الفصـل التـاسـع
قضاة إسـرائيل المجرمون..
مــن ابن زانية.. إلى قاطع طريـق..
إلى قاتل الأخـوة السبعين
قضاة إسـرائيل المجرمون
مــن ابن زانية.. إلى قاطع طريـق
إلى قاتل الأخـوة السبعين
سفر يكذب سفرا.. هذا هو شأن التوراة في أسفارها فقد قرأنا في سفر يشوع أخبارا ضخمة "عن حروب إسرائيل وانتصاراتها في فلسطين، واحتلالها المدن والسفوح والقرى، والسهل والجبل والساحل"، وكانت التفاصيل مدعاة للذهول والعجب، وكأنها أشبه ما تكون بالحروب النازية في عهد هتلر حينما اجتاح أوروبا بحرب خاطفة في غضون بضعة أشهر في الأربعينات من هذا القرن.
وكذلك كانت حروب إسرائيل، فيما سردته التوراة خاطفة صاعقة، جميع الشعوب "ضربوا بحد السيف ولم يبق منهم شارد ولا منفلت"، والملوك الواحد والثلاثون قضي عليهم جميعا ودمرت مدنهم وتم احتلالها من أريحا، إلى عاي، إلى مقيدة، إلى لبنة، إلى لخيش إلى جازر، إلى عجلون، إلى حبرون، إلى.. آخر القائمة.
هذا هو تلخيص لسفر يشوع في كلمات قليلات.. ويأتي بعده سفر آخر اسمه سفر القضاة لا ليكذب بصورة قاطعة جميع ما ورد في سفر يشوع، فحسب، ولكن ليثبت أن أهل البلاد لا يزالون على قيد الحياة، وأن مدنهم باقية على حالها، وأن أهلها يسكنون فيها، ويمتلكون أرضهم.. بل إنهم يقاومون ويحاربون، وينتصرون على بني إسرائيل، ويهزمونهم المرة بعد المرة.. بكل شجاعة وبسالة.. وكل ذلك وارد في سفر القضاة..
وقد سمي سفر القضاة، لأنه بعد وفاة يشوع، تولى أمور بني إسرائيل شيوخهم وسموا قضاة لأنهم كانوا يفصلون المنازعات بينهم، ويلجأون إليهم لتخليصهم من أيدي أهل البلاد: من الفلسطينيين.. وقد أوردت التوراة ذكرهم عشرات المرات.
وكان عدد هؤلاء القضاة أربعة عشر، من أشهرهم شمشون الجبار، وصموئيل المدفون في "النبي صموئيل" إحدى القرى العربية في شمال بيت المقدس..
وسفر القضاة، في مجمله، يسجل مخازي بني إسرائيل، وانحرافهم عن جادة الحق، وعكوفهم على عبادة الأوثان واستنجادهم في كل مرة بالقضاة ليخلصوهم من الفلسطينيين.
وعبارة "يخلصونهم من الفلسطينيين" وردت عدة مرات في سفر القضاة على لسان بني إسرائيل حين يفزعون إلى قضاتهم يطلبون منهم أن يحاربوا عنهم ويدفعوا عنهم هجمات الفلسطينيين.
ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام سفر القضاة لنرى الهزائم التي حلت ببني إسرائيل في عهد القضاة، والمعارك البطولية التي خاضها الفلسطينيون دفاعا عن أرضهم.
وأول ما يطالعنا الإصحاح الأول من سفر القضاة،أن بني إسرائيل قد صعدوا،بأمر الرب، ليحاربوا الكنعانيين فضربوا منهم عشرة آلاف رجل، وأمسكوا بمليكهم "ادوني" وأخذوه إلى أورشليم ومات هناك. ثم حارب بنو إسرائيل "أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار.. وحاربوا الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل، وساروا على الكنعانيين الساكنين في حبرون.. ومن هناك على سكان دبير.. ثم ضربوا الكنعانيين سكان صفاة... وأخذوا غزة وتخومها وأشقلون وتخومها وعقرون وتخومها".
والذي يقرأ سفر يشوع والمواقع الحربية التي خاضها بنو إسرائيل تحت قيادته يرى أن هذه البلاد قد تم احتلالها وتدميرها في عهد يشوع وأنها قد أصبحت حجرا على حجر. وكذلك فإن سفر القضاة يكذب سفر يشوع في جانب آخر له أهميته بالنسبة لأهل البلاد، "سكان الأرض" حسب تعبير التوراة.
فها نحن نقرأ في سفر القضاة أن "بني القيني" وهم أصهار موسى، عرب مدين، صعدوا من مدينة النخل "وسكنوا مع بنى إسرائيل". وأن بني إسرائيل لم يطردوا "سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد" وأنهم لم يقدروا عليهم.. وأن بني إسرائيل لم تكن لديهم هذه الأسلحة المتقدمة المتطورة: مركبات الحديد.
وما هو أبلغ من ذلك، بالنسبة إلى بيت المقدس، يقول الإصحاح الأول أن بني إسرائيل "لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم وسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم". ولنذكر دائما أن عبارة "هذا اليوم" كلما وردت في التوراة فإنها تعني ألف عام بعد الحدث.. لأن التوراة كتبت بعد ألف عام من هذه الأحداث.. كما سنرى في فصل لاحق.
ثم تأتي بعد ذلك عبارة عامة تفيد أن أهل البلاد قد بقوا فيها وعاشوا في مدنهم وقراهم وأرضهم.. فتقول العبارة "ولم يطرد بنو إسرائيل أهل بيت شان (بيسان) وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان بلعام وقراها، ولا سكان مجدو وقراها، ولا سكان جازر ولا سكان قطرون، ولا سكان نهلول، ولا سكان عكو ولا سكان صيدون وأحلب واكزيب وحلبة وافيق ورحوب ولا سكان بيت شمس ولا سكان بيت عثاة. وسكن الكنعانيون في وسط هذه البلاد.. وكان لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردهم طردا" وعلى ذلك فإن أقصى ما استطاع بنو إسرائيل أن يحققوه في البلاد أنهم فرضوا الجزية على أهلها، وهؤلاء لم يغادروها وامتدت إقامتهم على هذا الحال قرونا وقرونا..
