ما أروع
كلام الله وهو ﴿ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ
الْفَاصِلِينَ ﴾ [1] ، ﴿ مَّا
فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ [2] ، ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
﴾ [3] ، ومن
خصائصه أنه يضرب الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ، فيعتبر من يعتبر ، ولا تفوته فرصة
الهداية ، فيخسر الخسران المبين . فالمؤمن هداه الله في الأزل بالفطرة التي فطر كل
الناس عليها ، ثم ساقه قدرًا إلى كتابه المفتوح ؛ ليتأمل ويتدبر ويزداد إيمانًا ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [4] ، فيكون له
حظ من النور الموصل إلى الحياة الحقيقية :﴿ أَوَ مَن
كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [5] . ﴿ وَمَن لَّمْ
يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ [6] .
لهذا تجد القرآن يصف في منتهى الدقة
حال هؤلاء الذين عرفوا الحق ثم مالوا عنه ، فضاع منهم النور ، فتاهوا في الظلمات .
وهذه الآيات من سورة البقرة ؛ وكأنها صورة حية لهؤلاء :﴿
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ
مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا
يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ *
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌر ﴾ [7] .
إن كل إنسان قد شاهد النار وهي
مشتعلة يضيء نورها ، ثم شاهدها وهي تنطفئ ويذهب نورها . إلا أن ذهاب هذا النور
يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، فالجالس في بيته مثلاً
ليس كالمسافر في سيارة على الطريق وفجأة فقد النور . فلا شك أن القرآن قي هذا
السياق يعني هذا الفضاء الكبير الواسع الذي يصير تيهًا وظلمات عند فقدان النور ، كما
يعني أيضا القلب . فما بالك إذا كان الله جل جلاله هو الذي ذهب بهذا النور ، فتركهم
في ظلمات التيه :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ ﴾ .
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ ﴾ .
والصيب هو الغيث الذي أمرنا عليه
الصلاة والسلام أن نقول عند نزوله :«
اللهم اجعله صيبًا نافعًا » [8] . إن
المطر ، وإن كان نافعًا ، إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة ، صار
النفع به زائلاً ، فكذا إظهار الإيمان لا يصير نافعًا إلا إذا وافقه الباطن ، فإذا فقد منه الإخلاص وحصل
معه النفاق ، صار ضررًا في الدين [9] .
والصيب الذي ذكره الله هنا فيه «
ظلمات و رعد وبرق » ، فهي- إذًا-
ليست ظلمة ؛ وإنما ظلمات : ظلمات الشك ، والنفاق ، والكفر . و قد جاء الرعد بصوته
الشديد يقضي على السمع ، وهذه عادة المنافقين والمشركين
عند سماعهم القرآن وإعراضهم عنه ، وكذلك البرق تلك الشرارة الكهربائية الناتجة عن
التقاء شحنتين كهربائيتين متعاكستين . و كأنها كناية عن إقبال وإعراض : إقبال
الهدى والخير من الله لهم ، وإعراض أهل الباطل عنه . غير أن الأصل في هذه الظاهرة
أن البرق يسبق الرعد ؛ لأن سرعة البرق: 300000 كلم / ثانية ، بينما سرعة الصوت : 330
متر / ثانية ؛ لكن الآية تتحدث عن سلوك المعرضين عن الحق ، يسمعون كلام الله ويشاهدون
هذا النور ؛ ولكنهم لا يستفيدون منه ، ويزيدهم الله به ظلمة فوق ظلمة :
﴿
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ
يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ [10] .
والبرق يأتي بالنور المضيء في ومضة
قصيرة تؤثر على العين التي تدرك هذا النور . فكيف يخطف البرق البصر ويحل الظلام ؟
فهنا قال الحق عز وجل :﴿ يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾
، وفي آية أخرى قال الحق جل جلاله :﴿
يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ
﴾ [11] . وعن ابن مسعود : يخطف ، بمعنى : يختطف . والخطف والاختطاف يدل على السرعة . فالعين آلة الإبصار تنفذ الأشعة
الضوئية إليها ، وتحولها إلى إشارات كهربائية ، وترسل هذه الإشارات
إلى الدماغ الذي يفسرها على شكل صور مرئية .
