شكل (3) الكون كما يظهر بالأجهزة المكبرة الحديثة، وتظهر فيه النجوم والغبار والدخان الكوني، إنها عظمة الخالق تبارك وتعالى. إنه بناء مُحكم لا وجود فيه للخلل أو الفراغ أو الفروج والشقوق. إن هذا المشهد المهيب ينبغي أن يكون وسيلة لمزيد بالخالق تبارك وتعالى والخوف من عقابه، كيف لا وهو القائل عن عباده المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191].
شكل (4) المجرات تزيّن الكون كما تزين اللآلئ العقد: في هذه الصورة تظهر المجرات البعيدة بألوانها الحقيقية تماماً كالزينة، وقد حدثنا عنه القرآن عن هذا المشهد قبل أن يراه العلماء بقرون طويلة في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق: 6].
الكون لبنات بناء
والآن سوف نستعرض مثالاً على كلمات ردّدها علماء غربيّون حديثاً، وهي موجودة في القرآن قبل مئات السنين! ففي أحد الأبحاث التي أطلقها المرصد الأوروبي الجنوبي يصرّح مجموعة من العلماء بأنهم يفضّلون استخدام كلمة [لبنات بناء من المجرات] بدلاً من كلمة [مجرَّات]، ويؤكدون أن الكون مزيَّن بهذه الأبنية تماماً كالخرز المصفوف على العقد أو الخيط!!
ففي هذا البحث يقول الدكتور بول ميلر مكتشف النسيج الكوني وزملاؤه، يقولون بالحرف الواحد:
"إن المجرات الأولى، أو بالأحرى لبنات البناء الأولى من المجرات، سوف تتشكل في خيوط النسيج. وعندما تبدأ ببث الضوء، سوف تُرى وهي تحدّد مختلف الخيوط غير المرئية، وتشبه إلى حد كبير الخرز على العقد".
السَّماء بناء
وبعد أن أبحرتُ في الكثير من المقالات والأبحاث العلمية والصادرة حديثاً حول الكون وتركيبه، تأكدتُ أن هذا العالِم ليس هو الوحيد الذي يعتقد بذلك، بل جميع العلماء يؤكدون حقيقة البناء الكوني، ولا تكاد تخلو مقالة أو بحث في علم الفلك من استخدام مصطلح [بنية الكون]. وهذا يدل على أن العلماء متفقون اليوم على هذه الحقيقة العلمية، أي حقيقة البناء. وذهبتُ مباشرة إلى كتاب الحقائق – القرآن، وفتَّشتُ عن كلمة ﴿بناء﴾، وما هي دلالات هذه الكلمة.
وكانت المفاجأة أن هذه الكلمة وردت كصفة للسّماء في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 64]. وفي آية أخرى نجد قوله تعالىً: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: 22].
وسبحان الله تعالى! كلمة يستخدمها القرآن في القرن السابع الميلادي، ويأتي العلماء في القرن الحادي والعشرين ليستخدموها بحرفيتها بعدما تأكدوا وتثبَّتوا بأن هذه الكلمة تعبِّر تعبيراً دقيقاً عن حقيقة الكون وأنه بناء محكم، فهل هذه مصادفة أم معجزة؟! يقول تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101].
لآلئ تزيِّن العقد!
عندما رأى العلماء هذا الكون بمناظيرهم المقربة والمكبرة، ورأوا ما فيه من نجوم ومجرات وغبار كوني وجدوا أنفسهم أمام بناء هندسي كوني فسارعوا لإطلاق مصطلح [البناء] على هذا الحشد الضخم من المجرات والدخان والغبار، ورأوا فيه ألواناً وزينة فشبهوها باللآلئ!
شكل (5) تمثل المادة المظلمة أكثر من 95% من حجم الكون، هذه المادة لا نراها ولكنها موجودة وهي التي تسيطر على توزع المادة المرئية في الكون. وحجم المادة المرئية في الكون أقل من 5% وهنا تتجلى عظمة القرآن عندما تفوق على العلم بتسمية السماء ﴿بناء﴾ وليس كما يسميها العلماء "فضاء".
شكل (6) مجرة حلزونية تسير في الكون وفق نظام محكم، وتبعد أكثر من 130 ألف سنة ضوئية!! ويوجد أكثر من مئة ألف مليون مجرة في الكون أكبر وأصغر من هذه. إن السماء كما يقول العلماء بناء محكم بل السماء تظهر غنى في البناء، وهذا ما حدثنا عنه القرآن بل إن البارئ سبحانه قد أقسم بهذا البناء: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5].
وفي أقوال العلماء عندما تحدثوا عن البناء الكوني نجدهم يتحدثون أيضاً عن تشبيه جديد وهو أن المجرات وتجمعاتها تشكل منظراً رائعاً بمختلف الألوان الأزرق والأصفر والأخضر مثل الخرز على العقد، أو مثل اللآلئ المصفوفة على خيط. أي أن هؤلاء العلماء يرون بناءً وزينةً.
ففي إحدى المقالات العلمية نجد كبار علماء الفلك في العالم يصرحون بعدما رأوا بأعينهم هذه الزينة:
"إن المادة في الكون تشكل نسيجاً كونياً، تتشكل فيه المجرات على طول الخيوط للمادة العادية والمادة المظلمة مثل اللآلئ على العقد".
إذن في أبحاثهم يتساءلون عن كيفية بناء الكون، ثم يقررون وجود بناء محكم، ويتحدثون عن زينة هذا البناء. ويقررون أن الكون يمتلئ بالمادة العادية المرئية والمادة المظلمة التي لا تُرى، أي لا وجود للفراغ أو الشقوق أو الفروج فيه. لقد وجدتُ أن القرآن يتحدث بدقة تامة وتطابق مذهل عن هذه الحقائق في آية واحدة فقط!!!
والأعجب من ذلك أن هذه الآية تخاطب الملحدين الذين كذبوا بالقرآن، يخاطبهم بل ويدعوهم للنظر والتأمل والبحث عن كيفية هذا البناء وهذه الزينة الكونية، وتأمُّل ما بين هذه الزينة كإشارة إلى المادة المظلمة، تماماً مثلما يرون!!!
يقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ [ق: 6]. والفروج في اللغة هي الشقوق.
واليوم نحن نشاهد من خلال الصور البناء الكوني كما ظهر للعلماء في أضخم عملية حاسوبية، وتظهر المجرات كلبنات البناء التي تزين السماء، وتظهر المادة المظلمة بلون أسود.
