إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم
- ( وقال الإمام أحمد – رحمه الله – ( ج 5 ص 34 ): ثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : " إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ، ولن تزال طائفة من أمتي منصورين ، لا يضرُّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " . هذا حديث صحيح ، وقد أخرجه الترمذي . - وقال الإمام أحمد – رحمه الله – ( ج 5 ص35 ) : ثنا يزيد أنا شعبة ، به . - وقال أبو بكر بن أبي شيبة – رحمه الله – ( ج12 ص191 ): حدثنا يزيد بن هارون عن شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم " . والطائفة المنصورة ، قد قال البخاري – رحمه الله - : إنهم أهل العلم . وقال الإمام أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث ، فلا أدري من هم . والحديث وإن لم يكن نصاً على ما قاله الإمام البخاري والإمام أحمد، فإن أهل الحديث داخلون دخولاً أوَّليّاً ؛ لثباتهم على الحق ، وخدمتهم الإسلام والذب عنه ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً .) الشرح : الفساد معروف ، وهو ضد الصلاح ، والمراد بالفساد فساد الدين ، بدليل آخر الحديث ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم فساد أهل الشام علامة على فساد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه بيّن أن هذا الفساد ليس عامّاً، بل ستبقى جماعة من أمته على الحق إلى قيام الساعة . والمراد بالشام هنا مايسمّى اليوم بالأردن وفلسطين وسوريا ولبنان ، مع اختلاف يسير في حدود هذه الدول مع الدول المجاورة لها . · والطائفة المنصورة : هم أهل الحديث كما نصّ على ذلك غير واحد من علماء السلف – رضي الله عنهم – منهم يزيد بن هارون ، وعبد الله بن المبارك ، وعلي بن المديني ، وأحمد بن حنبل . ذكرهم الخطيب البغدادي في " شرف أصحاب الحديث " (1 ) . أما البخاري فقال مرّة " أهل العلم " (2) ، ومرّة قال :" أهل الحديث " (3) ولاتعارض بين قوليه ؛ فأهل العلم في زمنه هم أهل الحديث كما أشار إلى ذلك في كتابه " خلق أفعال العباد" ( ص60 – 61 ، المعارف ) . والمراد بأهل الحديث :علماء السلف المختصون بالحديث تعلُّماً وتعليماً، الذين كانوا على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولم يغيّروا ولم يبدّلوا . وقد ذكر جماعةً منهم الإمامُ البخاريُّ في " خلق أفعال العباد " (ص61، المعارف ) ، ويدخل في ذلك كل من كان على منهجهم وعقيدتهم . وظهورهم يكون بالحجة والبرهان ، وقمع شبهات أهل الكفر والنفاق والبدع ، يدل على ذلك وصفهم بالعلم ، وبأهل الحديث. وهو أحد الجهادين اللذين شرعهما الله – تبارك وتعالى - . ولا يصح أن يفهم هذا الحديث على معنى الظهور بالسيف ؛ فإن ظهورهم على الناس بالسيف يقتضي إصلاح الناس ، وقمع الفساد ، وإشارة الحديث تدل على أنهم غير قادرين على ذلك في بداية الأمر ، وتفسير العلماء لمعنى هذه الطائفة لا يساعد على هذا المعنى ، علماً أنه لا يمنع ذلك ظهورهم بالسيف في بعض الأحيان ؛ إذا توفّرت أسبابه ودواعيه والقدرة عليه . ولكن الأصل الدائم هو ظهورهم بالحجة والبيان ، كما هو الحال في هذا الزمان . وفي رواية عند مسلم في " صحيحه " (4 ) عن سعد بن أبي وقاص : " لا يزال أهل الغرب " . والراجح من كلام أهل العلم أن المراد بأهل الغرب هم أهل الشام ، والذي جعلنا نرجِّح هذا القول دون غيره ؛ أنه قول معاذ بن جبل الصحابي الجليل ، والصحابة أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم ، وخاصة إذا كان الصحابي راوي الحديث ، وهو قول الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله . والمراد من ذلك – والله أعلم - : أن الطائفة المنصورة عند فساد الناس لا ينقطع وجودها وظهورها في بلاد الشام ، ولا يعني ذلك أنهم لا يوجدون في بلاد أخرى. وفي الحديث إشارة إلى أنه سيبقى في الناس من يخالفهم ويحاربهم، ومن يخذلهم ولا ينصرهم ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بشرهم بأنهم دائماً منصورون معانون من الله تبارك وتعالى . وفي الحديث دلائل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم : الدليل الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تحدث بهذا الحديث كان أهل الشام كفاراً ، والكفر أكبر أنواع الفساد ، ففي هذا الحديث إشارة إلى أنهم سيدخلون في دين الله ويَصلُحون بعد فسادهم، وقد حصل ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم . الدليل الثاني : إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفسد بعد صلاحها ، وسيكون آخر الناس فساداً أهل الشام ، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم تمام الوقوع . الدليل الثالث : إخباره صلى الله عليه وسلم أن دين الله الذي أتى به سيبقى قائما ً بقيام الطائفة المنصورة به ، وبالحفاظ عليه ، والذب