وهذه المواقع كلها هي أسماء مدن وقرى في فلسطين وما حولها من بلاد الشام.. وبصددها كلها تعترف التوراة أن الكنعانيين "الفلسطينيين" كانوا يسكنون فيها.. ويتساءل المرء بعد ذلك وهل بقيت بقعة من أرض كنعان، لم تكن مسكونة من قبل الفلسطينيين.
وبعد هذا التعميم، يأتي سفر القضاة ليعطي صورة الجانب الآخر.. الجانب الإسرائيلي. وهنا يقول الإصحاح الثالث في سفر القضاة "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين" وهؤلاء الأقوام هم الذين قال سفر يشوع أن بني إسرائيل قد أبادوهم إلى آخر نسمة وبحد السيف. وها نحن نراهم يبعثون أحياء في سفر القضاة، ويسكن بنو إسرائيل في وسطهم.
وتأتي التوراة بعد ذلك لتسرد سيرة القضاة واحدا بعد واحد، ثم تفصل حرب الخلاص التي قام بها هذا القاضي أو ذاك ليخلص بني إسرائيل من سيطرة أهل البلاد.
وتبدأ التوراة بسيرة القاضي الأول ابن قناز فتعترف أن ملك آرام النهرين قد استولى على بني إسرائيل، وأخضعهم وأذلهم ثماني سنين.. وأن بني إسرائيل قد صرخوا إلى الرب فأقام لهم من يحارب لهم ويخلصهم – وهو ابن قناز – "واستراحت الأرض أربعين سنة، ومات ابن قناز".
وتأتي سيرة القاضي الثاني ابن جيرا وتعترف التوراة بأن ملك مؤآب ومعه بنو عمون والعمالقة، "ضربوا بني إسرائيل وامتلكوا مدينة النخل" وأخضعوهم لثماني عشرة سنة.. فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام لهم ابن جيرا مخلصا لهم فحارب لهم وضرب الموآبيين "ولم ينجُ أحد، وذُل الموآبيون تحت يد إسرائيل واستراحت الأرض ثمانين سنة".. ونسبت إليه التوراة أسطورة تافهة تزعم أنه ضرب من الموآبيين عشرة آلاف رجل ولم ينجُ أحد.
وجاء بعده القاضي الثالث، كما تقول التوراة، بن عناة، "فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر وهو أيضا خلص إسرائيل" ولم تذكر التوراة تفاصيل الحرب.
وتفاجئنا التوراة بعد ذلك بقاضية امرأة هي النبية دبورة، وهنا يسرد الإصحاح الرابع أن "بابين ملك كنعان ورئيس جيشه سيسرا" استطاعا أن يخضعا بني إسرائيل، "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، لأن ملك كنعان ضايق بني إسرائيل بشدة مدة عشرين سنة، وكان له تسع مائة مركبة من حديد".. وفي قصة طويلة فقد انتهى الأمر بأن "يد بني إسرائيل أخذت تتزايد وتقوى على ملك كنعان حتى قوضوا ملك كنعان" وقد أورد الإصحاح الخامس ترنيمة دبورة وهي تتغنى بالخلاص الذي حققته لبني إسرائيل.. الخلاص من سيطرة الكنعانيين!! وانتهى الإصحاح بالقول "واستراحت الأرض أربعين سنة" قالت التوراة هذه العبارة وكأنها تتنفس الصعداء.
ويسجل لنا الإصحاح السادس أن "مديان قد اشتدت يده على بني إسرائيل فأخضعوهم على مدى سبع سنين. وأن بني إسرائيل قد بنوا لأنفسهم الكهوف التي في الجبال والمغاير والحصون" حتى ينجوا بجلودهم..
ويتجلى من كلام التوراة أن بني إسرائيل قد منوا بواحدة من أكبر الهزائم التي لحقت بهم في حروبهم مع أهل البلاد.. ففي عبارة حزينة تصرخ بالألم والشكوى يقول الإصحاح المذكور "وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق يصعدون عليهم ويتلفون غلة الأرض.. إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لجمالهم عدد. ودخلوا الأرض لكي يخربوها.. فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين" وأين هذه الوقائع مما كتبه سفر يشوع عن الأمم التي أبيدت، والمدن التي أحرقت، والمواشي التي نهبت، على يد بني إسرائيل، ها نحن نرى بني إسرائيل في سفر القضاة وقد ذلوا وهلكوا هم ومواشيهم وزروعهم.
وكالعادة تقول التوراة، وصرخ بنو إسرائيل فأقام لهم جدعون قاضيا وقائدا فكان هو القاضي الخامس "وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق كالجراد من الكثرة.. وجمالهم لا عدد لها كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة".
وفي قصة طويلة، مليئة بالخزعبلات والخرافات تقول التوراة أن جدعون انتصر على المديانيين وأهلك منهم "مائة وعشرين ألف رجل مخترطي السيف وقتلوا ملوكهم"، ثم تذكر التوراة بعد ذلك بفخر واعتزاز أنه "زنى كل إسرائيل هناك (!!) وذل مديان أمام بني إسرائيل ولم يعودوا يرفعون رؤوسهم واستراحت الأرض أربعين سنة في أيام جدعون". ولم تجد التوراة ما تفاخر به في ختام هذه الحرب إلا أن تقول أن بني إسرائيل كلهم قد زنوا هناك!!
وبعد جدعون تولى ابنه أبيمالك منصب القضاء، فكان هذا القاضي كما وردت سيرته في التوراة، من كبار المجرمين، فقد بدأ حياته القضائية بأن "استأجر رجالا بطالين طائشين فسعوا وراءه. ثم جاء إلى بيت أبيه وقتل إخوته سبعين رجلا على حجر واحد"، ولم يبق من إخوته إلا الأصغر فقد كان مختبئا.. واجتمع بنو إسرائيل كما يقول الإصحاح التاسع من سفر القضاة فذهبوا وجعلوا أبيمالك ملكا.. وترأس أبيمالك على إسرائيل ثلاث سنين.. وحدثت فتنة في البلاد بين أنصار أبيمالك وخصومه، وانتهى الأمر بقتل هذا القاضي، قاتل الأخوة السبعين.. وذلك كله هو كلام التوراة..