إذن تأمل معي قول العلماء بأن السماء بناء، ومزينة، ولا فروج أو فراغ فيها، وتأمل كذلك قول الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾، ألا تصور لنا الآية الكريمة ما يراه العلماء اليوم بأحدث الأجهزة؟
وتأمل أيضاً أخي القارئ كيف يتحدث هؤلاء العلماء في أحدث اكتشاف لهم عن كيفية البناء لهذه المجرات، وكيف تتشكل، وكيف تُزيّن السّماء كما تزين اللآلئ العقد! حتى الفراغ بين المجرات والذي ظنّه العلماء أنه خالٍ تماماً، اتضح حديثاً أنه ممتلئ تماماً بالمادة المظلمة، وهذا يثبت أن السماء خالية من أية فروج أو شقوق أو فراغ، وبما يتطابق تماماً مع النص القرآني الكريم.
كلمات قرآنية في مصطلحات الغرب!
وسبحان الذي أنزل هذا القرآن! الحقُّ تعالى يطلب منهم أن ينظروا إلى السماء من فوقهم، ويطلب منهم أن يبحثوا عن كيفية البناء وكيف زيَّنها، وهم يتحدثون عن هذا البناء وأنهم يرونه واضحاً، ويتحدثون عن شكل المجرات الذي يبدو لهم كالخرز الذي يزين العقد. ونجدهم في أبحاثهم يستخدمون نفس كلمات القرآن!
ففي المقالات الصادرة حديثاً نجد هؤلاء العلماء يطرحون سؤالاً يبدءونه بنفس الكلمة القرآنية: «كيف تشكل البناء الكوني». ويستخدمون نفس الكلمة القرآنية وهي كلمة «كيف» ولو قرأنا هذه المقالة نجد أنها تتحدث عن بنية الكون وهو ما تحدثت عنه الآية: ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾!
حتى إننا نجد في القرن الحادي والعشرين الجوائز العالمية تُمنح تباعاً في سبيل الإجابة عن سؤال طرحه القرآن قبل أربعة عشر قرناً، أليس هذا إعجازاً مبهراً لكتاب الله تعالى؟!
ولكن الذي أذهلني عندما تأملتُ مشتقات هذه الكلمة أي كلمة ﴿بناء﴾، أن المصطلحات التي يستخدمها العلماء وما يؤكدونه في أبحاثهم وما يرونه يقيناً اليوم، قد سبقهم القرآن إلى استخدامه، وبشكل أكثر دقة ووضوحاً وجمالاً.
ولو بحثنا في كتاب الله جلّ وعلا عن الآيات التي تناولت بناء الكون، لوجدنا أن البيان الإلهي يؤكد دائماً هذه الحقيقة أي حقيقة البناء القوي والمتماسك والشديد. يقول تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات: 27].
والعلماء يؤكدون أن القوى الموجودة في الكون تفوق أي خيال. ويمكن للقارئ الكريم الرجوع للمراجع في نهاية البحث لأخذ فكرة عن ضخامة القوى التي تتحكم بالكون. وفي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى هذه القوى من خلال كلمة ﴿أَشدُّ﴾، والتي تعني القوة والشدة.
بل إن الله عزّ وجلّ قد أقسم بهذا البناء فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5]. والله تعالى لا يُقسم إلا بعظيم.
وهذا هو أحد علماء الغرب يؤكد أن الكون بأكمله عبارة عن بناء عظيم فيقول:
«إن من أكثر الحقائق وضوحاً حول الكون أنه يُظهر غِنىً في البناء على كافة المقاييس من الكواكب والنجوم والمجرات وحتى تجمعات المجرات والتجمعات المجرية الكبيرة الممتدة لعدة مئات من الملايين من السنوات الضوئية».
الإعجاز العلمي أرقى أسلوب لخطاب الملحد
هؤلاء العلماء ينكرون كلام الله تعالى وهو القرآن، ويقولون إنه من صنع محمد صلى الله عليه وسلم!!! وربما لا يؤمنون بوجود خالق لهذا الكون، لأنهم في حالة تخبّط واختلاط. والعجيب أن الله تعالى يصف حالهم هذه في قوله عزّ وجلّ: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق: 5]. أي أن هؤلاء المكذبين بالقرآن وهو الحقّ، هم في حيرة واختلاط من أمرهم وفي حالة عدم استقرار.
وعلى الرغم من ذلك يدعوهم الله تعالى في الآية التالية مباشرة للنظر والتأمل في كيفية بناء وتزيين الكون، ويؤكد لهم أنه هو الذي بنى هذه المجرات وهو الذي جعلها كالزينة للسماء، يقول تعالى: ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾، بل ويسخر لهم أسباب هذا النظر وأسباب هذه الاكتشافات، وذلك ليستدلوا بهذا البناء على الباني سبحانه وتعالى.
وليَخرجوا من حيرتهم وتخبُّطهم ويتفكروا في هذا البناء الكوني المتناسق والمُحكم، ليستيقنوا بوجود الخالق العظيم تبارك وتعالى. والسؤال: أليست هذه دعوة من الله تعالى بلغة العلم للإيمان بهذا الخالق العظيم؟
إن الدين الذي يتعامل مع غير المسلمين بهذا المنهج العلمي للإقناع، هل هو دين تخلف وإرهاب، أم دين علم وتسامح وإقناع؟!! ألا نرى في خطاب الله تعالى لغير المسلمين خطاباً علمياً قمَّةَ التسامح حتى مع أعداء الإسلام؟ أليس الإعجاز العلمي أسلوباً حضارياً للدعوة إلى الله تعالى؟
إذا كان الإعجاز العلمي والذي هو الأسلوب الذي تعامل به القرآن مع أعدائه ودعاهم للنظر والتدبر، إذا كان هذا الإعجاز ـ كما يقول بعضهم ـ وسيلة غير ناجحة للدعوة إلى الله تعالى، إذن ما هي الوسيلة التي نخاطب بها الملحدين في عصر العلم والمادة الذي نعيشه اليوم؟
يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].
في رحاب تفسير هذه الآية
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره لمعنى البناء: "وقوله عز وجل: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ يقول تعالى ذكره: أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت المنكرون قدرتننا على إحيائهم بعد بلائهم، ﴿إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ فسوَّيناها سقفاً محفوظاً، وزيَّناها بالنجوم؟ ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ يعني : وما لها من صدوع وفتوق".
