فضائل معاوية بن أبي سفيان
مدون الوحي وكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم
مدون الوحي وكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد
قَضى الله بحِكمته أن يكونَ لنبيِّه المصطفى المختار - صلَّى الله عليه
وسلَّم - صحبٌ كرام، ورجال أفذاذ، هم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، وهم الذين
حملوا رسالةَ هذا الدِّين وبثِّها في أصقاع المعمورة، واختصَّهم الله -
سبحانه - بصحبة نبيِّه الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولولا انفرادُهم
بالأفضلية والخيرية، لَمَا اختيروا لهذه الصُّحبة العظيمة، والتي هي أجلُّ
مرافقة على مرِّ العصور؛ كيف لا، وهي مرافقةُ أفضلِ الخَلق وأكرمهم؟!
روى
أحمد عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنَّه قال: "إنَّ الله نظر في
قلوب العِباد فوجد قلبَ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرَ قلوب
العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثمَّ نظر في قلوب العِباد بعدَ
قلب محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب
العِباد، فجعلهم وُزراءَ نبيِّه، يقاتلون على دينه"، ومن المؤسِف أن يقع
البعضُ في الصحابة الأخيار، وأن ينال ممَّن صحبوا الرسول الكريم - صلَّى
الله عليه وسلَّم - وشهد لهم كبارُ هذه الأمَّة بعد رسولها - صلَّى الله
عليه وسلَّم - بالخير والصلاح، ونصَّبوهم المناصبَ العالية في دولتهم،
وسيَّروهم على الجُيوشِ الفاتحة لبلاد العالَم آنذاك.
ومِن هؤلاء الصحابة الكرام: الصحابيُّ الجليل، الخليفة والملك القائد، صاحب الفتوحات الإسلاميَّة، والقائد المحنَّك، وداهيةُ زمانه: معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه وأرضاه.
خالُ المؤمنين، وكاتبُ وحي رسول ربِّ العالمين، وكاتب رسائل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرؤساء القبائل العربيَّة.
روى عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحاديثَ كثيرة؛ في الصحيحين وغيرهما من السُّنن والمسانيد.
شَهِد
حنينًا، وشهد اليمامة، وكان - رضي الله عنه - عاقلاً في دُنياه، لبيبًا
عالِمًا حليمًا، مَلِكًا قويًّا، حسنَ التدبير عاقلاً حكيمًا، فصيحًا
بليغًا، وكان كريمًا باذلاً للمال يَحلُم في موْضع الحِلم، ويشتدُّ في موضع
الشِّدة، إلاَّ أنَّ الحلم كان أغلبَ عليه، وكان يُضرب بحلمه المَثل، قال
ابن عون: "كان الرَّجل يقول لـ معاوية: واللهِ لتستقيمنَّ بنا يا معاويةُ، أو لنُقومنَّك، فيقول: بماذا؟ فيقول: بالخشب فيقول: إذًا نستقيم".
وقال قبيصةُ بن جابر: صحبتُ معاويةَ،
فما رأيتُ رجلاً أثقل حِلمًا، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناةً منه، شهد له
الصحابة بالصُّحبة والفِقه؛ فعن ابن أبي مُليكةَ قال: "أوتر معاويةُ
بعدَ العشاء بركعة، وعنده مولًى لابن عبَّاس، فأتى ابن عبَّاس،
فقال : دعه؛ فإنَّه قد صحب رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛
رواه البخاري.
وعن معاوية
- صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "إنَّكم لتصلُّون صلاةً، لقد صَحبْنا
رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فما رأيناه يُصلِّيها، ولقد نهى
عنهما؛ يعني: الركعتين بعد العصر"؛ رواه البخاري.
قال عنه ابن المبارك - رحمه الله -: "معاوية عندنا مِحنة؛ فمَن رأيناه ينظر إليه شَزرًا اتهمناه على القوم؛ يعني: الصحابة"؛ "البداية والنهاية"، وعن أبي إسحاقَ قال: "كان معاوية؛ وما رأينا بعدَه مثله".