وبعد هذا القاضي المجرم قام لإسرائيل قاض آخر هو ابن دودو وقضى لإسرائيل ثلاثا وعشرين سنة، ولم تذكر التوراة له خبرا.. وجاء بعده الجلعاوي وقضى لإسرائيل اثنين وعشرين سنة، ولم تذكر له التوراة خبرا إلا أنه "كان له ثلاثون ولدا يركبون على ثلاثين جحشا ولهم ثلاثون مدينة".
وفي هذه الحقبة الزمنية تطلع التوراة على القارئ بسيرة قاض آخر اسمه يفتاح، فقد اختاره بنو إسرائيل، كعادتهم، ليخلصهم من أعدائهم الفلسطينيين ذلك أن بني عمون، كما تقول التوراة قد تغلبوا على بني إسرائيل "فحطموا ورضضوا بني إسرائيل ثماني عشرة سنة" كما يقول الإصحاح العاشر، وتضيف التوراة "أن بني عمون عبروا الأردن ليحاربوا بني إسرائيل".
ثم تقول التوراة أن يفتاح نذر للرب إذا نصره على بني عمون "أن يذبح أول من يخرج من بيته للقائه حين يعود بالسلامة" قربانا للرب.
وعاد يفتاح إلى بيته "وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص" فرحا بانتصاره، وكانت وحيدته فمزق ثيابه وذكر لها نذره للرب وقالت له أوف بنذرك ولكنها استأذنت والدها فذهبت لشهرين هي وصاحباتها إلى الجبال لتبكي عذرتها ثم عادت.
وهكذا وفْى يفتاح بنذره وأحرق ابنته قربانا للرب. ولم يكن غريبا على هذا القاضي أن يقوم بهذا العمل الوحشي، لأنه "ابن امرأة زانية" كما تقول التوراة في صدر الإصحاح الحادي عشر من سفر القضاة..
وبعد يفتاح قضى لإسرائيل ثلاثة لم يكن لهم شأن ولم تذكر التوراة لهم خبرا إلا الثالث وهو عبدون الفرعتوني فقد كان له "أربعون ابنا وثلاثون حفيدا يركبون على سبعين جحشا، وقضى لإسرائيل ثماني سنين" وهذا هو ما يورده الإصحاح الثاني عشر.
وفي عهد هؤلاء القضاة المغمورين، استولى الفلسطينيون على بني إسرائيل وجعلوهم تحت سلطانهم، وتقول التوراة في بداية الإصحاح الثالث عشر أن "بني إسرائيل عادوا يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة".. ووراء هذا الكلام الموجز الذي تذكره التوراة باستحياء يبدو واضحا أن انتصارات إسرائيل التي هللت لها التوراة في سفر يشوع لم تكن إلا مجرد أكاذيب وأباطيل.
ثم تتعالى التوراة، بعد أن فرغت من مسيرة القضاة السابقين، فتبرز للقارئ قصة أشقى الأشقياء في حياة بني إسرائيل، وهي قصة شمشون الجبار التي جعلت منها الدعاية الصهيونية قصصا بطولية، وأفلاما سينمائية، وأناشيد عالمية كأنما الإنسانية في تاريخها الطويل لم تلد بطلا عملاقا إلا شمشون الجبار.. ولو أننا قرأنا التوراة بصبر وإمعان لوضح لنا أن شمشون الجبار لم يكن إلا قاطع طريق وانتهى..
وشمشون الجبار كما تقول التوراة، هو ابن امرأة عاقر، جاءها ملاك الرب وبشرها بمولده وطلب إليها أن "لا تعلو موسى رأسه لأن الصبي يكون نذرا للرب من البطن وهو يخلص بني إسرائيل من الفلسطينيين.. وولدت المرأة ابنا ودعت اسمه شمشون وكبر الصبي وباركه الرب".
وتقول التوراة بعد ذلك أن "شمشون رأى امرأة من بنات الفلسطينيين وطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها له امرأة.. وقال له أبوه وأمه أليس في بنات أخوتك وفي كل شعبي امرأة حتى أنك ذاهب لتأخذ امرأة من الفلسطينيين (غير المختونين)".
ولكن شمشون، كما تقول التوراة، قال لأبيه خذ لي الفتاة الفلسطينية "لأنها حسنت في عيني"، وتضيف التوراة قولها: "ولم يعلم أبوه وأمه أن ذلك من الرب لأنه كان يطلب علة على الفلسطينيين (!!) وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل".
ومعنى هذا الكلام بكل بساطة أن "الرب" يدبر مكيدة للفلسطينيين، ولا بد له أن يبحث عن "علة" ويجب أن تكون هذه البنت الفلسطينية هي العلة.. للتحرش بالفلسطينيين والاعتداء عليهم.
وتسرد التوراة بعد ذلك الأسطورة المضحكة.. كيف أن شمشون شق الأسد بيديه كما يشق الجدي.. وكيف امتلأ (جوف الأسد) بالعسل إلى آخر الأسطورة التي لا تستحق التلخيص لتفاهتها، ثم تنتقل التوراة إلى الخلاف الذي جرى بينه وبين حميه وكيف "صارت امرأة شمشون لصاحبه الذي كان يصاحبه".
وكان من نتيجة هذا الخلاف بينه وبين زوجته الفلسطينية أن قال شمشون لوالدها.. "إني بريء الآن من الفلسطينيين إذا عملت بهم شرا". وكان هذا التبرير التوراتي للعدوان على الفلسطينيين.
وكان الشر الذي عمله شمشون هو ما يفعله قطاع الطرق العريقون في الإجرام.. إذ تقول التوراة في وصف جريمته البشعة "ذهب شمشون وأمسك ثلاث مائة ابن آوى وأخذ مشاعل وجعل ذنبا إلى ذنب ووضع مشعلا بين كل ذنبين في الوسط ثم أضرم المشاعل نارا وأطلقها بين زروع الفلسطينيين فأحرق الأكداس والزرع وكروم الزيتون.. فقال الفلسطينيون من فعل هذا.. فقالوا شمشون صهر الفلسطيني لأنه أخذ امرأته وأعطاها لصاحبه..".
وخاف بنو إسرائيل أن يثأر الفلسطينيون فقبضوا على شمشون وأوثقوه وأسلموه إلى الفلسطينيين واستطاع شمشون، فيما تروي التوراة في الإصحاح الخامس عشر أن "يحل وثاقه ووجد لحي حمار طريا فمد يده وأخذه وضرب به ألف رجل من الفلسطينيين".