وقال الإمام القرطبي في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ﴾ "أي نظر اعتبار وتفكر وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ فرفعناها بلا عمد ﴿وَزَيَّنَّاهَا﴾ بالنجوم ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ جمع فرج وهو الشقّ. وقال الكسائي ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق".
وفي تفسير الطبري رحمه الله تعالى نجده يقول: "القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾، قال أبو جعفر: وإنما سميت السماء سماءً لعلوِّها على الأرض وعلى سكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماة. ولذلك قيل لسقف البيت: سماوة، لأنه فوقه مرتفع عليه. فكذلك السماء سميت للأرض سماء، لعلوِّها وإشرافها عليها. وعن قتادة في قول الله: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ قال: جعل السماء سقفاً لك".
ونتساءل الآن: أليس ما فهمه المفسرون رحمهم الله تعالى من هذه الآيات، هو ما يكتشفه العلماء اليوم؟ أليست المادة تملأ الكون؟ أليست النجوم والمجرات كالزينة في السَّماء؟ أليست هذه السماء خالية من أي فروج أو شقوق أو فراغات؟ وهذا يؤكد وضوح وبيان النص القرآني وأن كل من يقرأ كتاب الله تعالى، يدرك هذه الحقائق كلٌّ حسب اختصاصه وحسب معلومات عصره.
تطور الحقائق العلمية
في القرن السابع الميلادي عندما نزل القرآن الكريم، كان الاعتقاد السائد عند الناس أن الأرض هي مركز الكون وأن النجوم والكواكب تدور من حولها. فلم يكن لأحد علم ببنية الكون أو نشوئه أو تطوره. لم يكن أحد يتخيل الأعداد الضخمة من المجرات، بل لم يكن أحد يعرف شيئاً عن بنية هذه المجرات.
وبقي الوضع كما هو حتى جاءت النهضة العلمية الحديثة، عندما بدأ العلماء بالنظر إلى السماء عبر التليسكوبات المكبرة، وتطور علم الفضاء أكثر عندما استخدم العلماء وسائل التحليل الطيفي لضوء المجرات البعيدة. ثم بدأ عصر جديد عندما بدأ هؤلاء الباحثون استخدام تقنيات المعالجة بالحاسوب للحصول على المعلومات الكونية.
ولكن وفي مطلع الألفية الثالثة دخل علم الفضاء عصراً جديداً باستخدام السوبر كومبيوتر، عندما قام العلماء برسم مخطط للكون ثلاثي الأبعاد، وقد كانت النتيجة اليقينية التي توصل إليها العلماء هي حقيقة أن كل شيء في هذا الكون يمثل بناءً مُحكماً.
ولكن الذي استوقفني طويلاً قوله تعالى يصِف هذه النجوم: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12]. وقد أدهشني بالفعل أن العلماء التقطوا صوراً رائعة للنجوم شديدة اللمعان أو الكوازرات، وأدركوا أن هذه النجوم تضيء الطريق الذي يصل بيننا وبينها. لذلك أطلقوا عليها اسماًَ جديداً وهو «المصابيح»، وسبحان الذي سبقهم إلى هذا الاسم فقال عن النجوم التي تزين السماء: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [فصلت: 12].
تأمل عزيزي القارئ هذه النجوم التي سماها العلماء "بالمصابيح" ولكن القرآن قد سبقهم إلى هذا الاسم قبل ذلك في قوله تعالى: ﴿َزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [فصلت: 12]. أليس القرآن هو كتاب الحقائق الكونية؟؟
مَن الذي علّم محمداً هذه الكلمات؟
تساؤلات نكررها دائماً في هذه الأبحاث وهو: لو كان القرآن من تأليف محمَّد عليه صلوات الله وسلامه، إذن كيف استطاع وهو النبيُّ الأميُّ أن يطرح سؤالاً على الملحدين ويدعوهم للنظر في كيفية بناء الكون؟
وكيف حدَّد أن النجوم تزيّن السماء؟ ومن أين أتى بمصطلحات علمية مثل ﴿بناء﴾ و ﴿مصابيح﴾!؟ بل كيف علم بأن الكون لا يوجد فيه أية فراغات أو شقوق أو فروج أو تفاوت؟ من الذي علَّمه هذه العلوم الكونية في عصر الخرافات الذي عاش فيه؟
إن وجود تعابير علمية دقيقة ومطابقة لما يراه العلماء اليوم دليل على إعجاز القرآن الكوني، ودليل على السبق العلمي لكتاب الله تعالى في علم الفلك الحديث.
القرآن أول كتاب يربط بناء الكون بتوسّعه
وفي كتاب الله تعالى نجد أن كلمة ﴿بناء﴾ ارتبطت دائماً بكلمة ﴿السماء﴾، وكذلك ارتبطت بزينة الكون وتوسعه، يقول تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47].
والعجيب أننا لا نكاد نجد بحثاً حديثاً يتناول البناء الكوني، إلا ونجدهم يتحدثون فيه عن توسع الكون!! وهذا ما فعله القرآن تماماً في هذه الآية العظيمة عندما تحدث عن بنية الكون ﴿بَنَيْنَاهَا﴾ وعن توسع الكون ﴿لَمُوسِعُونَ﴾.
أي أن القرآن هو أول كتاب ربط بين بناء الكون وتوسعه. ويمكن للقارئ الكريم أن يطلع على بعض المقالات في نهاية البحث من مصادرها الأساسية ليرى هذا الربط في الأبحاث الصادرة حديثاً.
وسؤالنا من جديد: ماذا يعني أن نجد العلماء يستخدمون التعبير القرآني بحرفيَّته؟ إنه يعني شيئاً واحداً وهو أن الله تعالى يريد أن يؤكد لكل من يشكّ بهذا القرآن، أنهم مهما بحثوا ومهما تطوروا لا بدّ في النهاية أن يعودوا للقرآن!
القرآن يحدّد من سيكتشف البناء الكوني
هنالك إشارة مهمة في هذه الآيات وهي أنها حددت من سيكتشف حقيقة البناء الكوني، لذلك وجَّهت الخطاب لهم. ففي جميع الآيات التي تناولت البناء الكوني نجد الخطاب للمشككين بالقرآن، ليتخذوا من اكتشافاتهم هذه طريقاً للوصول إلى الله واليقين والإيمان برسالته الخاتمة.
واستمع معي إلى هذا البيان الإلهي الذي يدعو الناس لعبادة الله ويذكرهم ببناء السماء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21-22].
