في مقال سابق لنا، تحدثنا عن علم أسباب النزول، وبيَّنا أن هذا العلم
من علوم القرآن المهمة، التي أولى العلماء به عنايتهم؛ إذ في معرفة هذا
العلم عون لقارئ كتاب الله على فهم المراد من الآيات، ومعرفة مقصودها
وحِكَمِها .
وتبيانًا لذلك، نحاول في مقالنا التالي أن نقف على سبب نزول قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } (البقرة:195) لنتعرف في ضوء ما ورد من أسباب نزول هذه الآية على المقصود منها .
ونسارع إلى القول فنقول: إن أهل العلم قد ذكروا لنزول هذه الآية أسبابًا عديدة، نبدأها بما جاء في البخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه: في قوله تعالى: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: نزلت في النفقة؛ وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، وهو أصح ما جاء في سبب نزول هذه الآية. والمعنى على هذا يكون: { وأنفقوا في سبيل الله } وسبيل الله: طريق مجاهدة الصادِّين عن سبيله ومنهجه، الذي شرعه لعباده. وقوله سبحانه: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أي: ولا تتركوا النفقة في سبيل الله، فإن الله يعوضكم عنها أجرًا، ويرزقكم في العاجل قبل الآجل .
وروى الإمام أحمد في "مسنده" عن البراء بن عازب وقد
سئل عن: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال:
لا؛ لأن الله عز وجل بعث رسوله صلى الله عليه وسلم: فقال: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } (النساء:84) إنما ذاك في النفقة .
وعند أبي داود و الترمذي وغيرهما، من طريق أسلم أبي عمران ، قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه !! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب :
إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار؛ لما نصر الله نبيه، وأظهر
الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. قال أبو عمران فلم يزل أبو أيوب رضي الله عنه يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية؛ فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد .
قال
عامة أهل العلم: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله،
وتخافوا الفقر، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه؛ وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئًا .
وعنه أيضًا: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكنْ الإمساك عن النفقة في سبيل الله .
وقد
رويَ في سبب نزول هذه الآية - غير ما تقدم - أن الأنصار كان احتبس عليهم
بعض الرزق، وكانوا قد أنفقوا نفقات، فساء ظنهم، وأمسكوا، فأنزل الله: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم، وإمساكهم .
ومما قيل أيضًا في سبب نزول هذه الآية: { ولا تلقوا بأيديكم } فيما أصبتم من الآثام { إلى التهلكة } فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رحمته، واعملوا الخيرات؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال في قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: هو الرجل يصيب الذنوب، فيُلقي بيده إلى التهلكة، يقول: لا توبة لي !
قال الطبري بعد أن عرض لأسباب نزول هذه الآية: ( والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله، بقوله: { وأنفقوا في سبيل الله }
وسبيله: طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز
ديني الذي شرعته لكم، بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي، ونهاهم
أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } .
ثم يتابع الطبري فيقول: و( كذلك الآئس من رحمة الله، لذنب سلف منه، ملق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك، فقال: { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }
(يوسف:87) وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم، في حال وجوب ذلك عليه، وفي
حال حاجة المسلمين إليه، مضيِّع فرضًا، ملقٍ بيده إلى التهلكة. فإذ كانت
هذه المعاني كلها يحتملها قوله: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }
ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك، أن
يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة -
وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه ) .
ومضمون الآية - كما قال ابن كثير -:
الأمر بالإنفاق في سبيل الله، في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة
صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم،
والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار .
وعلى ضوء ما ذكرنا من
أسباب نزول هذه الآية، لا يبقى مُتَمَسَّكٌ لمن ذهب إلى القول بأن هذه
الآية تدل على ترك الجهاد والقعود عنه، خوف الهلكة، بل مطلوب الآية
ومقصودها عكس ذلك تمامًا .
من علوم القرآن المهمة، التي أولى العلماء به عنايتهم؛ إذ في معرفة هذا
العلم عون لقارئ كتاب الله على فهم المراد من الآيات، ومعرفة مقصودها
وحِكَمِها .
وتبيانًا لذلك، نحاول في مقالنا التالي أن نقف على سبب نزول قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } (البقرة:195) لنتعرف في ضوء ما ورد من أسباب نزول هذه الآية على المقصود منها .
ونسارع إلى القول فنقول: إن أهل العلم قد ذكروا لنزول هذه الآية أسبابًا عديدة، نبدأها بما جاء في البخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه: في قوله تعالى: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: نزلت في النفقة؛ وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، وهو أصح ما جاء في سبب نزول هذه الآية. والمعنى على هذا يكون: { وأنفقوا في سبيل الله } وسبيل الله: طريق مجاهدة الصادِّين عن سبيله ومنهجه، الذي شرعه لعباده. وقوله سبحانه: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أي: ولا تتركوا النفقة في سبيل الله، فإن الله يعوضكم عنها أجرًا، ويرزقكم في العاجل قبل الآجل .
وروى الإمام أحمد في "مسنده" عن البراء بن عازب وقد
سئل عن: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال:
لا؛ لأن الله عز وجل بعث رسوله صلى الله عليه وسلم: فقال: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } (النساء:84) إنما ذاك في النفقة .
وعند أبي داود و الترمذي وغيرهما، من طريق أسلم أبي عمران ، قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه !! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب :
إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار؛ لما نصر الله نبيه، وأظهر
الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. قال أبو عمران فلم يزل أبو أيوب رضي الله عنه يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية؛ فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد .
قال
عامة أهل العلم: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله،
وتخافوا الفقر، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه؛ وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئًا .
وعنه أيضًا: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكنْ الإمساك عن النفقة في سبيل الله .
وقد
رويَ في سبب نزول هذه الآية - غير ما تقدم - أن الأنصار كان احتبس عليهم
بعض الرزق، وكانوا قد أنفقوا نفقات، فساء ظنهم، وأمسكوا، فأنزل الله: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم، وإمساكهم .
ومما قيل أيضًا في سبب نزول هذه الآية: { ولا تلقوا بأيديكم } فيما أصبتم من الآثام { إلى التهلكة } فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رحمته، واعملوا الخيرات؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال في قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال: هو الرجل يصيب الذنوب، فيُلقي بيده إلى التهلكة، يقول: لا توبة لي !
قال الطبري بعد أن عرض لأسباب نزول هذه الآية: ( والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله، بقوله: { وأنفقوا في سبيل الله }
وسبيله: طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز
ديني الذي شرعته لكم، بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي، ونهاهم
أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } .
ثم يتابع الطبري فيقول: و( كذلك الآئس من رحمة الله، لذنب سلف منه، ملق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك، فقال: { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }
(يوسف:87) وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم، في حال وجوب ذلك عليه، وفي
حال حاجة المسلمين إليه، مضيِّع فرضًا، ملقٍ بيده إلى التهلكة. فإذ كانت
هذه المعاني كلها يحتملها قوله: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }
ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك، أن
يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة -
وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه ) .
ومضمون الآية - كما قال ابن كثير -:
الأمر بالإنفاق في سبيل الله، في سائر وجوه القربات، ووجوه الطاعات، وخاصة
صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم،
والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار .
وعلى ضوء ما ذكرنا من
أسباب نزول هذه الآية، لا يبقى مُتَمَسَّكٌ لمن ذهب إلى القول بأن هذه
الآية تدل على ترك الجهاد والقعود عنه، خوف الهلكة، بل مطلوب الآية
ومقصودها عكس ذلك تمامًا .