وتمضي التوراة في سرد أخبار هذا السفاح فيقول الإصحاح السادس عشر، أن شمشون "ذهب إلى غزة ورأى هناك امرأة زانية فدخل إليها.. واضطجع شمشون إلى نصف الليل".. ثم خرج.. "وكان بعد ذلك أن أحب امرأة اسمها دليلة". وتأتي بعد ذلك حكاية دليلة وكيف أنها احتالت عليه وعرفت أن سر قوته هو في ضفائر شعره.. وكيف أن "أقطاب الفلسطينيين عرفوا سر قوته وقبضوا عليه وقلعوا عينيه وأودعوه في السجن".. وكيف انتهى الأمر بالنهاية، بأن شعر رأسه بدأ ينبت وعادت إليه قوته.. وقام شمشون يلعب لأهل غزة، وكان على سطح البيت "ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون" وانتهى الأمر بأن "قبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين في البيت وانحنى بقوة على العمودين فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب وهو يقول.. لتمت نفسي مع الفلسطينيين. ومات شمشون وحمله إخوته ودفنوه بعد أن كان قاضيا لإسرائيل عشرين سنة"..
وهكذا فإن قصة شمشون الجبار، لم يكن فيها كما سردتها التوراة، أي معنى من معنى الفخار. إنها سيرة قاطع طريق من الأشرار، أحرق زروع الفلسطينيين وكرومهم بسبب خلاف بينه وبين حميه على امرأته الفلسطينية. وسفر القضاة هذا لم يقتصر على ذكر الآثام والجرائم التي اقترفها القضاة، ولكن عكف على سرد أخبار منافية للأخلاق، تتصل بأفراد عاديين لا شأن لهم في الحياة العامة مما يثبت أن المجتمع اليهودي كله كان غارقا في الموبقات.. والتوراة تذكر لنا إحدى هذه الموبقات..
تقول التوراة في الإصحاح التاسع عشر من سفر القضاة أن رجلا إسرائيليا "اتخذ له امرأة سرية من بيت لحم.. فزنت عليه سريته وذهبت من عنده إلى بيت أبيها في بيت لحم وكانت هناك أربعة أشهر.. وذهب رجلها وراءها ليطيب قلبها ويردها ومعه غلامه وحماران فأدخلته بيت أبيها، وفرح أبوها بلقائه". ومكث الزوج عنده أربعة أيام.. وفي نهاية الضيافة خرج الزوج مع زوجته ليعود بها إلى بيته..
وهنا تقول التوراة بالعبارة والكلمة "قام وذهب وجاء إلى مقابل يبوس، وهي أورشليم، ومعه حماران مشدودان وسريته معه.. وفيما هم عند يبوس والنهار قد طلع قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا".. ولكن قصة الزانية لم تقف عند هذه النهاية، ذلك أن التوراة قد أعدت لها نهاية محزنة تجعلها زانية بالقهر والغلبة، فالتوراة تقول فيما بعد أن رجالا أشرارا من بني إسرائيل قد تابعوا هذه المرأة التعيسة وزوجها ولاحظوا أنهما دخلا بيت رجل عجوز، فما كان منهم إلا "أن أحاطوا بالبيت قارعين الباب.. فخرج إليهم صاحب البيت" وطلبوا إليه أن يخرج الرجل إليهم (للفعل القبيح) فقال لهم الرجل صاحب البيت "يا أخوتي لا تفعلوا شرا.. لا تفعلوا هذه الفاحشة بعد ما دخل هذا الرجل بيتي.. هو ذا ابنتي العذراء وزوجته دعوني أخرجهما فأذلوهما وافعلوا بهما ما يحسن في أعينكم، وأما هذا الرجل فلا تفعلوا به هذا الأمر القبيح.. فلم يرد الرجال أن يسمعوا له.. فأمسك الرجل زوجته وأخرجها إليهم خارجا فعرفوها وتعللوا بها الليل كله إلى الصباح وعند طلوع الفجر أطلقوها" ولكن رب ضارة نافعة، فإن حادثة الزنا هذه قد قادت القصة إلى حقيقة تاريخية هامة، ففي سياق الكلام عن أورشليم اعترفت التوراة بحقيقتين تاريخيتين أساسيتين هما:
أولا: أن يبوس، التي هي أورشليم، هي مدينة اليبوسيين، وهؤلاء هم العرب القدامى الذين استوطنوا بيت المقدس وكانوا أول من بناها وأسسها.
ثانيا: أن بيت المقدس، إلى العهد الذي كتبت فيه التوراة، وهو قبيل السيد المسيح بزمن قصير كانت بلدا غريباً على بني إسرائيل، ولم تكن مدينة إسرائيلية، ولم يكن فيها إسرائيلي واحد.
ذلك ما قالته التوراة في سفر القضاة في الإصحاح التاسع عشر وذلك ما يكذب سفر القضاة في ما قاله في الإصحاح الأول من أن بني إسرائيل قد حاربوا بيت المقدس، وما قاله سفر يشوع من أنهم قتلوا ملكها وتغلبوا على أهلها.. ويبقى بعد ذلك أن نقول ما تقوله التوراة من أن يبوس ليست مدينة إسرائيلية ولم يكن فيها أحد من بني إسرائيل إلى عهد المسيح عليه السلام.
أجل يبقى علينا نحن العرب المسلمين أن نقول ذلك بملء أفواهنا ونؤمن به..
أجل يبقى علينا نحن أن نقول ذلك، ونؤمن به، ونعمل له.. لا أن نسلم بيت المقدس إلى اليهود غرباء اليوم، الذين كانوا كذلك غرباء قبل عهد السيد المسيح، كما تعترف التوراة نفسها.
وبعد فإن سفر القضاة كما رأينا، هو سيرة قضاة أشرار لبني إسرائيل، من قاطع طريق إلى ابن زانية، إلى قاتل الأخوة السبعين.
أولئك هم بنو إسرائيل وأولئك هم قضاتهم، وإذا كان بيجن في خطابه إلى الشعب المصري، يتبجح بسيرة.. أسلافه الأقدمين.. فهذه هي سيرتهم، من توراتهم.. ومن فمك أدينك يا إسرائيل.