دعا له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((اللهمَّ اجعلْه هاديًا مهديًّا))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وأخرج
أحمد في مسنده عن العِرباض بن سارية - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول
الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((اللهم عَلِّم معاويةَ الكتاب والحساب، وقِهِ العَذاب)).
وأخرج ابن أبي شيبةَ في المصنَّف، والطبرانيُّ في الكبير، عن عبدالملك بن عمير قال: قال معاوية: "ما زِلتُ أطمع في الخِلافة منذ قال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معاويةُ، إذا ملكتَ فأَحسِن)).
قال عنه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : "يذكرون كِسرى وقيصر ودَهاءَهما، وعندكم معاوية!".
ولولا فضلُ معاويةَ
ومكانتُه عند الصحابة، لَمَا استعمله أميرُ المؤمنين عمر خلفًا لأخيه
يزيدَ بعد موته بالشَّام، فكان في الشَّام خليفةً عشرين سنة، وملِكًا عشرين
سنة، وكان سلطانُه قويًّا.
سُئل عبدالله بن المبارك: أيهما أفضل: معاويةُ بن أبي سفيان، أم عمرُ بن عبدالعزيز؟ فقال: والله إنَّ الغُبار الذي دَخَل في أنف معاويةَ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أفضل مِن عُمرَ بألف مرَّة؛ صلَّى معاوية - رضي الله عنه - خَلفَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربَّنا ولك الحمد، فما بعد هذا؟!
عن أبي أُسامة، قيل له: أيُّهما أفضل: معاوية أو عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: "أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يُقاس بهم أحد"، قال الإمام النووي: "وأمَّا معاوية فهو مِن العدول الفضلاء، والصحابة النُّجباء"؛ شرح النووي على صحيح مسلم.
ولَمَّا
مات علي - رضي الله عنه - ذهب الناس إلى الحسنِ بن علي - رضي الله عنهما -
ليبايعوه، فبايعوا الحسن، فتنازل الحسنُ عن الأمر لمعاوية
بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وحَقن دماءَ المسلمين، وحقَّق ما قاله مِن
قبلُ الصادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد جاء في "صحيح
البخاري": أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صَعد يومًا على المنبر، وأجلس
إلى جانبه الحسنَ بن علي، ثم نظر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى
الناس ونظر إلى الحسن، وقال: ((أيُّها الناس، إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، سيصلح
الله به بين فِئتين عظيمتَين مِن المسلمين)).
وكانت خلافة معاوية خيرًا للمسلمين؛ انطفأتِ بها الفِتنة، واجتمع المسلمون على رايةٍ واحدة، وعادتِ الفُتوحات، وسار معاوية
- رضي الله عنه - سِيرةً حسنة بالناس، فقرَّب البعيد، ولم يبقَ في أيَّامه
معارضٌ؛ سوى قلَّة من الخوارج، وفي عهده اشتهر ما يُسمَّى بالصوائف
والشواتي، وهي غزوة الشِّتاء والصيف.
عن
أمِّ حرامٍ: أنَّها سمعت رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول:
((أوَّلُ جيشٍ من أمَّتي يغزون هذا البحرَ قد أوجبوا))، فقالت أمُّ حرامٍ:
يا رسولَ اللَّه، أنا منهم؟ فقال: ((أنتِ منهم))، ثمَّ قال رسولُ اللَّه -
صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوَّل جيشٍ من أمَّتي يغزون مدينةَ قيصر
مغفورٌ لهم))، فقالت أمُّ حرامٍ: يا رسول الله، أنا منهم؟ قال: ((لا))؛
رواه البخاري، قال الحافظ ابن حجر: "قال المهلَّب: في هذا الحديث منقبةٌ لـ
معاويةَ؛ لأنَّه أوَّل مَن غزا البحر، ومنقبةٌ لولده يزيد؛ لأنَّه أوَّل مَن غزا مدينةَ قيصر" ا.هـ.
