فقيل: إنه يطول وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين. فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس، قالوا: كلما قام ملك طرح ما كان قبله. فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام عشر سنين، فكُتب التاريخ على هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب جعلهم بداية التاريخ في شهر محرم وليس في ربيع الأول الشهر الذي تمت فيه هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم، إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرم، فناسب أن يجعل مبتدأً. وكان عمر إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منك أن يتأخر. قال عبدالله بن عمر: اشتريت إبلاً أنجعتها الحمى فلما سمنت قدمت بها، قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذا الإبل؟ قيل: لعبدالله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبدالله بن عمر بخٍ بخ! ابن أمير المؤمنين، قال: ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون. قال: فيقولون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبدالله ابن عمر! اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين. وقال عبدالله بن عمر: شهدت جلولاء إحدى المعارك ببلاد فارس فابتعت من المغنم بأربعين ألفاً، فلما قدمت على عمر قال: أريت لو عرضت على النار، فقيل لك: افتده، أكنت مفتدياً به؟ قلت: والله ما من شيء يؤذي بك إلا كنت مفتدياً بك منه، قال: كأني شاهد الناس حين تبايعوا، فقالوا: عبدالله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين وأحب الناس إليه، وأنت كذلك، فكان أن يرخصوا عليك أحب إليهم من أن يغلوا عليك، وإني قاسم مسؤول، وأنا معطيك أكثر ما ربح تاجر من قريش، لك ربح الدرهم درهم، قال: ثم دعا التجار، فابتاعوا منه بأربعمئة ألف درهم، فدفع إليَّ ثمانين ألفاً وبعث بالباقي إلى سعد بن أبي وقاص ليقسمه. وكان عمر رضي الله عنه يقسم المال، ويفضل بين الناس على السابقة والنسب، ففرض لأسامة بن زيد رضي الله عنه أربعة آلاف، وفرض لعبدالله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف، فقال: يا أبت! فرضت لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لك! وما كان له من الفضل ما لم يكن لي! فقال عمر: إن أباه كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك!. خرج عمر رضي الله عنه في سواد الليل فرآه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فذهب عمر فدخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويُخرج عني الأذى! فقال طلحة: ثكلتك أمك! عثرات عمر تتَتَبَّع؟. إن الاهتمام بضعفاء المجتمع من عوامل النصر، ومن القربات العظيمة التي يُتقرب بها إلى المولى عز وجل، فينبغي للقادة، وحكام الشعوب الإسلامية، وأئمة المساجد، وأبناء المسلمين، أن يعتنوا بهذا الجانب الإنساني في مجتمعاتهم ويعطوه حقه. ومن أعمال عمر في ولايته أنه رصد حصةً من بيت مال المسلمين، وخصص عدداً ضخماً من الجمال، بوصفها وسيلة المواصلات المتاحة آنذاك لتيسير انتقال من لا ظهر له بين الجزيرة والشام والعراق، كما اتخذ ما يسمى دار الدقيق، وهي مكان يجعل فيه السويق والتمر والزبيب، ومتطلبات المعيشة الأخرى، يعين به المنقطع من أبناء السبيل، والضيف الغريب، ووضع في الطريق بين مكة والمدينة ما يصلح به حاجة المسافر، وما يحمل عليه من ماء إلى ماء. تعرضت الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه للابتلاء، وهذه السنة جارية في الأمم والدول والشعوب والمجتمعات، والأمة الإسلامية أمة من الأمم، فسنت الله فيها جارية لا تتبدل ولا تتغير، ومن أعظم الابتلاءات في عهد عمر عام الرمادة، وطاعون عمواس. في سنة 18هـ أصاب الناس في الجزيرة مجاعة شديدة وجدب وقحط، واشتد الجوع حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاه فيعافها من قبحها، وماتت المواشي جوعاً، وسمي هذا العام عام الرمادة، واشتد القحط، وعزت اللقمة. وهرع الناس من أعماق البادية إلى المدينة يقيمون فيها أو قريباً منها، ويلتمسون لدى أمير المؤمنين حلاً، فكان الفاروق أكثر الناس إحساساً بهذا البلاء وتحملاً لتبعاته. فحلف عمر لا يذوق لحماً ولا سمناً حتى يحيى الناس! ولقد أجمع الرواة جميعاً: أن عمر كان صارماً في هذا الوفاء بهذا القسم، ومن ذلك أنه لما قدمت إلى السوق عكة سمن، ووطب من لبن، فاشتراها غلاماً لعمر بأربعين درهماً، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، وقدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهماً، فقال عمر: أغليت فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً! ثم أردف قائلا: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما لم يمسهم؟! فهذه جملة واحدة من كلمات مضيئة، يوضح فيها الفاروق مبدأ من أروع المبادئ الكبرى التي يمكن أن تعرفها الإنسانية في فن الحكم "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم". نظر ذات يوم في عام الرمادة، فرأى بطيخه في يد ولد من أولاده، فقال له على الفور: بخٍ بخ يا ابن أمير المؤمنين! تأكل الفاكهة، وأمة محمد هزلى؟ فخرج الصبي هارباً يبكي، ولم يسكت عمر إلا بعد أن سأل عن ذلك، وعلم أن ابنه اشتراها بكف من نوى. كما قام عمر رضي الله عنه بوقف حد السرقة في عام الرمادة، وهذا ليس تعطيلاً لهذا الحد، فالذي يأكل ما يكون ملكاً لغيره بسبب شدة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطعام يكون غير مختار، فلا يقصد السرقة. وأوقف رضي الله عنه إلزام الناس بالزكاة في عام الرمادة، ولما انتهت المجاعة وخصبت الأرض، جمع الزكاة عن عام الرمادة واعتبرها ديناً على القادرين. وفي العام الثاني عشر من الهجرة وقع شيء فظيع مروع، هو ما تذكره المصادر باسم طاعون عمواس، وقد سمي بطاعون عمواس نسبة إلى بلدة صغيرة يقال لها: عمواس، وهي بين القدس والرملة، لأنها كان أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام منها، فنسب إليها. وكان حصول الطاعون في ذلك الوقت بعد المعارك الطاحنة بين المسلمين والروم، وكثرة القتلى، وتعفن الجو وفساده بتلك الجثث أمر طبيعي، قدره الله لحكمة أرادها. فهلك به خلق كثير، منهم: أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف الناس، ولم يرتفع عنهم الوباء إلا بعد أن وليهم عمرو بن العاص، فخطب الناس وقال لهم: أيها الناس! إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار، فتجنبوا منه في الجبال، فخرج وخرج الناس، فتفرقوا حتى رفعه الله عنهم، فبلغ عمر ما فعله عمرو، فما كرهه. اهتم عمر رضي الله عنه بأمر الجند فنظم ديوان الجيش، وسار في تقسيم الأرزاق فيه على أساس القربى من النسب النبوي الشريف، والسابقة للإسلام، وبذلك أصبح في مقدمة أصحاب المعاشات آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وكان العباس يتسلمها ويوزعها عليهم، ثم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وتختص كل واحدة بمعاش مستقل عن آل البيت، أما بقية المسلمين فقد قسموا إلى طبقات حسب ترتيب اشتراكهم في الجهاد في سبيل الله، فبدأ بأهل بدر، ثم من حاربوا بعد بدر إلى الحديبية، ثم من حاربوا من الحديبية إلى آخر حروب الردة ثم من تلاهم من شهد القادسية واليرموك وهكذا، كما أنه جعل مخصصات لزوجات المحاربين وأطفالهم منذ الولادة ولم يُغفل أمر الغلمان، واللقطاء، بل خصص لهم أعطيات سنوية، أدناها مائة درهم، تتزايد عند بلوغهم، كما فرض للموالي من ألفين إلى ألف. وقد رأى الخليفة عمر رضي الله عنه أن لكل مسلم حقاً في بيت المال، منذ أن يولد حتى يموت، ولقد أعلن هذا المبدأ بقوله: والله الذي لا إله إلا هو ما من أحد إلا له في هذا المال حق أُعطيَه أو مُنِعَه، وما أحد بأحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقَسمنا من رسول الله فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقَدَمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يُخمَّرَ وجهه. وكان عمر حريصاً على أن لا يولي أحداً من أقاربه رغم كفاية بعضهم وسبقه إلى الإسلام مثل سعيد بن زيد ابن عمه وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم. وقول عمر: لوددت أني وجدت رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم. فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا. وكان عمر يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواءً أكانوا بائعين أو مشترين. روي أن عاملاً لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا وأخذ منه ما حصل عليه من ربح. وكان يحصي أموال العمال والولاة قبل الولاية ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً. وكان عمر رضي الله عنه أشد ما يخشاه أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئاً من الأموال بسبب ولايتهم، وقد قام بمشاطرة أموال عماله، وقام أيضاً بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إذا ما رأى مبرراً لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلاً: إني لم آلِ لك عملاً؟ فقال عمر: ولكن أخاك على بيت المال، فهو يقرضك المال تتجر به. كان الوفد إذا قدموا على عمر رضي الله عنه سألهم عن أميرهم فيقولون خيراً، فيقول هل يعود مرضاكم؟ فيقولون نعم، فيقول هل يعود العبد؟ فيقولون نعم، فيقول كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها لا عزله. وكان رضي الله عنه يطلب من ولاته القادمين إلى المدينة أن يدخلوها نهاراً ولا يدخلوها ليلاً، حتى يظهر ما يكون قد جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً كتب عليه كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من الأنصار: أن لا يركب برذوناً، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول: اللهم فاشهد. وهذه الشروط تعني الالتزام بحياة الزهد والتواضع للناس، وهي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط في المعيشة، واللباس والمراكب، وبهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال تستقيم أمورها، وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجباً في الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوة الأولى في