قضاة إسـرائيل المجرمون..
مــن ابن زانية.. إلى قاطع طريـق..
إلى قاتل الأخـوة السبعين
قضاة إسـرائيل المجرمون
مــن ابن زانية.. إلى قاطع طريـق
إلى قاتل الأخـوة السبعين
سفر يكذب سفرا.. هذا هو شأن التوراة في أسفارها فقد قرأنا في سفر يشوع أخبارا ضخمة "عن حروب إسرائيل وانتصاراتها في فلسطين، واحتلالها المدن والسفوح والقرى، والسهل والجبل والساحل"، وكانت التفاصيل مدعاة للذهول والعجب، وكأنها أشبه ما تكون بالحروب النازية في عهد هتلر حينما اجتاح أوروبا بحرب خاطفة في غضون بضعة أشهر في الأربعينات من هذا القرن.
وكذلك كانت حروب إسرائيل، فيما سردته التوراة خاطفة صاعقة، جميع الشعوب "ضربوا بحد السيف ولم يبق منهم شارد ولا منفلت"، والملوك الواحد والثلاثون قضي عليهم جميعا ودمرت مدنهم وتم احتلالها من أريحا، إلى عاي، إلى مقيدة، إلى لبنة، إلى لخيش إلى جازر، إلى عجلون، إلى حبرون، إلى.. آخر القائمة.
هذا هو تلخيص لسفر يشوع في كلمات قليلات.. ويأتي بعده سفر آخر اسمه سفر القضاة لا ليكذب بصورة قاطعة جميع ما ورد في سفر يشوع، فحسب، ولكن ليثبت أن أهل البلاد لا يزالون على قيد الحياة، وأن مدنهم باقية على حالها، وأن أهلها يسكنون فيها، ويمتلكون أرضهم.. بل إنهم يقاومون ويحاربون، وينتصرون على بني إسرائيل، ويهزمونهم المرة بعد المرة.. بكل شجاعة وبسالة.. وكل ذلك وارد في سفر القضاة..
وقد سمي سفر القضاة، لأنه بعد وفاة يشوع، تولى أمور بني إسرائيل شيوخهم وسموا قضاة لأنهم كانوا يفصلون المنازعات بينهم، ويلجأون إليهم لتخليصهم من أيدي أهل البلاد: من الفلسطينيين.. وقد أوردت التوراة ذكرهم عشرات المرات.
وكان عدد هؤلاء القضاة أربعة عشر، من أشهرهم شمشون الجبار، وصموئيل المدفون في "النبي صموئيل" إحدى القرى العربية في شمال بيت المقدس..
وسفر القضاة، في مجمله، يسجل مخازي بني إسرائيل، وانحرافهم عن جادة الحق، وعكوفهم على عبادة الأوثان واستنجادهم في كل مرة بالقضاة ليخلصوهم من الفلسطينيين.
وعبارة "يخلصونهم من الفلسطينيين" وردت عدة مرات في سفر القضاة على لسان بني إسرائيل حين يفزعون إلى قضاتهم يطلبون منهم أن يحاربوا عنهم ويدفعوا عنهم هجمات الفلسطينيين.
ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام سفر القضاة لنرى الهزائم التي حلت ببني إسرائيل في عهد القضاة، والمعارك البطولية التي خاضها الفلسطينيون دفاعا عن أرضهم.
وأول ما يطالعنا الإصحاح الأول من سفر القضاة،أن بني إسرائيل قد صعدوا،بأمر الرب، ليحاربوا الكنعانيين فضربوا منهم عشرة آلاف رجل، وأمسكوا بمليكهم "ادوني" وأخذوه إلى أورشليم ومات هناك. ثم حارب بنو إسرائيل "أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار.. وحاربوا الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل، وساروا على الكنعانيين الساكنين في حبرون.. ومن هناك على سكان دبير.. ثم ضربوا الكنعانيين سكان صفاة... وأخذوا غزة وتخومها وأشقلون وتخومها وعقرون وتخومها".
والذي يقرأ سفر يشوع والمواقع الحربية التي خاضها بنو إسرائيل تحت قيادته يرى أن هذه البلاد قد تم احتلالها وتدميرها في عهد يشوع وأنها قد أصبحت حجرا على حجر. وكذلك فإن سفر القضاة يكذب سفر يشوع في جانب آخر له أهميته بالنسبة لأهل البلاد، "سكان الأرض" حسب تعبير التوراة.
فها نحن نقرأ في سفر القضاة أن "بني القيني" وهم أصهار موسى، عرب مدين، صعدوا من مدينة النخل "وسكنوا مع بنى إسرائيل". وأن بني إسرائيل لم يطردوا "سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد" وأنهم لم يقدروا عليهم.. وأن بني إسرائيل لم تكن لديهم هذه الأسلحة المتقدمة المتطورة: مركبات الحديد.
وما هو أبلغ من ذلك، بالنسبة إلى بيت المقدس، يقول الإصحاح الأول أن بني إسرائيل "لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم وسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم". ولنذكر دائما أن عبارة "هذا اليوم" كلما وردت في التوراة فإنها تعني ألف عام بعد الحدث.. لأن التوراة كتبت بعد ألف عام من هذه الأحداث.. كما سنرى في فصل لاحق.
ثم تأتي بعد ذلك عبارة عامة تفيد أن أهل البلاد قد بقوا فيها وعاشوا في مدنهم وقراهم وأرضهم.. فتقول العبارة "ولم يطرد بنو إسرائيل أهل بيت شان (بيسان) وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان بلعام وقراها، ولا سكان مجدو وقراها، ولا سكان جازر ولا سكان قطرون، ولا سكان نهلول، ولا سكان عكو ولا سكان صيدون وأحلب واكزيب وحلبة وافيق ورحوب ولا سكان بيت شمس ولا سكان بيت عثاة. وسكن الكنعانيون في وسط هذه البلاد.. وكان لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردهم طردا" وعلى ذلك فإن أقصى ما استطاع بنو إسرائيل أن يحققوه في البلاد أنهم فرضوا الجزية على أهلها، وهؤلاء لم يغادروها وامتدت إقامتهم على هذا الحال قرونا وقرونا..
