لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ
قال الله عز وجل: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾( فصلت : 37 ) ، فعدد من آياته الباهرة الدالة على وحدانيته : الليل والنهار ، والشمس والقمر ، ثم نهى عن السجود للشمس والقمر ، وأمر بالسجود له وحده سبحانه وتعالى .
أولاً - مناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها : أنَّ الله تعالى ، لما ذكر في الآية المتقدمة أنَّ أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إليه ، شرع سبحانه بذكر بعض آياته البديعة الدالة على كمال قدرته ، وقوة تصرفه التي تدل على وحدانيته وتوحيده ؛ تنبيهًا على أن الدعوة إليه جل جلاله هي عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذاته وصفاته جل وعلا . ومن هذه الآيات البديعة : الليل والنهار في تعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر ، والشمس والقمر في استنارتهما وجريانهما .
ثم لما بين جل جلاله أن ذلك من آياته ، نهى عباده عن عبادة الشمس والقمر ، وأمرهم بأن لا يسجدوا للشمس ، ولا للقمر ؛ لأنهما مخلوقان من مخلوقاته ، فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته ، وعبادته ؛ ولهذا أمرهم بالسجود له وحده جل وعلا ؛ لأنه الخالق المبدع لهما ولكل شيء ، إن كانوا يعبدونه حقيقة .
ثانيًا- أما تعاقب الليل والنهار فهو من تأثير دوران الأرض حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة ، بسرعة ألف ميل في الساعة الواحدة . فهذا الدوران هو الذي تنشأ عنه ظاهرة تعاقب الليل والنهار المستمرة ، وله تأثير عظيم على الحياة على سطح الأرض . وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة السابقة ، وفصلته آيات أخرى ؛ منها قوله تعالى :﴿ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾( يس : 37 ) ، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾( الإسراء : 12 ) .
وأما إيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فهو من تأثير دوران الأرض حول الشمس ؛ فالأرض تدور في مدار خاص بها حول الشمس في حركة مائلة . وهذا الميل مع الدوران هو الذي يؤدي إلى ظاهرة اختلاف الليل والنهار ، وتتابع الفصول الأربعة ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة السابقة ، وفصلته آيات أخرى ؛ منها قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾( الحج : 61 ) ، وقوله تعالى: ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾( الأعراف : 54 ) .
وأمَّا الشمس فهي نجم من النجوم ملتهب في طبعه يشع ضياء وحرارة ، من جرَّاء الطاقة النووية المنبعثة من التفاعلات النووية الهائلة في باطنه ، والتي تنجم عن اندماج أنوية الهيدروجين ، بأنوية عنصر الهليوم ؛ ولهذا وصف الله عز وجل الشمس بقوله :﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾( النبأ : 13 ) .
وأمَّا القمر فهو من أكبر الأقمار في المجموعة الشمسية ، وثانيها بعد الشمس سطوعًا ولمعانًا ، وهو من أقربها إلى كوكب الأرض ؛ ولذلك فهو القمر الوحيد الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة . وقد أثبت العلم أنه جرم سماوي ، سطحه بارد ، ونوره الذي يبدو لنا هو نتيجة لانعكاس ضوء الشمس عليه ؛ ولذلك يمتاز نوره بأنه فاتر بارد ، ينير كالمرآة ، بخلاف ضوء الشمس . وفتوره أضعف من ضوء الشمس بأربعمائة وسبع وثلاثين ألف مرة . وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾( نوح : 16 ) .
ويدور القمر حول الأرض ، ويدور مع الأرض حول الشمس ، وكلاهما تابع للشمس مرتبط بجاذبيتها . والكل يدور حول نفسه في مدار خاص به تحت تأثير التوازن الدقيق ، بين قوى الجاذبية ، وقوى الطرد المركزي الناتجة عن الدوران ، وفقا لنظام دقيق منذ أن خلقه الله تعالى . وإلى ذلك كله أشار الله تعالى بقوله :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾( لقمان : 29 ) ، وقوله تعالى :
﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾( يس : 38 – 40 ) .