كذلك يتحدث القرآن عن جحود الملحدين وكيف يذكرهم ببناء السماء: ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 63-64]. وهكذا آيات كثيرة جاء فيها الإعجاز والبيان من الله تعالى، فهل تخشع قلوبنا أمام عظمة هذا الكتاب؟ وهل نستفيد من الإعجاز العلمي لكتاب الله عزّ وجل في تعميق نظرتنا للكون من حولنا، وهل نستجيب لنداء الحق جلّ وعلا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
والسماء ذات الحُبُك
والآن نتناول الاكتشاف الحديث جداً حول النسيج الكوني، وكيف أن المجرات وتجمعاتها تشكل نسيجاً مترابطاً كالخيوط المحبوكة، ونتناول كيف أشار القرآن الكريم إلى هذا النسيج في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات: 7].
وسوف نرى أن القرآن يتوافق مع الحقائق العلمية الثابتة واليقينية، وأن هذا التوافق يشهد على أن القرآن كتاب الله تعالى، وأنه معجز من الناحية العلمية والكونية.
وسوف نعتمد في مراجع البحث على أهم علماء الغرب الذين اكتشفوا هذا النسيج وألفوا مئات الأبحاث حوله، وعلى الأبحاث المنشورة حديثاً، والموثقة من قبل أهم مواقع الفضاء على شبكة الإنترنت مثل موقع وكالة الفضاء الأمريكية ناسا.
يقول تعالى عن السماء: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات: 7]. لقد قرأتُ هذه الآية منذ سنوات وكرّرتها مراراً في محاولة لفهم معنى ﴿الْحُبُكِ﴾، فكانت توحي إليّ هذه الكلمة بالنسيج المحبوك!
تفسير كلمة ﴿الحُبُك﴾
ولكنني رجعتُ إلى أقوال المفسرين رحمهم الله تعالى، ووجدتُ أن أكثرهم قد فهم من كلمة ﴿الْحُبُكِ﴾ النسيج المحبوك والشديد والمحكم، وقالوا بأن قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ أي ذات الشكل الحسن وذات الشدة وذات الزينة وذات الطُّرُق.
فهذا هو الإمام القرطبي رحمه الله تعالى قد توسَّع في تفسيره فعدّد سبعة معاني لكلمة ﴿الحُبُك﴾ الواردة في قوله تعالى: ﴿والسَّماء ذاتِ الحُبُك﴾. فهو يقول: "وفي ﴿الحُبُك﴾ أقوالٌ سبعة: الأول قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: الخَلْق الحسن المستوي، وقاله عكرمة قال: ألم ترَ إلى النسَّاج إذا نسَجَ الثوب فأجاد نسْجَه، يُقال منه حبك الثوب يحبِكه حبكاً، أي أجاد نسجه. قال ابن الأعرابي كل شيء أحكمتَه وأحسنت عمله فقد احتبكته.
والثاني: ذات الزينة، قاله الحسن وسعيد بن جبير. وعن الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع قول الفراء: ﴿الحُبُك﴾ تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة والماء القائم إذا مرت به الريح. الخامس: ذات الشدة، قاله ابن زيد وقرأ: ﴿وبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ: 12]. والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره.
وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة، أي تشد الإزار وتحكمه. السادس: ذات الصفاقة قاله خصيف ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بيِّن الصفاقة. السابع : أن المراد بالطرق المجرَّة التي في السماء سمِّيت بذلك لأنها كأثر المجر".
أين هذا النسيج
ولكنني كنتُ أتساءل: أين هذا النسيج المحكم في السماء ونحن لا نرى إلا النجوم والكواكب؟ وبحثت في بعض المراجع التي تتناول علم الفلك وبنية الكون، ولم أعثر على ما يشير إلى أي نسيج وقتها.
وبقيَت هذه الآية في ذاكرتي عدة سنوات ولا أجد لها تفسيراً دقيقاً، حتى قبل أيام من كتابة هذا البحث، عندما كنتُ أتصفَّح بعض المواقع العالمية عن بنية الكون، وآخر ما وصلوا إليه من حقائق يقينية وثابتة عن السماء، وكانت المفاجأة عندما قرأتُ خبراً أطلقه المرصد الأوروبي الجنوبي من خلال موقعه على الإنترنت عنوانه: "لمحة عن النسيج الكوني المبكر جداً".
وبعدما قرأت الأسطر الأولى من هذه المقالة أدركتُ بأن القرآن الكريم قد سبق هؤلاء العلماء بأربعة عشر قرناً إلى الحديث عن هذا النسيج الكوني وسمَّاه ﴿الْحُبُك﴾، بل إن الله تعالى قد أقسم به.
المدلول اللغوي لكلمة ﴿الحُبُك﴾
ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فنحن أمام كتاب الله تبارك وتعالى، والقول في كتاب الله بغير علم يُهلك صاحبه ويعرِّضه لغضب الله عزّ وجلّ. وأنه لا يجوز لي أبداً أن أحمِّل هذه الآية معنىً لا تحتمله، ولا ينبغي أن أسوق نفسي باتجاه فهم جديد لهذه الآية أو غيرها من آيات الله تعالى، إلا إذا أيقنتُ حقيقةً أن الله تعالى يقصد هذا المعنى تماماً.
بل إن التسرُّع في تفسير آية من آيات القرآن بالاعتماد على نظريات علمية ربما يثبت خطؤها في المستقبل، قد يمسُّ كتاب الله تعالى، ويكون حجَّة بيد أعداء الإسلام للنيل من هذا الدين الحنيف، بهدف التشكيك في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.
لذلك كان لا بد من اللجوء أولاً إلى اللغة العربية التي نزل بها القرآن، والبحث عن معاني هذه الكلمة، وهذا ما فعلته. فبعد رحلة في عالم المعاجم اللغوية، وجدتُ بأن هذه الكلمة قد جاءت من الفعل (حَبَكَ) وأن العرب تقول:
"حبك النساج الثوب" أي نَسَجَه، و(حَبَكَ) الحائكُ الثوبَ أي أجاد صنعه وشدّه وأحكمه، و﴿الحُبُك﴾ هي جمع لكلمة (حبيكة) وهي الطريق.
ونرى من خلال المعاني اللغوية لهذه الكلمة أن كلمة ﴿الحُبُك﴾ تتضمن معاني أساسية تدور حول النسيج والخيوط المحبوكة بإحكام والمشدود بعضها إلى بعض.