وهذه المواقع كلها هي أسماء مدن وقرى في فلسطين وما حولها من بلاد الشام.. وبصددها كلها تعترف التوراة أن الكنعانيين "الفلسطينيين" كانوا يسكنون فيها.. ويتساءل المرء بعد ذلك وهل بقيت بقعة من أرض كنعان، لم تكن مسكونة من قبل الفلسطينيين.
وبعد هذا التعميم، يأتي سفر القضاة ليعطي صورة الجانب الآخر.. الجانب الإسرائيلي. وهنا يقول الإصحاح الثالث في سفر القضاة "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين" وهؤلاء الأقوام هم الذين قال سفر يشوع أن بني إسرائيل قد أبادوهم إلى آخر نسمة وبحد السيف. وها نحن نراهم يبعثون أحياء في سفر القضاة، ويسكن بنو إسرائيل في وسطهم.
وتأتي التوراة بعد ذلك لتسرد سيرة القضاة واحدا بعد واحد، ثم تفصل حرب الخلاص التي قام بها هذا القاضي أو ذاك ليخلص بني إسرائيل من سيطرة أهل البلاد.
وتبدأ التوراة بسيرة القاضي الأول ابن قناز فتعترف أن ملك آرام النهرين قد استولى على بني إسرائيل، وأخضعهم وأذلهم ثماني سنين.. وأن بني إسرائيل قد صرخوا إلى الرب فأقام لهم من يحارب لهم ويخلصهم – وهو ابن قناز – "واستراحت الأرض أربعين سنة، ومات ابن قناز".
وتأتي سيرة القاضي الثاني ابن جيرا وتعترف التوراة بأن ملك مؤآب ومعه بنو عمون والعمالقة، "ضربوا بني إسرائيل وامتلكوا مدينة النخل" وأخضعوهم لثماني عشرة سنة.. فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام لهم ابن جيرا مخلصا لهم فحارب لهم وضرب الموآبيين "ولم ينجُ أحد، وذُل الموآبيون تحت يد إسرائيل واستراحت الأرض ثمانين سنة".. ونسبت إليه التوراة أسطورة تافهة تزعم أنه ضرب من الموآبيين عشرة آلاف رجل ولم ينجُ أحد.
وجاء بعده القاضي الثالث، كما تقول التوراة، بن عناة، "فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر وهو أيضا خلص إسرائيل" ولم تذكر التوراة تفاصيل الحرب.
وتفاجئنا التوراة بعد ذلك بقاضية امرأة هي النبية دبورة، وهنا يسرد الإصحاح الرابع أن "بابين ملك كنعان ورئيس جيشه سيسرا" استطاعا أن يخضعا بني إسرائيل، "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، لأن ملك كنعان ضايق بني إسرائيل بشدة مدة عشرين سنة، وكان له تسع مائة مركبة من حديد".. وفي قصة طويلة فقد انتهى الأمر بأن "يد بني إسرائيل أخذت تتزايد وتقوى على ملك كنعان حتى قوضوا ملك كنعان" وقد أورد الإصحاح الخامس ترنيمة دبورة وهي تتغنى بالخلاص الذي حققته لبني إسرائيل.. الخلاص من سيطرة الكنعانيين!! وانتهى الإصحاح بالقول "واستراحت الأرض أربعين سنة" قالت التوراة هذه العبارة وكأنها تتنفس الصعداء.
ويسجل لنا الإصحاح السادس أن "مديان قد اشتدت يده على بني إسرائيل فأخضعوهم على مدى سبع سنين. وأن بني إسرائيل قد بنوا لأنفسهم الكهوف التي في الجبال والمغاير والحصون" حتى ينجوا بجلودهم..
ويتجلى من كلام التوراة أن بني إسرائيل قد منوا بواحدة من أكبر الهزائم التي لحقت بهم في حروبهم مع أهل البلاد.. ففي عبارة حزينة تصرخ بالألم والشكوى يقول الإصحاح المذكور "وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق يصعدون عليهم ويتلفون غلة الأرض.. إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة وليس لجمالهم عدد. ودخلوا الأرض لكي يخربوها.. فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين" وأين هذه الوقائع مما كتبه سفر يشوع عن الأمم التي أبيدت، والمدن التي أحرقت، والمواشي التي نهبت، على يد بني إسرائيل، ها نحن نرى بني إسرائيل في سفر القضاة وقد ذلوا وهلكوا هم ومواشيهم وزروعهم.
وكالعادة تقول التوراة، وصرخ بنو إسرائيل فأقام لهم جدعون قاضيا وقائدا فكان هو القاضي الخامس "وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق كالجراد من الكثرة.. وجمالهم لا عدد لها كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة".
وفي قصة طويلة، مليئة بالخزعبلات والخرافات تقول التوراة أن جدعون انتصر على المديانيين وأهلك منهم "مائة وعشرين ألف رجل مخترطي السيف وقتلوا ملوكهم"، ثم تذكر التوراة بعد ذلك بفخر واعتزاز أنه "زنى كل إسرائيل هناك (!!) وذل مديان أمام بني إسرائيل ولم يعودوا يرفعون رؤوسهم واستراحت الأرض أربعين سنة في أيام جدعون". ولم تجد التوراة ما تفاخر به في ختام هذه الحرب إلا أن تقول أن بني إسرائيل كلهم قد زنوا هناك!!
وبعد جدعون تولى ابنه أبيمالك منصب القضاء، فكان هذا القاضي كما وردت سيرته في التوراة، من كبار المجرمين، فقد بدأ حياته القضائية بأن "استأجر رجالا بطالين طائشين فسعوا وراءه. ثم جاء إلى بيت أبيه وقتل إخوته سبعين رجلا على حجر واحد"، ولم يبق من إخوته إلا الأصغر فقد كان مختبئا.. واجتمع بنو إسرائيل كما يقول الإصحاح التاسع من سفر القضاة فذهبوا وجعلوا أبيمالك ملكا.. وترأس أبيمالك على إسرائيل ثلاث سنين.. وحدثت فتنة في البلاد بين أنصار أبيمالك وخصومه، وانتهى الأمر بقتل هذا القاضي، قاتل الأخوة السبعين.. وذلك كله هو كلام التوراة..