وهذا كله من الآيات الباهرة المعجزة التي تدل على وجود الله تعالى ، وكمال قدرته ؛ وذلك لما يراه الناظر من الانتظام الدقيق في دوران هذه الأجرام وجريانها ، بحيث لا تخطيء أبدًا . ولولا هذا الانتظام الدقيق ، لفرغت البحار والمحيطات من مائها . ولو دارت الأرض أكثر مما تدور ، لتفكك كل ما عليها ، وتناثر كالحطام تذروه الرياح . ولو دارت أبطأ مما تدور ، لهلك كل مخلوق عليها من حر ومن برد . ولو اختل نظام الكون قيد شعرة ، لحدث اضطراب عظيم وسقوط نحو الأقوى جاذبية ، أو انقلاب وخروج كل كوكب عن مداره .
ثالثًا- فتأمل عظمة الخالق في خلقه ، ثم تأمل بعد ذلك هذا الترتيب البديع بين الليل والنهار ، والشمس والقمر ، ترَ إعجازًا آخر من إعجاز القرآن البياني . فقد قدم سبحانه وتعالى ذكر الليل على ذكر النهار ؛ تنبيهًا على تقدمه ، مع كون الظلمة عدمًا ، وكون النور وجودًا ، والعدم سابق على الوجود .
أمَّا الشمس فناسب ذكرها بعد النهار ؛ لأنها آيته ، وسبب تنويره ؛ ولأنها أصل لنور القمر ، بناء على ما تقرَّر ، من أن نوره مستفاد من ضياء الشمس . وأمَّا ضياؤها فالمشهور أنه غير طارىء عليها من جرم آخر ؛ ولهذا قدمت عليه ، وكان من حقها أن تتأخر ، قياسًا على تقديم الليل على النهار ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾( نوح : 16 )
وأما تقديم قوله تعالى :﴿ ومن آياته ﴾ على قوله :﴿ الليل والنهار والشمس والقمر ﴾ فلإظهار الاهتمام . وأما تقديم المفعول على الفعل في قوله تعالى :﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ فلقصد الاختصاص . والمعنى : إن كنتم تخصونه بالعبادة .
ولما كان السجود أقصى مراتب العبادة ، ونهاية التعظيم ، ولا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات وأعظمها ، كان لا بد من تخصيصه به عز وجل ، والنهي عن السجود لغيره . وقيل : وجه تخصيصه به عز وجل أنه كان ناس يسجدون للشمس والقمر ؛ كالصابئين في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن ذلك ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ ، فنهى عن السجود للشمس وللقمر ، وإن كثرت منافعهما ، ثم أمر سبحانه بالسجود له وحده ؛ لأنه الخالق لهما ، ولكل موجود ، فقال جل جلاله :﴿ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ . أي : إن كنتم موحدين ، غير مشركين .
وقد قال الله جل جلاله منبهًا :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ﴾( الحج : 18 ) . أي : وكثير من الناس يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة .
وفي تكرار لا الناهية بعد الواو العاطفة في قوله تعالى :﴿ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ﴾ إعجاز آخر من إعجاز البيان ، حيث كان الظاهر أن يقال : لا تسجدوا للشمس ، وللقمر . ولكن هذا يخلُّ بنظم الكلام ، ويفسد معناه ؛ لأنه يحتمل النهي عن السجود لكليهما ، ويحتمل النهي عن السجود لأحدهما دون الآخر ، فيجوز حينئذ السجود للشمس وحدها ، أو السجود للقمر وحده ؛ لأن المعنى عليه يكون : لا تسجدوا للشمس ، وللقمر مجتمعين ، واسجدوا لهما متفرقين . فدفعًا لهذا الاحتمال جيء بلا مكررة بعد الواو العاطفة .. فتأمل !
وأما الضمير في :﴿ خَلَقَهُنَّ ﴾ ففيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أنه يعود على الأربعة المتعاطفة ، فيكون المعنى : واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار ، والشمس والقمر . فلما أعيد على هذه الأربعة أتي به جمع مؤنث ، ولم يؤت به جمع مذكر ؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى ، أو الإناث . يقال : الأقلام بريتها ، وبريتهن .
والوجه الثاني : أنه يعود على لفظ الآيات ، وهو جمع مؤنث .
والوجه الثالث : أنه يعود على الشمس والقمر ؛ لأن الاثنين جمعٌ في مذهب بعضهم ، والجمعُ مؤنثٌ .