ولكن المفسرين رحمهم الله تعالى لم يدركوا أبعاد هذا المعنى لأن العصر الذي عاشوا فيه لم تتوفر لديهم علوم الفلك الحديثة، بل إن فكرة النسيج الكوني حديثة جداً لا يعود تاريخها إلا إلى بضع سنوات فقط!
شكل (4) المجرات تزيّن الكون كما تزين اللآلئ العقد: في هذه الصورة تظهر المجرات البعيدة بألوانها الحقيقية تماماً كالزينة، وقد حدثنا عنه القرآن عن هذا المشهد قبل أن يراه العلماء بقرون طويلة في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق: 6].
الكون لبنات بناء
والآن سوف نستعرض مثالاً على كلمات ردّدها علماء غربيّون حديثاً، وهي موجودة في القرآن قبل مئات السنين! ففي أحد الأبحاث التي أطلقها المرصد الأوروبي الجنوبي يصرّح مجموعة من العلماء بأنهم يفضّلون استخدام كلمة [لبنات بناء من المجرات] بدلاً من كلمة [مجرَّات]، ويؤكدون أن الكون مزيَّن بهذه الأبنية تماماً كالخرز المصفوف على العقد أو الخيط!!
ففي هذا البحث يقول الدكتور بول ميلر مكتشف النسيج الكوني وزملاؤه، يقولون بالحرف الواحد:
"إن المجرات الأولى، أو بالأحرى لبنات البناء الأولى من المجرات، سوف تتشكل في خيوط النسيج. وعندما تبدأ ببث الضوء، سوف تُرى وهي تحدّد مختلف الخيوط غير المرئية، وتشبه إلى حد كبير الخرز على العقد".
السَّماء بناء
وبعد أن أبحرتُ في الكثير من المقالات والأبحاث العلمية والصادرة حديثاً حول الكون وتركيبه، تأكدتُ أن هذا العالِم ليس هو الوحيد الذي يعتقد بذلك، بل جميع العلماء يؤكدون حقيقة البناء الكوني، ولا تكاد تخلو مقالة أو بحث في علم الفلك من استخدام مصطلح [بنية الكون]. وهذا يدل على أن العلماء متفقون اليوم على هذه الحقيقة العلمية، أي حقيقة البناء. وذهبتُ مباشرة إلى كتاب الحقائق – القرآن، وفتَّشتُ عن كلمة ﴿بناء﴾، وما هي دلالات هذه الكلمة.
وكانت المفاجأة أن هذه الكلمة وردت كصفة للسّماء في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 64]. وفي آية أخرى نجد قوله تعالىً: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: 22].
وسبحان الله تعالى! كلمة يستخدمها القرآن في القرن السابع الميلادي، ويأتي العلماء في القرن الحادي والعشرين ليستخدموها بحرفيتها بعدما تأكدوا وتثبَّتوا بأن هذه الكلمة تعبِّر تعبيراً دقيقاً عن حقيقة الكون وأنه بناء محكم، فهل هذه مصادفة أم معجزة؟! يقول تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101].
لآلئ تزيِّن العقد!
عندما رأى العلماء هذا الكون بمناظيرهم المقربة والمكبرة، ورأوا ما فيه من نجوم ومجرات وغبار كوني وجدوا أنفسهم أمام بناء هندسي كوني فسارعوا لإطلاق مصطلح [البناء] على هذا الحشد الضخم من المجرات والدخان والغبار، ورأوا فيه ألواناً وزينة فشبهوها باللآلئ!
شكل (5) تمثل المادة المظلمة أكثر من 95% من حجم الكون، هذه المادة لا نراها ولكنها موجودة وهي التي تسيطر على توزع المادة المرئية في الكون. وحجم المادة المرئية في الكون أقل من 5% وهنا تتجلى عظمة القرآن عندما تفوق على العلم بتسمية السماء ﴿بناء﴾ وليس كما يسميها العلماء "فضاء".
شكل (6) مجرة حلزونية تسير في الكون وفق نظام محكم، وتبعد أكثر من 130 ألف سنة ضوئية!! ويوجد أكثر من مئة ألف مليون مجرة في الكون أكبر وأصغر من هذه. إن السماء كما يقول العلماء بناء محكم بل السماء تظهر غنى في البناء، وهذا ما حدثنا عنه القرآن بل إن البارئ سبحانه قد أقسم بهذا البناء: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5].
وفي أقوال العلماء عندما تحدثوا عن البناء الكوني نجدهم يتحدثون أيضاً عن تشبيه جديد وهو أن المجرات وتجمعاتها تشكل منظراً رائعاً بمختلف الألوان الأزرق والأصفر والأخضر مثل الخرز على العقد، أو مثل اللآلئ المصفوفة على خيط. أي أن هؤلاء العلماء يرون بناءً وزينةً.
ففي إحدى المقالات العلمية نجد كبار علماء الفلك في العالم يصرحون بعدما رأوا بأعينهم هذه الزينة:
"إن المادة في الكون تشكل نسيجاً كونياً، تتشكل فيه المجرات على طول الخيوط للمادة العادية والمادة المظلمة مثل اللآلئ على العقد".
إذن في أبحاثهم يتساءلون عن كيفية بناء الكون، ثم يقررون وجود بناء محكم، ويتحدثون عن زينة هذا البناء. ويقررون أن الكون يمتلئ بالمادة العادية المرئية والمادة المظلمة التي لا تُرى، أي لا وجود للفراغ أو الشقوق أو الفروج فيه. لقد وجدتُ أن القرآن يتحدث بدقة تامة وتطابق مذهل عن هذه الحقائق في آية واحدة فقط!!!
والأعجب من ذلك أن هذه الآية تخاطب الملحدين الذين كذبوا بالقرآن، يخاطبهم بل ويدعوهم للنظر والتأمل والبحث عن كيفية هذا البناء وهذه الزينة الكونية، وتأمُّل ما بين هذه الزينة كإشارة إلى المادة المظلمة، تماماً مثلما يرون!!!
يقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ [ق: 6]. والفروج في اللغة هي الشقوق.
واليوم نحن نشاهد من خلال الصور البناء الكوني كما ظهر للعلماء في أضخم عملية حاسوبية، وتظهر المجرات كلبنات البناء التي تزين السماء، وتظهر المادة المظلمة بلون أسود.