وبعد هذا القاضي المجرم قام لإسرائيل قاض آخر هو ابن دودو وقضى لإسرائيل ثلاثا وعشرين سنة، ولم تذكر التوراة له خبرا.. وجاء بعده الجلعاوي وقضى لإسرائيل اثنين وعشرين سنة، ولم تذكر له التوراة خبرا إلا أنه "كان له ثلاثون ولدا يركبون على ثلاثين جحشا ولهم ثلاثون مدينة".
وفي هذه الحقبة الزمنية تطلع التوراة على القارئ بسيرة قاض آخر اسمه يفتاح، فقد اختاره بنو إسرائيل، كعادتهم، ليخلصهم من أعدائهم الفلسطينيين ذلك أن بني عمون، كما تقول التوراة قد تغلبوا على بني إسرائيل "فحطموا ورضضوا بني إسرائيل ثماني عشرة سنة" كما يقول الإصحاح العاشر، وتضيف التوراة "أن بني عمون عبروا الأردن ليحاربوا بني إسرائيل".
ثم تقول التوراة أن يفتاح نذر للرب إذا نصره على بني عمون "أن يذبح أول من يخرج من بيته للقائه حين يعود بالسلامة" قربانا للرب.
وعاد يفتاح إلى بيته "وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص" فرحا بانتصاره، وكانت وحيدته فمزق ثيابه وذكر لها نذره للرب وقالت له أوف بنذرك ولكنها استأذنت والدها فذهبت لشهرين هي وصاحباتها إلى الجبال لتبكي عذرتها ثم عادت.
وهكذا وفْى يفتاح بنذره وأحرق ابنته قربانا للرب. ولم يكن غريبا على هذا القاضي أن يقوم بهذا العمل الوحشي، لأنه "ابن امرأة زانية" كما تقول التوراة في صدر الإصحاح الحادي عشر من سفر القضاة..
وبعد يفتاح قضى لإسرائيل ثلاثة لم يكن لهم شأن ولم تذكر التوراة لهم خبرا إلا الثالث وهو عبدون الفرعتوني فقد كان له "أربعون ابنا وثلاثون حفيدا يركبون على سبعين جحشا، وقضى لإسرائيل ثماني سنين" وهذا هو ما يورده الإصحاح الثاني عشر.
وفي عهد هؤلاء القضاة المغمورين، استولى الفلسطينيون على بني إسرائيل وجعلوهم تحت سلطانهم، وتقول التوراة في بداية الإصحاح الثالث عشر أن "بني إسرائيل عادوا يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة".. ووراء هذا الكلام الموجز الذي تذكره التوراة باستحياء يبدو واضحا أن انتصارات إسرائيل التي هللت لها التوراة في سفر يشوع لم تكن إلا مجرد أكاذيب وأباطيل.
ثم تتعالى التوراة، بعد أن فرغت من مسيرة القضاة السابقين، فتبرز للقارئ قصة أشقى الأشقياء في حياة بني إسرائيل، وهي قصة شمشون الجبار التي جعلت منها الدعاية الصهيونية قصصا بطولية، وأفلاما سينمائية، وأناشيد عالمية كأنما الإنسانية في تاريخها الطويل لم تلد بطلا عملاقا إلا شمشون الجبار.. ولو أننا قرأنا التوراة بصبر وإمعان لوضح لنا أن شمشون الجبار لم يكن إلا قاطع طريق وانتهى..
وشمشون الجبار كما تقول التوراة، هو ابن امرأة عاقر، جاءها ملاك الرب وبشرها بمولده وطلب إليها أن "لا تعلو موسى رأسه لأن الصبي يكون نذرا للرب من البطن وهو يخلص بني إسرائيل من الفلسطينيين.. وولدت المرأة ابنا ودعت اسمه شمشون وكبر الصبي وباركه الرب".
وتقول التوراة بعد ذلك أن "شمشون رأى امرأة من بنات الفلسطينيين وطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها له امرأة.. وقال له أبوه وأمه أليس في بنات أخوتك وفي كل شعبي امرأة حتى أنك ذاهب لتأخذ امرأة من الفلسطينيين (غير المختونين)".
ولكن شمشون، كما تقول التوراة، قال لأبيه خذ لي الفتاة الفلسطينية "لأنها حسنت في عيني"، وتضيف التوراة قولها: "ولم يعلم أبوه وأمه أن ذلك من الرب لأنه كان يطلب علة على الفلسطينيين (!!) وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل".
ومعنى هذا الكلام بكل بساطة أن "الرب" يدبر مكيدة للفلسطينيين، ولا بد له أن يبحث عن "علة" ويجب أن تكون هذه البنت الفلسطينية هي العلة.. للتحرش بالفلسطينيين والاعتداء عليهم.
وتسرد التوراة بعد ذلك الأسطورة المضحكة.. كيف أن شمشون شق الأسد بيديه كما يشق الجدي.. وكيف امتلأ (جوف الأسد) بالعسل إلى آخر الأسطورة التي لا تستحق التلخيص لتفاهتها، ثم تنتقل التوراة إلى الخلاف الذي جرى بينه وبين حميه وكيف "صارت امرأة شمشون لصاحبه الذي كان يصاحبه".
وكان من نتيجة هذا الخلاف بينه وبين زوجته الفلسطينية أن قال شمشون لوالدها.. "إني بريء الآن من الفلسطينيين إذا عملت بهم شرا". وكان هذا التبرير التوراتي للعدوان على الفلسطينيين.
وكان الشر الذي عمله شمشون هو ما يفعله قطاع الطرق العريقون في الإجرام.. إذ تقول التوراة في وصف جريمته البشعة "ذهب شمشون وأمسك ثلاث مائة ابن آوى وأخذ مشاعل وجعل ذنبا إلى ذنب ووضع مشعلا بين كل ذنبين في الوسط ثم أضرم المشاعل نارا وأطلقها بين زروع الفلسطينيين فأحرق الأكداس والزرع وكروم الزيتون.. فقال الفلسطينيون من فعل هذا.. فقالوا شمشون صهر الفلسطيني لأنه أخذ امرأته وأعطاها لصاحبه..".
وخاف بنو إسرائيل أن يثأر الفلسطينيون فقبضوا على شمشون وأوثقوه وأسلموه إلى الفلسطينيين واستطاع شمشون، فيما تروي التوراة في الإصحاح الخامس عشر أن "يحل وثاقه ووجد لحي حمار طريا فمد يده وأخذه وضرب به ألف رجل من الفلسطينيين".