والظاهر : أن الضمير للشمس والقمر ؛ لأن الآية الكريمة نهت عن السجود لهما ، وأمرت بالسجود لله الذي خلقهما ، أو خلقهن ، وكلاهما جائز ؛ ولكن الثاني أفصح من الأول . والعرب إنما تسند الفعل إلى ضمير الجمع ، إذا كان ذلك الضمير يعود على مفردين قد عطف أحدهما على الآخر ، ولم يكن لكل منهما ثانٍ في الوجود . فالشمس لفظ مفرد لا ثاني له في الوجود . والقمر لفظ مفرد لا ثاني له في الوجود . تقول : خلق الله الشمس والقمر . فإن أتيت بضميرهما مسندًا إلى الفعل ، قلت : الشمس والقمر خلقهما الله ، وخلقهن الله . والثاني هو الأفصح والأشهر في لسان العرب ؛ لأنهما مفردين لا ثاني لهما في الوجود ، فيعاملان معاملة الجمع ؛ لأنهما لا يثنَّيان . وأما قولهم : القمران ، للشمس والقمر ، فمن باب تغليب المذكر على المؤنث لشرف التذكير ؛ كما قال تعالى :﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾(القيامة: 9) . أي : جمع القمران ؛ فإن التثنية أخت العطف ، وكأنه قيل : جمع القمر والقمر .. وهذا من الأسرار الدقيقة في البيان الأعلى .
وأما التعبير عنهما بضمير من يعقل ﴿ هُنَّ ﴾ فلتغليب الشمس على القمر لأهميتها ؛ ولأن ﴿ هُنَّ ﴾ لفظ مشترك بين من يعقل ، وما لا يعقل من المؤنث المجموع ، ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾(الزخرف: 9) ، وقوله تعالى :﴿ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ﴾(الأنبياء : 56 ) .
ومما يدلك على أن ﴿ هُنَّ ﴾ مشترك بين من يعقل ، وما لا يعقل من المؤنث المجموع قوله تعالى :﴿ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾(التوبة: 36) ، فأتى بضمير من يعقل ﴿ فِيهِنَّ ﴾ ، وهو عائد على الأربعة الحرم .. والله تعالى أعلم !
قال الله عز وجل: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾( فصلت : 37 ) ، فعدد من آياته الباهرة الدالة على وحدانيته : الليل والنهار ، والشمس والقمر ، ثم نهى عن السجود للشمس والقمر ، وأمر بالسجود له وحده سبحانه وتعالى .
أولاً - مناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها : أنَّ الله تعالى ، لما ذكر في الآية المتقدمة أنَّ أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إليه ، شرع سبحانه بذكر بعض آياته البديعة الدالة على كمال قدرته ، وقوة تصرفه التي تدل على وحدانيته وتوحيده ؛ تنبيهًا على أن الدعوة إليه جل جلاله هي عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذاته وصفاته جل وعلا . ومن هذه الآيات البديعة : الليل والنهار في تعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر ، والشمس والقمر في استنارتهما وجريانهما .
ثم لما بين جل جلاله أن ذلك من آياته ، نهى عباده عن عبادة الشمس والقمر ، وأمرهم بأن لا يسجدوا للشمس ، ولا للقمر ؛ لأنهما مخلوقان من مخلوقاته ، فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته ، وعبادته ؛ ولهذا أمرهم بالسجود له وحده جل وعلا ؛ لأنه الخالق المبدع لهما ولكل شيء ، إن كانوا يعبدونه حقيقة .
ثانيًا- أما تعاقب الليل والنهار فهو من تأثير دوران الأرض حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة ، بسرعة ألف ميل في الساعة الواحدة . فهذا الدوران هو الذي تنشأ عنه ظاهرة تعاقب الليل والنهار المستمرة ، وله تأثير عظيم على الحياة على سطح الأرض . وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة السابقة ، وفصلته آيات أخرى ؛ منها قوله تعالى :﴿ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾( يس : 37 ) ، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾( الإسراء : 12 ) .
وأما إيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فهو من تأثير دوران الأرض حول الشمس ؛ فالأرض تدور في مدار خاص بها حول الشمس في حركة مائلة . وهذا الميل مع الدوران هو الذي يؤدي إلى ظاهرة اختلاف الليل والنهار ، وتتابع الفصول الأربعة ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة السابقة ، وفصلته آيات أخرى ؛ منها قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾( الحج : 61 ) ، وقوله تعالى: ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾( الأعراف : 54 ) .