إذن تأمل معي قول العلماء بأن السماء بناء، ومزينة، ولا فروج أو فراغ فيها، وتأمل كذلك قول الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾، ألا تصور لنا الآية الكريمة ما يراه العلماء اليوم بأحدث الأجهزة؟
وتأمل أيضاً أخي القارئ كيف يتحدث هؤلاء العلماء في أحدث اكتشاف لهم عن كيفية البناء لهذه المجرات، وكيف تتشكل، وكيف تُزيّن السّماء كما تزين اللآلئ العقد! حتى الفراغ بين المجرات والذي ظنّه العلماء أنه خالٍ تماماً، اتضح حديثاً أنه ممتلئ تماماً بالمادة المظلمة، وهذا يثبت أن السماء خالية من أية فروج أو شقوق أو فراغ، وبما يتطابق تماماً مع النص القرآني الكريم.
كلمات قرآنية في مصطلحات الغرب!
وسبحان الذي أنزل هذا القرآن! الحقُّ تعالى يطلب منهم أن ينظروا إلى السماء من فوقهم، ويطلب منهم أن يبحثوا عن كيفية البناء وكيف زيَّنها، وهم يتحدثون عن هذا البناء وأنهم يرونه واضحاً، ويتحدثون عن شكل المجرات الذي يبدو لهم كالخرز الذي يزين العقد. ونجدهم في أبحاثهم يستخدمون نفس كلمات القرآن!
ففي المقالات الصادرة حديثاً نجد هؤلاء العلماء يطرحون سؤالاً يبدءونه بنفس الكلمة القرآنية: «كيف تشكل البناء الكوني». ويستخدمون نفس الكلمة القرآنية وهي كلمة «كيف» ولو قرأنا هذه المقالة نجد أنها تتحدث عن بنية الكون وهو ما تحدثت عنه الآية: ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾!
حتى إننا نجد في القرن الحادي والعشرين الجوائز العالمية تُمنح تباعاً في سبيل الإجابة عن سؤال طرحه القرآن قبل أربعة عشر قرناً، أليس هذا إعجازاً مبهراً لكتاب الله تعالى؟!
ولكن الذي أذهلني عندما تأملتُ مشتقات هذه الكلمة أي كلمة ﴿بناء﴾، أن المصطلحات التي يستخدمها العلماء وما يؤكدونه في أبحاثهم وما يرونه يقيناً اليوم، قد سبقهم القرآن إلى استخدامه، وبشكل أكثر دقة ووضوحاً وجمالاً.
ولو بحثنا في كتاب الله جلّ وعلا عن الآيات التي تناولت بناء الكون، لوجدنا أن البيان الإلهي يؤكد دائماً هذه الحقيقة أي حقيقة البناء القوي والمتماسك والشديد. يقول تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات: 27].
والعلماء يؤكدون أن القوى الموجودة في الكون تفوق أي خيال. ويمكن للقارئ الكريم الرجوع للمراجع في نهاية البحث لأخذ فكرة عن ضخامة القوى التي تتحكم بالكون. وفي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى هذه القوى من خلال كلمة ﴿أَشدُّ﴾، والتي تعني القوة والشدة.
بل إن الله عزّ وجلّ قد أقسم بهذا البناء فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5]. والله تعالى لا يُقسم إلا بعظيم.
وهذا هو أحد علماء الغرب يؤكد أن الكون بأكمله عبارة عن بناء عظيم فيقول:
«إن من أكثر الحقائق وضوحاً حول الكون أنه يُظهر غِنىً في البناء على كافة المقاييس من الكواكب والنجوم والمجرات وحتى تجمعات المجرات والتجمعات المجرية الكبيرة الممتدة لعدة مئات من الملايين من السنوات الضوئية».
الإعجاز العلمي أرقى أسلوب لخطاب الملحد
هؤلاء العلماء ينكرون كلام الله تعالى وهو القرآن، ويقولون إنه من صنع محمد صلى الله عليه وسلم!!! وربما لا يؤمنون بوجود خالق لهذا الكون، لأنهم في حالة تخبّط واختلاط. والعجيب أن الله تعالى يصف حالهم هذه في قوله عزّ وجلّ: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق: 5]. أي أن هؤلاء المكذبين بالقرآن وهو الحقّ، هم في حيرة واختلاط من أمرهم وفي حالة عدم استقرار.
وعلى الرغم من ذلك يدعوهم الله تعالى في الآية التالية مباشرة للنظر والتأمل في كيفية بناء وتزيين الكون، ويؤكد لهم أنه هو الذي بنى هذه المجرات وهو الذي جعلها كالزينة للسماء، يقول تعالى: ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾، بل ويسخر لهم أسباب هذا النظر وأسباب هذه الاكتشافات، وذلك ليستدلوا بهذا البناء على الباني سبحانه وتعالى.
وليَخرجوا من حيرتهم وتخبُّطهم ويتفكروا في هذا البناء الكوني المتناسق والمُحكم، ليستيقنوا بوجود الخالق العظيم تبارك وتعالى. والسؤال: أليست هذه دعوة من الله تعالى بلغة العلم للإيمان بهذا الخالق العظيم؟
إن الدين الذي يتعامل مع غير المسلمين بهذا المنهج العلمي للإقناع، هل هو دين تخلف وإرهاب، أم دين علم وتسامح وإقناع؟!! ألا نرى في خطاب الله تعالى لغير المسلمين خطاباً علمياً قمَّةَ التسامح حتى مع أعداء الإسلام؟ أليس الإعجاز العلمي أسلوباً حضارياً للدعوة إلى الله تعالى؟
إذا كان الإعجاز العلمي والذي هو الأسلوب الذي تعامل به القرآن مع أعدائه ودعاهم للنظر والتدبر، إذا كان هذا الإعجاز ـ كما يقول بعضهم ـ وسيلة غير ناجحة للدعوة إلى الله تعالى، إذن ما هي الوسيلة التي نخاطب بها الملحدين في عصر العلم والمادة الذي نعيشه اليوم؟
يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].
في رحاب تفسير هذه الآية
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره لمعنى البناء: "وقوله عز وجل: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ يقول تعالى ذكره: أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت المنكرون قدرتننا على إحيائهم بعد بلائهم، ﴿إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ فسوَّيناها سقفاً محفوظاً، وزيَّناها بالنجوم؟ ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ يعني : وما لها من صدوع وفتوق".
وقال الإمام القرطبي في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ﴾ "أي نظر اعتبار وتفكر وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ فرفعناها بلا عمد ﴿وَزَيَّنَّاهَا﴾ بالنجوم ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ جمع فرج وهو الشقّ. وقال الكسائي ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق".