وتمضي التوراة في سرد أخبار هذا السفاح فيقول الإصحاح السادس عشر، أن شمشون "ذهب إلى غزة ورأى هناك امرأة زانية فدخل إليها.. واضطجع شمشون إلى نصف الليل".. ثم خرج.. "وكان بعد ذلك أن أحب امرأة اسمها دليلة". وتأتي بعد ذلك حكاية دليلة وكيف أنها احتالت عليه وعرفت أن سر قوته هو في ضفائر شعره.. وكيف أن "أقطاب الفلسطينيين عرفوا سر قوته وقبضوا عليه وقلعوا عينيه وأودعوه في السجن".. وكيف انتهى الأمر بالنهاية، بأن شعر رأسه بدأ ينبت وعادت إليه قوته.. وقام شمشون يلعب لأهل غزة، وكان على سطح البيت "ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون" وانتهى الأمر بأن "قبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين في البيت وانحنى بقوة على العمودين فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب وهو يقول.. لتمت نفسي مع الفلسطينيين. ومات شمشون وحمله إخوته ودفنوه بعد أن كان قاضيا لإسرائيل عشرين سنة"..
وهكذا فإن قصة شمشون الجبار، لم يكن فيها كما سردتها التوراة، أي معنى من معنى الفخار. إنها سيرة قاطع طريق من الأشرار، أحرق زروع الفلسطينيين وكرومهم بسبب خلاف بينه وبين حميه على امرأته الفلسطينية. وسفر القضاة هذا لم يقتصر على ذكر الآثام والجرائم التي اقترفها القضاة، ولكن عكف على سرد أخبار منافية للأخلاق، تتصل بأفراد عاديين لا شأن لهم في الحياة العامة مما يثبت أن المجتمع اليهودي كله كان غارقا في الموبقات.. والتوراة تذكر لنا إحدى هذه الموبقات..
تقول التوراة في الإصحاح التاسع عشر من سفر القضاة أن رجلا إسرائيليا "اتخذ له امرأة سرية من بيت لحم.. فزنت عليه سريته وذهبت من عنده إلى بيت أبيها في بيت لحم وكانت هناك أربعة أشهر.. وذهب رجلها وراءها ليطيب قلبها ويردها ومعه غلامه وحماران فأدخلته بيت أبيها، وفرح أبوها بلقائه". ومكث الزوج عنده أربعة أيام.. وفي نهاية الضيافة خرج الزوج مع زوجته ليعود بها إلى بيته..
وهنا تقول التوراة بالعبارة والكلمة "قام وذهب وجاء إلى مقابل يبوس، وهي أورشليم، ومعه حماران مشدودان وسريته معه.. وفيما هم عند يبوس والنهار قد طلع قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا".. ولكن قصة الزانية لم تقف عند هذه النهاية، ذلك أن التوراة قد أعدت لها نهاية محزنة تجعلها زانية بالقهر والغلبة، فالتوراة تقول فيما بعد أن رجالا أشرارا من بني إسرائيل قد تابعوا هذه المرأة التعيسة وزوجها ولاحظوا أنهما دخلا بيت رجل عجوز، فما كان منهم إلا "أن أحاطوا بالبيت قارعين الباب.. فخرج إليهم صاحب البيت" وطلبوا إليه أن يخرج الرجل إليهم (للفعل القبيح) فقال لهم الرجل صاحب البيت "يا أخوتي لا تفعلوا شرا.. لا تفعلوا هذه الفاحشة بعد ما دخل هذا الرجل بيتي.. هو ذا ابنتي العذراء وزوجته دعوني أخرجهما فأذلوهما وافعلوا بهما ما يحسن في أعينكم، وأما هذا الرجل فلا تفعلوا به هذا الأمر القبيح.. فلم يرد الرجال أن يسمعوا له.. فأمسك الرجل زوجته وأخرجها إليهم خارجا فعرفوها وتعللوا بها الليل كله إلى الصباح وعند طلوع الفجر أطلقوها" ولكن رب ضارة نافعة، فإن حادثة الزنا هذه قد قادت القصة إلى حقيقة تاريخية هامة، ففي سياق الكلام عن أورشليم اعترفت التوراة بحقيقتين تاريخيتين أساسيتين هما:
أولا: أن يبوس، التي هي أورشليم، هي مدينة اليبوسيين، وهؤلاء هم العرب القدامى الذين استوطنوا بيت المقدس وكانوا أول من بناها وأسسها.
ثانيا: أن بيت المقدس، إلى العهد الذي كتبت فيه التوراة، وهو قبيل السيد المسيح بزمن قصير كانت بلدا غريباً على بني إسرائيل، ولم تكن مدينة إسرائيلية، ولم يكن فيها إسرائيلي واحد.
ذلك ما قالته التوراة في سفر القضاة في الإصحاح التاسع عشر وذلك ما يكذب سفر القضاة في ما قاله في الإصحاح الأول من أن بني إسرائيل قد حاربوا بيت المقدس، وما قاله سفر يشوع من أنهم قتلوا ملكها وتغلبوا على أهلها.. ويبقى بعد ذلك أن نقول ما تقوله التوراة من أن يبوس ليست مدينة إسرائيلية ولم يكن فيها أحد من بني إسرائيل إلى عهد المسيح عليه السلام.
أجل يبقى علينا نحن العرب المسلمين أن نقول ذلك بملء أفواهنا ونؤمن به..
أجل يبقى علينا نحن أن نقول ذلك، ونؤمن به، ونعمل له.. لا أن نسلم بيت المقدس إلى اليهود غرباء اليوم، الذين كانوا كذلك غرباء قبل عهد السيد المسيح، كما تعترف التوراة نفسها.
وبعد فإن سفر القضاة كما رأينا، هو سيرة قضاة أشرار لبني إسرائيل، من قاطع طريق إلى ابن زانية، إلى قاتل الأخوة السبعين.
أولئك هم بنو إسرائيل وأولئك هم قضاتهم، وإذا كان بيجن في خطابه إلى الشعب المصري، يتبجح بسيرة.. أسلافه الأقدمين.. فهذه هي سيرتهم، من توراتهم.. ومن فمك أدينك يا إسرائيل.