عنه ، وتنقيته من شوائب الشرك والبدع . وهذا هو الواقع ؛ ففي وقت صلاح الناس ، كان الدين قوياًّ منيعاً عند أكثرهم ، وبعد فسادهم وكثرة أهل الشقاق والبدع بينهم، بقي فيهم طائفة تدافع وتذب عنه ، وتصفي الشوائب التي تعلق به . ولا أعلم طائفة اليوم تقوم بواجب تصفية الدين من الشرك والبدع والخرافات وآراء الرجال البعيدة عن الكتاب والسنة ، ونصح المسلمين بالتمسك بهما ، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن اتبعهم بإحسان ؛ والبعد عن الحزبية وتفريق الأمة ؛ كالعلماء وطلبة العلم الذين هم على منهج أهل الحديث وعقيدتهم وعلى منهج سلف هذه الأمة وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ؛ مثل : الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين ، والشيخ مقبل بن هادي الوادعي ، وغيرهم من علماء المسلمين الذين على منهج أهل الحديث الذي كان عليه الإمام مالك والشافعي وأحمد وغيرهم . ولا يخلو إنسان من خطأ ، فإياك أن تتخذ زلتهم سلّماً للطعن فيهم قبل أن تنظر إلى ماقدّموه للإسلام والمسلمين . ومن تأمل في كتابات هؤلاء العلماء وأشرطتهم ودروسهم ؛ وجد أنها تقوم على تعليق الناس بالكتاب والسنة ، وتقديمهما على كل ما سواهما ، واتباع المنهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، ووجد أنهم يحذرون ويتكلمون فيمن وجدوا في كلامه ما يهدم أصلاً من أصول الإسلام أو يخالف دليلاً واضحاً من الكتاب والسنة ( 5) ، وما ذلك منهم إلا لحرصهم على بقاء الإسلام صافياً نقيّاً لا يدخله خلل ولا زيغ . فلو أنهم سكتوا وسكت غيرهم لضاعت أصول دين الإسلام وأحكامه بين هوى فلان وخطأ الآخر ، فجزى الله خيراً علماءنا الأفاضل على ما أدوا من واجب النصح لكتاب الله ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم . ومراد شيخنا من ذكر هذا الحديث في هذا الباب ؛ بيان فضيلة أهل العلم من أهل السنة والجماعة على غيرهم من الناس ؛ إذ إنهم أصل الطائفة المنصورة التي بشّر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأي فضل خير من التمسك بالدين والحفاظ عليه ، وهو عمل الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم . كما نبه على ذلك في آخر كلامه – رحمه الله . رجال الإسناد الأول : · يحيى بن سعيد : هو يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي ، أبو سعيد البصري الأحول الحافظ . ثقة ثبت إمام كبير حافظ ، علم من أعلام أهل الحديث ، من رجال الجرح والتعديل ، لا يروي إلا عن ثقة . قال الإمام الذهبي : " إلا أنه متعنِّت في نقد الرجال ، فإذا رأيته قد وثّق شيخاً ، فاعتمد عليه ، أما إذا ليّن أحداً ، فتأن في أمره حتى ترى قول غيره فيه ، فقد ليّن مثل : إسرائيل ، وهمام ، وجماعة احتج بهم الشيخان " (6 ) . · شعبة : هو شعبة بن الحجاج بن الورد العَتكي الأزدي ، أبو بسطام الو اسطي البصري . ثقة ثبت إمام كبير حافظ ، علم من أعلام أهل الحديث ، من رجال الجرح والتعديل . · معاوية بن قرة : هو معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن رئاب المزني ، أبو إياس البصري والد إياس بن معاوية ، تابعي روى عن جماعة من الصحابة . ثقة. · والد معاوية : هو قرة بن إياس بن هلال بن رئاب المزني ، أبو معاوية . قال الإمام البخاري وابن السكن : " له صحبة " (7 ) . رجال الإسناد الثاني الذين لم يذكروا في الإسناد الأول : · يزيد بن هارون : هو يزيد بن هارون بن زاذان السُّلمي مولاهم ، أبو خالد الواسطي . ثقة حافظ متقن عابد . تابع يزيد وغيره يحيى بن سعيد على رواية هذا الحديث عن شعبة ، ولم يتفرّد به شعبة عن معاوية ، فقد تابعه عليه إياس بن معاوية فرواه عن أبيه ، أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7/230- 231 ، الكتاب العربي) ، فقال : " مشهور من حديث إياس ، غريب من حديث مسعر " . وتابعه صدقة بن المنتصر أبو شعبة الشعباني عند الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/170) ، وابن حبان في " الثقات " (8/319). ولكن الإسماعيلي في " معجم أسامي شيوخه " (2/679 – العلوم والحكم ) ، ومن طريقه الخطيب البغدادي في " تاريخه " (10/182) (8 ) رواه عن صدقة بن المنتصر عن شعبة عن معاوية، فأدخل شعبة بين صدقة ومعاوية . والله أعلم . وقد ادعى ابن عساكر في " تاريخه " (1/307 ) أن شعبة تفرّد به بعد أن ساق له عدّة طرق ، وهو مردود بكلام أبي نعيم المتقدم. وعلى كل حال ؛ فالحديث صحيح لا غبار عليه ، ولشطره الأول شاهد من حديث ابن عمرو عند ابن عساكر (1/308) وغيره ، ولكنه حديث منكر ، خرجه الشيخ الألباني في " الضعيفة " (6385) . وشطره الثاني له شواهد كثيرة ، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " (1/6 – السنة المحمدية ) وغيره : إنه متواتر . وحديث قرّة ؛ صححه الترمذي ، وابن حبان ، والألباني – رحمهم الله - . والله أعلم |