ترى
ماذا قال بعض العلماء في هذا الباب ؟
والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان . قال الله
تعالى :﴿ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ﴾ [12] . أي : لم تنقص . وفي المثل :«
من أشبه أباه فما ظلم ».
أي : فما نقص حق الشبه [13] .
فالله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن البرق الذي هو وقتي وزمنه
قليل ، هو الذي يسترعي انتباههم . ولو آمنوا ، لأضاء نور الإيمان والإسلام طريقهم ؛
ولكن قلوبهم مملوءة بظلمات الكفر ، فلا يرون طريق النور .. والبرق يخطف أبصارهم .
أي : يأخذها دون إرادتهم . فالخطف يعني أن الذي يخطف لا ينتظر الإذن
. والذي يتم الخطف منه لا يملك القدرة على منع الخاطف .
والخطف غير الغصب . فالغصب أن تأخذ الشيء رغم صاحبه .
لكن ما الفرق بين الأخذ والخطف والغصب ؟ الأخذ هو أن تطلب الشيء من صاحبه فيعطيه لك . أو
تستأذنه . أي : تأخذ الشيء بإذن صاحبه . والخطف هو أن تأخذه دون إرادة صاحبه ، ودون أن يستطيع منعك . والغصب هو أن تأخذ الشيء رغم
إرادة صاحبه باستخدام القوة ، أو غير ذلك، بحيث يصبح عاجزًا عن منعك من أخذ هذا الشيء . وقوله
تعالى :﴿ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ
يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾
. لابد أن نتنبه إلى قوله تعالى :﴿
يَكَادُ ﴾ .
أي : يقترب
البرق من أن يخطف أبصارهم . وليس للإنسان القدرة أن يمنع هذا البرق من أن يأخذ
انتباه البصر [14] .
هذا ولا بد من الإشارة أن للبرق خصائص ، منها
: أن درجة الحرارة تصل إلى / 30 / ألف درجة مئوية . أي :
خمسة أضعاف حرارة سطح الشمس ! كما يصل التوتر الكهربائي إلى ملايين الفولتات ، وذلك
كله في جزء من الزمن يعد بالمايكرو ثانية . أي : جزء من المليون من الثانية [15] .
أما من الناحية العلمية فلا يمكن
تفسير هذه الظاهرة بمعزل عن كيفية الإبصار ، وما يواكبها
من تفاعلات كيميائية . فعندما تستقبل العين الأشعة الضوئية
الصادرة من جسم ما ، وتسقط على خلايا الشبكية ، فإن صبغ الرودوبسين يمتص الضوء .
عندئذ يحدث تفاعل كيميائي
يؤدي إلى تحلل الرودوبسين إلى الرتنين ، وبروتين الأبسين ، وينتج من هذا التفاعل
إشارة عصبية
تنتقل عبر العصب البصري إلى الدماغ الذي يقوم بترجمتها . أما الرتنين فيتحد مع الأبسين ؛ ليكون
الرودوبسين ، أو قد يختزل إلى فيتامين A الذي
يتحد مع الأبسين ؛ ليكون أيضًا الرودوبسين ، فلا يكاد يبصر من
ينتقل من منطقة مضاءة إلى منطقة مظلمة ، بسبب زيادة تحلل صبغ
الرودوبسين ، وتزداد بشدة الضوء . ويستغرق تجديد الرودوبسين حوالي/5 / دقائق ، معتمدًا على مقدار
ما حدث من تبييض . و خلال هذه الفترة ، تتأقلم العينان مع
الظلام .
فكلام رب العالمين في غاية الدقة ، فكلمة ﴿ يَكَادُ ﴾ في اللغة العربية تفيد النفي ، وإذا جاءت بصيغة
النفي ، تفيد الإثبات . فهنا تفيد النفي :﴿
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ ، فهنا تلك
الفترة الخاطفة التي يذهب بها البصر مؤقتًا ، ثم تتكيف العين تدريجيًّا مع استرجاع
المادة الصبغية : الرودوبسين .