وأمَّا الشمس فهي نجم من النجوم ملتهب في طبعه يشع ضياء وحرارة ، من جرَّاء الطاقة النووية المنبعثة من التفاعلات النووية الهائلة في باطنه ، والتي تنجم عن اندماج أنوية الهيدروجين ، بأنوية عنصر الهليوم ؛ ولهذا وصف الله عز وجل الشمس بقوله :﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾( النبأ : 13 ) .
وأمَّا القمر فهو من أكبر الأقمار في المجموعة الشمسية ، وثانيها بعد الشمس سطوعًا ولمعانًا ، وهو من أقربها إلى كوكب الأرض ؛ ولذلك فهو القمر الوحيد الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة . وقد أثبت العلم أنه جرم سماوي ، سطحه بارد ، ونوره الذي يبدو لنا هو نتيجة لانعكاس ضوء الشمس عليه ؛ ولذلك يمتاز نوره بأنه فاتر بارد ، ينير كالمرآة ، بخلاف ضوء الشمس . وفتوره أضعف من ضوء الشمس بأربعمائة وسبع وثلاثين ألف مرة . وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾( نوح : 16 ) .
ويدور القمر حول الأرض ، ويدور مع الأرض حول الشمس ، وكلاهما تابع للشمس مرتبط بجاذبيتها . والكل يدور حول نفسه في مدار خاص به تحت تأثير التوازن الدقيق ، بين قوى الجاذبية ، وقوى الطرد المركزي الناتجة عن الدوران ، وفقا لنظام دقيق منذ أن خلقه الله تعالى . وإلى ذلك كله أشار الله تعالى بقوله :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾( لقمان : 29 ) ، وقوله تعالى :
﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾( يس : 38 – 40 ) .
وهذا كله من الآيات الباهرة المعجزة التي تدل على وجود الله تعالى ، وكمال قدرته ؛ وذلك لما يراه الناظر من الانتظام الدقيق في دوران هذه الأجرام وجريانها ، بحيث لا تخطيء أبدًا . ولولا هذا الانتظام الدقيق ، لفرغت البحار والمحيطات من مائها . ولو دارت الأرض أكثر مما تدور ، لتفكك كل ما عليها ، وتناثر كالحطام تذروه الرياح . ولو دارت أبطأ مما تدور ، لهلك كل مخلوق عليها من حر ومن برد . ولو اختل نظام الكون قيد شعرة ، لحدث اضطراب عظيم وسقوط نحو الأقوى جاذبية ، أو انقلاب وخروج كل كوكب عن مداره .
ثالثًا- فتأمل عظمة الخالق في خلقه ، ثم تأمل بعد ذلك هذا الترتيب البديع بين الليل والنهار ، والشمس والقمر ، ترَ إعجازًا آخر من إعجاز القرآن البياني . فقد قدم سبحانه وتعالى ذكر الليل على ذكر النهار ؛ تنبيهًا على تقدمه ، مع كون الظلمة عدمًا ، وكون النور وجودًا ، والعدم سابق على الوجود .
أمَّا الشمس فناسب ذكرها بعد النهار ؛ لأنها آيته ، وسبب تنويره ؛ ولأنها أصل لنور القمر ، بناء على ما تقرَّر ، من أن نوره مستفاد من ضياء الشمس . وأمَّا ضياؤها فالمشهور أنه غير طارىء عليها من جرم آخر ؛ ولهذا قدمت عليه ، وكان من حقها أن تتأخر ، قياسًا على تقديم الليل على النهار ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾( نوح : 16 )
وأما تقديم قوله تعالى :﴿ ومن آياته ﴾ على قوله :﴿ الليل والنهار والشمس والقمر ﴾ فلإظهار الاهتمام . وأما تقديم المفعول على الفعل في قوله تعالى :﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ فلقصد الاختصاص . والمعنى : إن كنتم تخصونه بالعبادة .