وفي تفسير الطبري رحمه الله تعالى نجده يقول: "القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾، قال أبو جعفر: وإنما سميت السماء سماءً لعلوِّها على الأرض وعلى سكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماة. ولذلك قيل لسقف البيت: سماوة، لأنه فوقه مرتفع عليه. فكذلك السماء سميت للأرض سماء، لعلوِّها وإشرافها عليها. وعن قتادة في قول الله: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ قال: جعل السماء سقفاً لك".
ونتساءل الآن: أليس ما فهمه المفسرون رحمهم الله تعالى من هذه الآيات، هو ما يكتشفه العلماء اليوم؟ أليست المادة تملأ الكون؟ أليست النجوم والمجرات كالزينة في السَّماء؟ أليست هذه السماء خالية من أي فروج أو شقوق أو فراغات؟ وهذا يؤكد وضوح وبيان النص القرآني وأن كل من يقرأ كتاب الله تعالى، يدرك هذه الحقائق كلٌّ حسب اختصاصه وحسب معلومات عصره.
تطور الحقائق العلمية
في القرن السابع الميلادي عندما نزل القرآن الكريم، كان الاعتقاد السائد عند الناس أن الأرض هي مركز الكون وأن النجوم والكواكب تدور من حولها. فلم يكن لأحد علم ببنية الكون أو نشوئه أو تطوره. لم يكن أحد يتخيل الأعداد الضخمة من المجرات، بل لم يكن أحد يعرف شيئاً عن بنية هذه المجرات.
وبقي الوضع كما هو حتى جاءت النهضة العلمية الحديثة، عندما بدأ العلماء بالنظر إلى السماء عبر التليسكوبات المكبرة، وتطور علم الفضاء أكثر عندما استخدم العلماء وسائل التحليل الطيفي لضوء المجرات البعيدة. ثم بدأ عصر جديد عندما بدأ هؤلاء الباحثون استخدام تقنيات المعالجة بالحاسوب للحصول على المعلومات الكونية.
ولكن وفي مطلع الألفية الثالثة دخل علم الفضاء عصراً جديداً باستخدام السوبر كومبيوتر، عندما قام العلماء برسم مخطط للكون ثلاثي الأبعاد، وقد كانت النتيجة اليقينية التي توصل إليها العلماء هي حقيقة أن كل شيء في هذا الكون يمثل بناءً مُحكماً.
ولكن الذي استوقفني طويلاً قوله تعالى يصِف هذه النجوم: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12]. وقد أدهشني بالفعل أن العلماء التقطوا صوراً رائعة للنجوم شديدة اللمعان أو الكوازرات، وأدركوا أن هذه النجوم تضيء الطريق الذي يصل بيننا وبينها. لذلك أطلقوا عليها اسماًَ جديداً وهو «المصابيح»، وسبحان الذي سبقهم إلى هذا الاسم فقال عن النجوم التي تزين السماء: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [فصلت: 12].
تأمل عزيزي القارئ هذه النجوم التي سماها العلماء "بالمصابيح" ولكن القرآن قد سبقهم إلى هذا الاسم قبل ذلك في قوله تعالى: ﴿َزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [فصلت: 12]. أليس القرآن هو كتاب الحقائق الكونية؟؟
مَن الذي علّم محمداً هذه الكلمات؟
تساؤلات نكررها دائماً في هذه الأبحاث وهو: لو كان القرآن من تأليف محمَّد عليه صلوات الله وسلامه، إذن كيف استطاع وهو النبيُّ الأميُّ أن يطرح سؤالاً على الملحدين ويدعوهم للنظر في كيفية بناء الكون؟
وكيف حدَّد أن النجوم تزيّن السماء؟ ومن أين أتى بمصطلحات علمية مثل ﴿بناء﴾ و ﴿مصابيح﴾!؟ بل كيف علم بأن الكون لا يوجد فيه أية فراغات أو شقوق أو فروج أو تفاوت؟ من الذي علَّمه هذه العلوم الكونية في عصر الخرافات الذي عاش فيه؟
إن وجود تعابير علمية دقيقة ومطابقة لما يراه العلماء اليوم دليل على إعجاز القرآن الكوني، ودليل على السبق العلمي لكتاب الله تعالى في علم الفلك الحديث.
القرآن أول كتاب يربط بناء الكون بتوسّعه
وفي كتاب الله تعالى نجد أن كلمة ﴿بناء﴾ ارتبطت دائماً بكلمة ﴿السماء﴾، وكذلك ارتبطت بزينة الكون وتوسعه، يقول تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47].
والعجيب أننا لا نكاد نجد بحثاً حديثاً يتناول البناء الكوني، إلا ونجدهم يتحدثون فيه عن توسع الكون!! وهذا ما فعله القرآن تماماً في هذه الآية العظيمة عندما تحدث عن بنية الكون ﴿بَنَيْنَاهَا﴾ وعن توسع الكون ﴿لَمُوسِعُونَ﴾.
أي أن القرآن هو أول كتاب ربط بين بناء الكون وتوسعه. ويمكن للقارئ الكريم أن يطلع على بعض المقالات في نهاية البحث من مصادرها الأساسية ليرى هذا الربط في الأبحاث الصادرة حديثاً.
وسؤالنا من جديد: ماذا يعني أن نجد العلماء يستخدمون التعبير القرآني بحرفيَّته؟ إنه يعني شيئاً واحداً وهو أن الله تعالى يريد أن يؤكد لكل من يشكّ بهذا القرآن، أنهم مهما بحثوا ومهما تطوروا لا بدّ في النهاية أن يعودوا للقرآن!
القرآن يحدّد من سيكتشف البناء الكوني
هنالك إشارة مهمة في هذه الآيات وهي أنها حددت من سيكتشف حقيقة البناء الكوني، لذلك وجَّهت الخطاب لهم. ففي جميع الآيات التي تناولت البناء الكوني نجد الخطاب للمشككين بالقرآن، ليتخذوا من اكتشافاتهم هذه طريقاً للوصول إلى الله واليقين والإيمان برسالته الخاتمة.
واستمع معي إلى هذا البيان الإلهي الذي يدعو الناس لعبادة الله ويذكرهم ببناء السماء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21-22].
