ثورة تونس, ثورة لا تشبه سواها
بداية,نبعث من القلب الاف باقات الورود لشعب تونس البطل, شعب التضحيات والشجاعة
الباهرة, نشكر ثورته التي اعادت لنا املاً كدنا ان نفقده للابد في الشعوب
العربية, بل كدنا ان نقرأ السلام على شعوب تتخبط بالفقر والجهل والقهر
والحرمان رغم ان اغلب رؤسائها وملوكها منشغلون بأمراضهم الجسدية والنفسية
وترقيع قلوبهم وتجميل جلودهم وإملاء خزائنهم وحسابات زوجاتهم بالذهب,
تاركين الشعوب بمعاناتها.
انها ثورة لايمكننا ان نقارنها بسواها من الثورات التي مرت بتاريخ تونس او
غيرها من البلدان العربية, فرغم انها تشترك مع اغلب الثورات الشعبية في
صرخة ألم الشارع المحروم الذي اوقد شعلتها, ورغم انها عفوية لكنها لم تكن
ثورة عشوائية, فقد ابتدأت بشرارة التضحيات التي قدمها فقراء اولهم محمد بو
العزيزي الذي احرق نفسه احتجاجا على الظلم وغيره من الذين واجهوا رصاص
النظام السابق. انها ثورة وطنية وانسانية بحته, فهي لم تخرب البنى, ولم
تحرق المؤسسات ولم يتسن للعشوائيين وفلول النظام البائد الاندساس بها
والسيطرة عليها, بل كان الشعب التونسي واعيا لاعمالهم وحذرا من انتشارها,
مما حاصر اعمال التخريب ومنع وصولها الى بقية مناطق البلاد, وهكذا حافظ على
بقاء الدولة والقانون ليساعد على عدم الانهيار وعدم سيادة الفوضى والخراب.
من هنا هي ثورة لا تشبه سواها في العالم العربي الذي اعتاد على فوضى
الغوغاء وسيطرتها في انتفاضاته وثوراته غالبا, فقد حاولت العصابات المتآزرة
مع النظام السابق تشويه الثورة بالقيام باعمال التخريب من سلب ونهب
للمتاجر واحراق السيارات واطلاق الرصاص بشكل عشوائي, لكنها لم تفلح في طبع
الثورة بطابعها التخريبي, وظلت العصابات المتشددة بعيدة لم تستطع خطف
الثورة من ابنائها الشرفاء.
وهنا نتمنى على الشعب التونسي الانتباه الى نقاط هامة جدا لمستقبل ثورته العظيمة وهي:
• لابد من استرجاع الاموال المسروقة من الشعب وملاحقتها دوليا, كي لايتسنى
لسراق الشعب القدامى من اعوان النظام السابق استعمالها ضده بشراء الذمم كما
حصل مع سارقي الشعب العراقي وامواله من الصداميين الذين وظفوها للقيام
باعمال التخريب والقتل والتفجيرات واحراق المؤسسات والعبث بأمان المواطن
واشاعة القتل المنظم والاغتيالات ونشر الرعب والارهاب بالاشتراك مع مجرمي
القاعدة الذين توحدوا معهم حتى اليوم كي يعرقلوا بناء الوطن.
• الامر الاخر هو إبعاد المتنفذين في النظام السابق وإقصاء رموزه وحزبه عن
المساهمة في السلطة, فمجرم الماضي لا يمكن ان يكون نبي اليوم مهما اقسم,
ومهما ارتدى لباس الفضيلة, لان مصالحه التي ضربت تشده الى ما اعتاد عليه.
وبالمقابل لابد من فسح المجال ومنح الثقة لناشطي حقوق الانسان من المناضلين
الشرفاء المعروفين أمثال الدكتور "منصف المرزوقي" الشخصية الوطنية التي
عانت كثيرا من جور النظام السابق, والذي يعرف معاناة الرجل التي تدمي القلب
وما لاقاه من قبله والده من التهميش والعذاب والعيش في المنافي طوال عقود
من اجل تونس. وهناك شخصيات جديرة بالثقة من الوطنيين التونسيين الاحرار في
داخل تونس وخارجها هم اهلاً لقيادة البلاد واكثر صدقا من الوجوه التي جربها
الشعب والتي كانت تخدم الدكتاتور المعزول.
• محاكمة رموز النظام السابق محاكمة عادلة وعلنية كي تؤكد الثورة على
مباديء حقوق الانسان التي تستطيع بناء نظام يقوم على أساس العدالة
الاجتماعية ورفض الظلم الذي قد يرتكب بسبب المبالغة بالمشاعر الوطنية التي
تفجرت اثناء الثورة والتضحيات التي اشعلت فتيلها.
•
تحصين الثورة من اختراق القوى الظلامية لها, في عالم عربي يطغى عليه طابع
التعصب الذي انتشرت وكبرت فيه الحركات الاسلامية المتشددة, والتي كثيرا
ماتستغل الفراغ السياسي لتصبغ المجتمع بلون التخلف حيث تجد ارضية سهلة لها
من الفقر واليأس لدى الجماهير التي تشكل النسبة الغالبة مما يؤثر على
تحقيق طموحات الشعب التونسي ورغبته في حياة حرة, كريمة جديرة بقول الشابي
وهو أحد ابنائه البررة:
اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر.
قد يسخر الشعب التونسي من الخوف على ثورته, اذ هو قد عرف طريقه الصحيح وقدم
التضحية بغضب المظلوم, وبمعرفة العارف, وبثقة مالك الحق, وهذه مقومات نجاح
لكل ثورة بل هي اسباب لابد وان تزول معها كل المخاوف..
ولكن..
اتت مخاوفي من وضع عام في العالم العربي. وهذا اكبر المخاوف التي تجعلني
اضع كفي على القلب وانتظر ان يخرج الشعب التونسي بقرارات اختيار حكومة
وطنية ديمقراطية حقا وبسرعة قبل ان تنجح الجهات الاجرامية من اعداء تونس
لتندس بين صفوف ابنائه وتصبح واقعا لايمكن تجاوزه, فهناك قوى خارجية تتمنى
ان تخلط السياسة بالدين في العالم العربي ليقينها التام بأن هذا الخلط قادر
على انهاء البلدان من الداخل خاصة حينما تلعب على وتر حساس كقضية المرأة
ومساواتها مع الرجل حيث القانون التونسي الوحيد الذي يساوي المرأة بالرجل
في الحقوق المدنية في العالم العربي, وهذا مكتسب اتمنى ان يحافظ عليه شعب
تونس الأبي والرافض للظلم بكل اشكاله, خاصة وقد رأيت اليوم مجموعة من
النساء المرتديات الزي الإسلامي جميعا وهن يتظاهرن في تونس وهذا منظر غريب
في شوارع تونس مما يزيد مخاوفنا اكثر ان تختطف الثورة من قبل اعداء تونس.
اخيرا, أتمنى ان تنتهي مخاوفنا بانتهاء الأخطار المحدقة بهذه الثورة
الشعبية وان ترسم تونس محلامحها التي تنسجم مع تطلعات شعبها الحر الذي يتوق
للانعتاق الابدي من ربقة الجوع والجهل والتخلف.
بقلم: بلقيس حميد حسن