ولما كان السجود أقصى مراتب العبادة ، ونهاية التعظيم ، ولا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات وأعظمها ، كان لا بد من تخصيصه به عز وجل ، والنهي عن السجود لغيره . وقيل : وجه تخصيصه به عز وجل أنه كان ناس يسجدون للشمس والقمر ؛ كالصابئين في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن ذلك ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ ، فنهى عن السجود للشمس وللقمر ، وإن كثرت منافعهما ، ثم أمر سبحانه بالسجود له وحده ؛ لأنه الخالق لهما ، ولكل موجود ، فقال جل جلاله :﴿ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ . أي : إن كنتم موحدين ، غير مشركين .
وقد قال الله جل جلاله منبهًا :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ﴾( الحج : 18 ) . أي : وكثير من الناس يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة .
وفي تكرار لا الناهية بعد الواو العاطفة في قوله تعالى :﴿ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ﴾ إعجاز آخر من إعجاز البيان ، حيث كان الظاهر أن يقال : لا تسجدوا للشمس ، وللقمر . ولكن هذا يخلُّ بنظم الكلام ، ويفسد معناه ؛ لأنه يحتمل النهي عن السجود لكليهما ، ويحتمل النهي عن السجود لأحدهما دون الآخر ، فيجوز حينئذ السجود للشمس وحدها ، أو السجود للقمر وحده ؛ لأن المعنى عليه يكون : لا تسجدوا للشمس ، وللقمر مجتمعين ، واسجدوا لهما متفرقين . فدفعًا لهذا الاحتمال جيء بلا مكررة بعد الواو العاطفة .. فتأمل !
وأما الضمير في :﴿ خَلَقَهُنَّ ﴾ ففيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أنه يعود على الأربعة المتعاطفة ، فيكون المعنى : واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار ، والشمس والقمر . فلما أعيد على هذه الأربعة أتي به جمع مؤنث ، ولم يؤت به جمع مذكر ؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى ، أو الإناث . يقال : الأقلام بريتها ، وبريتهن .
والوجه الثاني : أنه يعود على لفظ الآيات ، وهو جمع مؤنث .
والوجه الثالث : أنه يعود على الشمس والقمر ؛ لأن الاثنين جمعٌ في مذهب بعضهم ، والجمعُ مؤنثٌ .
والظاهر : أن الضمير للشمس والقمر ؛ لأن الآية الكريمة نهت عن السجود لهما ، وأمرت بالسجود لله الذي خلقهما ، أو خلقهن ، وكلاهما جائز ؛ ولكن الثاني أفصح من الأول . والعرب إنما تسند الفعل إلى ضمير الجمع ، إذا كان ذلك الضمير يعود على مفردين قد عطف أحدهما على الآخر ، ولم يكن لكل منهما ثانٍ في الوجود . فالشمس لفظ مفرد لا ثاني له في الوجود . والقمر لفظ مفرد لا ثاني له في الوجود . تقول : خلق الله الشمس والقمر . فإن أتيت بضميرهما مسندًا إلى الفعل ، قلت : الشمس والقمر خلقهما الله ، وخلقهن الله . والثاني هو الأفصح والأشهر في لسان العرب ؛ لأنهما مفردين لا ثاني لهما في الوجود ، فيعاملان معاملة الجمع ؛ لأنهما لا يثنَّيان . وأما قولهم : القمران ، للشمس والقمر ، فمن باب تغليب المذكر على المؤنث لشرف التذكير ؛ كما قال تعالى :﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾(القيامة: 9) . أي : جمع القمران ؛ فإن التثنية أخت العطف ، وكأنه قيل : جمع القمر والقمر .. وهذا من الأسرار الدقيقة في البيان الأعلى .
وأما التعبير عنهما بضمير من يعقل ﴿ هُنَّ ﴾ فلتغليب الشمس على القمر لأهميتها ؛ ولأن ﴿ هُنَّ ﴾ لفظ مشترك بين من يعقل ، وما لا يعقل من المؤنث المجموع ، ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾(الزخرف: 9) ، وقوله تعالى :﴿ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ﴾(الأنبياء : 56 ) .
ومما يدلك على أن ﴿ هُنَّ ﴾ مشترك بين من يعقل ، وما لا يعقل من المؤنث المجموع قوله تعالى :﴿ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾(التوبة: 36) ، فأتى بضمير من يعقل ﴿ فِيهِنَّ ﴾ ، وهو عائد على الأربعة الحرم .. والله تعالى أعلم !