وفي
عهده أقام دارًا لصناعة السُّفن في مصر، وفتح القسطنطينية، وفتح تكريت،
ورودوس، وبنزرت، وسوسة، وسجستان، وقوهستان، وبلاد السند، وبَنَى القيروان،
وتحوَّلت الخلافة في عهده إلى مُلك؛ فعن سفينة - رضي الله عنه - قال: قال
رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خلافة النبوَّة ثلاثون سنة، ثم
يُؤتِي اللهُ الملكَ مَن يشاء، أو مُلكَه مَن يشاء))؛ رواه الترمذي، وقال
الألباني: حسن صحيح.
ومِن أقواله وحِكمه - رضي الله عنه -: "لا حَكيمَ إلاَّ ذُو تَجرِبَة".
وكان يقول: "كلُّ الناس أَقدِرُ على رضاه، إلاَّ حاسد نعمة؛ فإنَّه لا يُرضيه إلاَّ زوالها"، وكان معاوية - رضي الله عنه - محبًّا لآلِ بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
يقول ضرار بن الحارث الصدائي - أحد أهل العراق من جيش علي بن أبي طالب -: " دخلت على معاويةَ
وهو خليفةٌ بعد ما قُتل أبو الحسن - رضي الله عنه وأرضاه - فعرَف أنِّي من
جيش علي - رضي الله عنه - فقال: يا ضرارُ، حدِّثني عن علي بن أبي طالب،
قال: فتحرَّجتُ أن أحدِّثه؛ لأنَّهما تقاتلاَ، فقلت: اعفني يا أميرَ
المؤمنين، قال: عزمتُ عليك إلاَّ حدَّثتني عن علي؛ فإنِّي أحبُّ الحديث
عنه، قال ضرار: أمَا إنْ سألتني يا أميرَ المؤمنين، فوالله لقد صاحبتُ
عليًّا فوجدته عابدًا عالمًا زاهدًا، والله لقد رأيتُه في اللَّيل الدامس -
أي: المظلم - يقبض على لحيته بيديه، وهو يقول: "يا دُنيا يا دَنية،
طلَّقتُك ثلاثًا، زادُك حقير، وعمرُك قصير، وسَفرُك طويل، آهٍ من قلَّة
الزَّادِ، وبُعدِ السفر، ولقاء الموت!"، فبكى معاوية حتى تغيَّر على جلسائه، وسالت بالدُّموع لحيته، ثم قال: رَحِم الله أبا الحسن، ثم قال: صدق الله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16].
ولَمَّا حضر معاويةَ بن أبي سفيان الموتُ، نزل مِن على كُرسيه، وكشف البِساط، ومرَّغ وجهه بالتراب، وقال: صدق الله: { مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا
وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16].
فينبغي
على كلِّ مسلم - عبادَ الله - عدمُ الخوض فيما دار بين الصحابة، فلا نخوض
فيما شَجَر بينهم؛ بل نتولاَّهم جميعًا - رضي الله عنهم - ونترضَّى عنهم؛
قال - سبحانه -:
{وَالَّذِينَ
جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
وسُئل
عمر بن عبدالعزيز عمَّا وقع بين الصحابة مِن فتنٍ وحوادثَ وحروب، قال:
"تلك أمورٌ سلَّم الله منها سيوفَنا من دمائهم، فلماذا لا نُسلِّم ألسنتنا
من الخوض فيها؟!"
وقال
الإمام أحمد: "ومِن السُّنَّة ذِكْرُ محاسن أصحاب رسول الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - كلِّهم أجمعين، والكفُّ عن الذي شَجَر بينهم، فمن سبَّ أصحاب
رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو واحدًا، فهو مبتدعٌ رافضي،
حبُّهم سُنَّة، والدُّعاء لهم قُربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآرائهم
فَضيلة"؛ السُّنة للإمام أحمد.
أنه كان كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب عنه الوحي الذي أنزل عليه هداية للخلق أجمعين.
ومن المؤكدة عند جميعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يختار لكتابة الوحي ولا غيره عنه إلا من كان عنده أميناً مرضياً.