المجتمع، وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار. كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصياً لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا، وقد طبق عمر شيئاً من هذا خصوصاً في ولاية الشام حيث سار إليها عدة مرات وتفقد أحوالها ودخل بيوت ولاتها وأمرائها، ليعرف أحوالهم عن كثب. استعمل عياض بن غنم على الشام فبلغه أنه اتخذ حماماً واتخذ نوّاباً، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثاً، ثم أذن له ودعا بجبة صوف، فقال البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة وقال انعق بها، فنعق بها، فلما جازه هنيهة، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بكذا وكذا، اذهب فذهب، حتى إذا تباعد ناداه: يا عياض أقبل، فلم يزل يردده حتى عرّقه في جبينه، قال أوردها علي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه فقال: انزع عليها، فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها، فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران أو ثلاثة، ثم دعاه فقال: هيه اتخذت نواباً واتخذت حماماً أتعود قال: لا. قال: ارجع إلى عملك. وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياض بعد ذلك من أفضل عمّال عمر رضي الله عنه. لقد كان أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه مثالاً للخليفة العادل المؤمن، المجاهد النقي الورع، القوي الأمين، الحصن المنيع للأمة وعقيدتها، قضى رضي الله عنه خلافته كلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته التي تولى أمر قيادتها، فكان القائد الأعلى للجيش، والفقيه المجتهد الذي يرجع الجميع إلى رأيه، والقاضي العادل النـزيه، والأب الحنون الرحيم بالرعية صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها، والصادق المؤمن بالله ورسوله، والسياسي المحنك المجرب، والإداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمة، وتوطدت في عهده دعائم الدولة الإسلامية، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وتمّ فتح بلاد الشام ومصر من سيطرة الروم البيزنطيين، ودخل الإسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربية، وكانت خلافته سداً منيعاً أمام الفتن، وكان عمر نفسه باباً مغلقاً لا يقدر أصحاب الفتن الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده. حج عمر رضي الله عنه سنة 23هـ فلما نفر من منى أناخ بالأبطح، فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كُبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيّتي، فأقبضني غير مضيِّع ولا مفرط، ثم قدم المدينة. وآخر خطبة جمعة خطبها في المدينة قال فيها: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي. رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين! وإن قوماً يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي! وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجَل بي أمر، فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض!. وقبل استشهاد الفاروق بأربعة أيام أي يوم الأحد 23 من ذي الحجة قابل الصحابيين حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف رضي الله عنهما، وكان قد وظَّفَ حذيفة ليقدِّرَ خراج الأرض التي تُسقى بماء نهر دجلة، ووظَّفَ سهل بن حنيف ليقدِّر خراج الأرض التي تسقى بماء نهر الفرات. وقال لهما: كيف فعلتما؟ أخاف أن تكونا قد حمَّلتما الأرض ما لا تطيق. قالا: حمّلناها أمراً هي له مطيقة. فقال عمر: لئن سلّمني الله، لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتَجْنَ إلى رجل بعدي أبداً، ولكنه طعن في اليوم الرابع من هذه المحاروة بينه وبينهما. كان عمر رضي الله عنه لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس، ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيئون للتآمر والكيد ضده، ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين، ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة على كره منه، ووقع ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه. وفي قصة مقتله رضي الله عنه قال عمرو بن ميمون: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مرّ بين الصفين قال استووا، فإذا استووا تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه للصلاة بالناس، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع، قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك يريد العباس، تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله إن شئت، فعلت، أي: إن شئت قَتَلنا. قال: أخطأت بعدما تكلموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجّكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأُتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وقال: يا عبد الله بن عمر انظر، ما عليّ من الدَّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلِق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه. فسلّم عبد الله بن عمر واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك. فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه. قال أبو رافع رضي الله عنه: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليَّ غلتي، فكلِّمه أن يخفف عني. فقال عمر: اتق الله وأحسن إلى مولاك، ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه يخفف عنه، فغضب العبد، وقال: وسِع كلهم عدله غيري؟! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمّه، ثم أتى به الهُرْمُزان، فقال: كيف ترى هذا؟ قال: أرى أنك لا تضرب به أحداً إلا قتلته. قال: فتحين أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء عمر، وكان عمر إذا أقيمت الصلاة يتكلم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلما كبَّر، وجأه أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأة في خاصرته، فسقط عمر، قال عمرو بن ميمون رحمه الله: سمعته لما طعن يقول: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا). قال ابن عباس رضي الله عنه: دخلت على عمر حين طُعنْ، فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيداً، فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع. استشهد رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، وصلى عليه صهيب بن سنان، ونزل قبره عثمان وسعيد بن زيد، وصهيب، وعبد الله بن عمر. لقد كان هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرض ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها في المسجد وعمر يؤم الناس لصلاة الصبح، ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم. يقول عمرو بن ميمون: وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، ويذهب ابن عباس ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إنه ما مرّ بملأ إلا وهم يبكون وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم، لقد كان عمر رضي الله عنه مَعلَماً من معالم الهدى، وفارقاً بين الحق والباطل، فكان من الطبيعي أن يتأثر الناس لفقده، وهذا الأثر يوضح شدة تأثر الناس عليه. كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما يُذكر له عمر يبكي حتى تبتل الحصى من دموعه ثم يقول: إن عمر كان حصناً للإسلام يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام. إن كان من وقفة في مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد المجوسي أبي لؤلؤة فإنها الدلالة على طبيعة الكفار في كل زمان ومكان، قلوب لا تضمر للمسلمين إلا الحقد والحسد والبغضاء، ونفوس لا تكن للمؤمنين إلا الشر والهلاك والتلف، ولا يتمنون شيئاً أكثر من ردة المسلمين عن دينهم وكفرهم بعد إسلامهم، وإن الذي ينظر جيداً في قصة مقتل عمر رضي الله عنه وما فعله المجوسي الحاقد أبو لؤلؤة يستنبط منها أمرين مهمين، يكشفان الحقد الذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه عمر وتجاه المسلمين: الأمر الأول: أنه قد ثبت في الطبقات الكبرى لابن سعد بسند صحيح إلى الزهري، أن عمر رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أُحدّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح، فالتفت إليه المجوسي عابساً وقال: لأصنعنّ لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد. الأمر الثاني: الذي يدل على الحقد الذي امتلأ به صدر هذا المجوسي أنه لمّا طعن عمر رضي الله عنه، طعن معه ثلاثة عشر صحابياً استشهد منهم سبعة، ولو كان عمر رضي الله عنه ظالماً له فما ذنب بقية الصحابة الذين اعتدى عليهم؟!، ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له. وهذا المجوسي أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإسلام ببناء مشهد تذكاري له في مدينة كاشان الإيرانية، فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية (مرقد بابا شجاع الدين)، وبابا شجاع الدين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب، وهذا المشهد يُزار من قبل الشيعة وتُلقى فيه الأموال والتبرعات. عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي، فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياء من عمر. وروي عن سعيد بن زيد أنه بكى عند موت عمر فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام، إن موت عمر ثَلَمَ الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة. قال أبو طلحة الأنصاري: والله ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم. الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد [/font:1b5b descriptionرد: المبشرون بالجنة .. أبا حفص .. الفاروق .. عمر بن الخطاب رضي الله عنه ...الخميس 15 سبتمبر 2011 - 19:56مشكور على موصوع descriptionرد: المبشرون بالجنة .. أبا حفص .. الفاروق .. عمر بن الخطاب رضي الله عنه ...الخميس 15 سبتمبر 2011 - 20:44السلام عليكم العفو و شكرا على المرور بالتوفيق للجميع privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى: لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى |
جميع الحقوق محفوظة لدليل الاشهار العربي