كذلك يتحدث القرآن عن جحود الملحدين وكيف يذكرهم ببناء السماء: ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 63-64]. وهكذا آيات كثيرة جاء فيها الإعجاز والبيان من الله تعالى، فهل تخشع قلوبنا أمام عظمة هذا الكتاب؟ وهل نستفيد من الإعجاز العلمي لكتاب الله عزّ وجل في تعميق نظرتنا للكون من حولنا، وهل نستجيب لنداء الحق جلّ وعلا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
والسماء ذات الحُبُك
والآن نتناول الاكتشاف الحديث جداً حول النسيج الكوني، وكيف أن المجرات وتجمعاتها تشكل نسيجاً مترابطاً كالخيوط المحبوكة، ونتناول كيف أشار القرآن الكريم إلى هذا النسيج في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات: 7].
وسوف نرى أن القرآن يتوافق مع الحقائق العلمية الثابتة واليقينية، وأن هذا التوافق يشهد على أن القرآن كتاب الله تعالى، وأنه معجز من الناحية العلمية والكونية.
وسوف نعتمد في مراجع البحث على أهم علماء الغرب الذين اكتشفوا هذا النسيج وألفوا مئات الأبحاث حوله، وعلى الأبحاث المنشورة حديثاً، والموثقة من قبل أهم مواقع الفضاء على شبكة الإنترنت مثل موقع وكالة الفضاء الأمريكية ناسا.
يقول تعالى عن السماء: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ [الذاريات: 7]. لقد قرأتُ هذه الآية منذ سنوات وكرّرتها مراراً في محاولة لفهم معنى ﴿الْحُبُكِ﴾، فكانت توحي إليّ هذه الكلمة بالنسيج المحبوك!
تفسير كلمة ﴿الحُبُك﴾
ولكنني رجعتُ إلى أقوال المفسرين رحمهم الله تعالى، ووجدتُ أن أكثرهم قد فهم من كلمة ﴿الْحُبُكِ﴾ النسيج المحبوك والشديد والمحكم، وقالوا بأن قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ أي ذات الشكل الحسن وذات الشدة وذات الزينة وذات الطُّرُق.
فهذا هو الإمام القرطبي رحمه الله تعالى قد توسَّع في تفسيره فعدّد سبعة معاني لكلمة ﴿الحُبُك﴾ الواردة في قوله تعالى: ﴿والسَّماء ذاتِ الحُبُك﴾. فهو يقول: "وفي ﴿الحُبُك﴾ أقوالٌ سبعة: الأول قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: الخَلْق الحسن المستوي، وقاله عكرمة قال: ألم ترَ إلى النسَّاج إذا نسَجَ الثوب فأجاد نسْجَه، يُقال منه حبك الثوب يحبِكه حبكاً، أي أجاد نسجه. قال ابن الأعرابي كل شيء أحكمتَه وأحسنت عمله فقد احتبكته.
والثاني: ذات الزينة، قاله الحسن وسعيد بن جبير. وعن الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع قول الفراء: ﴿الحُبُك﴾ تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة والماء القائم إذا مرت به الريح. الخامس: ذات الشدة، قاله ابن زيد وقرأ: ﴿وبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ: 12]. والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره.
وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة، أي تشد الإزار وتحكمه. السادس: ذات الصفاقة قاله خصيف ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بيِّن الصفاقة. السابع : أن المراد بالطرق المجرَّة التي في السماء سمِّيت بذلك لأنها كأثر المجر".
أين هذا النسيج
ولكنني كنتُ أتساءل: أين هذا النسيج المحكم في السماء ونحن لا نرى إلا النجوم والكواكب؟ وبحثت في بعض المراجع التي تتناول علم الفلك وبنية الكون، ولم أعثر على ما يشير إلى أي نسيج وقتها.
وبقيَت هذه الآية في ذاكرتي عدة سنوات ولا أجد لها تفسيراً دقيقاً، حتى قبل أيام من كتابة هذا البحث، عندما كنتُ أتصفَّح بعض المواقع العالمية عن بنية الكون، وآخر ما وصلوا إليه من حقائق يقينية وثابتة عن السماء، وكانت المفاجأة عندما قرأتُ خبراً أطلقه المرصد الأوروبي الجنوبي من خلال موقعه على الإنترنت عنوانه: "لمحة عن النسيج الكوني المبكر جداً".
وبعدما قرأت الأسطر الأولى من هذه المقالة أدركتُ بأن القرآن الكريم قد سبق هؤلاء العلماء بأربعة عشر قرناً إلى الحديث عن هذا النسيج الكوني وسمَّاه ﴿الْحُبُك﴾، بل إن الله تعالى قد أقسم به.
المدلول اللغوي لكلمة ﴿الحُبُك﴾
ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فنحن أمام كتاب الله تبارك وتعالى، والقول في كتاب الله بغير علم يُهلك صاحبه ويعرِّضه لغضب الله عزّ وجلّ. وأنه لا يجوز لي أبداً أن أحمِّل هذه الآية معنىً لا تحتمله، ولا ينبغي أن أسوق نفسي باتجاه فهم جديد لهذه الآية أو غيرها من آيات الله تعالى، إلا إذا أيقنتُ حقيقةً أن الله تعالى يقصد هذا المعنى تماماً.
بل إن التسرُّع في تفسير آية من آيات القرآن بالاعتماد على نظريات علمية ربما يثبت خطؤها في المستقبل، قد يمسُّ كتاب الله تعالى، ويكون حجَّة بيد أعداء الإسلام للنيل من هذا الدين الحنيف، بهدف التشكيك في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.
لذلك كان لا بد من اللجوء أولاً إلى اللغة العربية التي نزل بها القرآن، والبحث عن معاني هذه الكلمة، وهذا ما فعلته. فبعد رحلة في عالم المعاجم اللغوية، وجدتُ بأن هذه الكلمة قد جاءت من الفعل (حَبَكَ) وأن العرب تقول:
"حبك النساج الثوب" أي نَسَجَه، و(حَبَكَ) الحائكُ الثوبَ أي أجاد صنعه وشدّه وأحكمه، و﴿الحُبُك﴾ هي جمع لكلمة (حبيكة) وهي الطريق.
ونرى من خلال المعاني اللغوية لهذه الكلمة أن كلمة ﴿الحُبُك﴾ تتضمن معاني أساسية تدور حول النسيج والخيوط المحبوكة بإحكام والمشدود بعضها إلى بعض.
ولكن المفسرين رحمهم الله تعالى لم يدركوا أبعاد هذا المعنى لأن العصر الذي عاشوا فيه لم تتوفر لديهم علوم الفلك الحديثة، بل إن فكرة النسيج الكوني حديثة جداً لا يعود تاريخها إلا إلى بضع سنوات فقط!