قال المدائني: ولي عمر بن عبد العزيز عدي بن أرطأة على البصرة نائبًا، وأمره أن يجمع بين إياس والقاسم بين ربيعة الجوشني، فأيهما كان أفقه فليويه القضاء، فقال إياس: وهو يريد أن لا يتولى: أيها الرجل سل فقيهي البصرة الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما، فعرف القاسم أنه إن سألهما أشارا به -يعني القاسم- لأنه كان يأتيهما، فقال القاسم لعدي: والله الذي لا إله إلا هو إن إياسًا أفضل مني وأفقه مني، وأعلم بالقضاء، فإن كنت صادقًا فوله، وإن كنت كاذبًا فما ينبغي أن تولي كاذبًا القضاء، فقال إياس: هذا رجل أوقف على شفير جهنم فافتدى منها بيمين كاذبة يستغفر الله، فقال عدي: أما إذا فطنت إلى هذا فقد وليتك القضاء فمكث سنة يفصل بين الناس ويصلح بينهم، وإذا تبين له الحكم حكم به، ثم هرب إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق فاستعفاه القضاء، فولى عدي بعده الحسن البصري.
قالوا: فلما تولى القضاء بالبصرة فرح به العلماء حتى قال أيوب: لقد رموها بحجرها، وجاء الحسن وابن سيرين فسلما عليه، فبكى إياس وذكر الحديث: «القضاة ثلاث: قاضيان في النار وواحد في الجنة» فقال الحسن: }وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ{ [الأنبياء: 78] إلى قوله: }وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا{ قالوا: ثم جلس للناس في المسجد، واجتمع عليه الناس للخصومات، ثم قام حتى فصل سبعين قضية، حتى كان يشبه بشريح القاضي.
قال إياس: إني لأكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إلي اثنان جمعت لهما عقلي كله.
قال له رجل: إنك لتعجب برأيك، فقال: لولا ذلك لم أقض به.
قال له الآخر: إن فيك خصالاً لا تعجبني، فقال: ما هي؟ فقال: تحكم قبل أن تفهم، ولا تجالس كل أحد، وتلبس الثياب الغليظة، فقال له: أيها أكثر الثلاثة أو الاثنان؟ قال: الثلاثة: فقال: ما أسرع ما فهمت وأجبت فقال: أو يجهل هذا أحد؟ فقال: وكذلك ما أحكم أنا به، وأما مجالستي لكل أحد فلأن أجلس مع من يعرف ليس قدري أحب إلي من أن أجلس مع من لا يعرف لي قدري، وأما الثياب الغلاظ، فأنا ألبس منها ما يقيني لا ما أقيه أنا.
وتحاكم إليه اثنان فادعى أحدهما عند الآخر مالاً، وجحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته قال: عند شجرة في بستان، فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية أنه قال له: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورق منها؟ قال: نعم! قال: فانطلق، وجلس الآخر فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه، ثم استدعاه فقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحكم الله، فقال له: قم يا عدو الله فأد إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، وجاء ذلك الرجل فقام معه فدفع إليه وديعته بكمالها.
وتحاكم إليه اثنان في جارية فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس: أي رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ولدت؟ فقالت: نعم، فقال للبائع: رد، رد.
وروى ابن عساكر أن إياسًا سمع صوت امرأة من بيتها فقال: هذه امرأة حامل بصبي، فلما ولدت، ولدت كما قال، فسئل بم عرفت ذلك؟ قال: سمعت صوتها ونفسها معه فعلمت أنها حامل، وفي صوتها ضحل فعلمت أنه غلام([1]).
***
-------------------------------------
([1]) البداية والنهاية (10/303-306)، تاريخ بغداد (5/176-178).