﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾
أولاً- الســؤال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
هناك شيء يحيرني بخصوص الآيات القرآنية التي تعرضت لفترة الرضاعة ، فهناك على قدر علمي ثلاث آيات بهذا الخصوص :
الأولى في سورة البقرة :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾(البقرة: 233) .
والثانية في سورة لقمان :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾(لقمان: 14) .
والثالثة في سورة الأحقاف :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾ (الأحقاف: 15) .
والسؤال هو : لماذا يتخذ البعض من آية سورة الأحقاف دليلاً على أقصر مدة للحمل ؟ وأنها ستة أشهر ؟ وكأن فترة الرضاع لمدة عامين . أي : أربعة وعشرين شهرًا هي فترة محددة لا يجب المساس بها ، وأنها يجب ألا تزيد ، أو تنقص . بينما الحمل من الممكن أن يكون ستة أشهر . وهل من المفروض أن يبنى حكم ، وهو الرضاعة لمدة ثلاثين شهرًا على حالات الحمل شديدة الشيوع ، أم على حالة هي بالغة الندرة ؟ وهل أقصر مدة للحمل تحددها آية قرآنية ، أم يسأل فيها أهل الذكر ؟
ثُم إن الطفل الذي يولد لستة أشهر فقط لا يمكن أن يظن من يراه أنه ابن تسعة أشهر ، أو حتى سبعة أشهر ؛ لأن اليوم الزيادة بالنسبة للطفل ناقص النمو ، أو المولود مبكرًا له تأثيره الواضح على حالة المولود ، وفي مصر هنا أقصر مدة حمل كما يذكر الأطباء هي ( 28 ) أسبوعًا .
في تفسير الطبري لكلمة ( كاملين ) بعد ( حولين ) قال :« حتى لا يظن أحد أنه حولاً ، وبعض حول » . والله سبحانه وتعالى يقول في سورة لقمان :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ ، ولم يقل :( كاملين ) . فلماذا يقال : المقصود تمام عامين ، مقارنة بسورة البقرة ، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذه السورة :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ، ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ ، بما يعني طبقًا لتفسير القرطبي :
« دَلِيل عَلَى أَنَّ إِرْضَاع الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا فَإِنَّهُ يَجُوز الْفِطَام قَبْل الْحَوْلَيْنِ , وَلَكِنَّهُ تَحْدِيد لِقَطْعِ التَّنَازُع بَيْن الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّة الرَّضَاع , فَلَا يَجِب عَلَى الزَّوْج إِعْطَاء الْأُجْرَة لِأَكْثَر مِنْ حَوْلَيْنِ . وَإِنْ أَرَادَ الْأَب الْفَطْم قَبْل هَذِهِ الْمُدَّة وَلَمْ تَرْضَ الْأُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . وَالزِّيَادَة عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ النُّقْصَان إِنَّمَا يَكُون عِنْد عَدَم الْإِضْرَار بِالْمَوْلُودِ وَعِنْد رِضَا الْوَالِدَيْنِ » ؟
ألا يدل هذا على أن فترة الإرضاع ، وليس الحمل ، هي التي بها شيء من المرونة في التحديد ؟ فلماذا لا تقارن سورة لقمان بسورة الأحقاف ، فيقال :﴿ فِي عَامَيْنِ ﴾ . أي : نحو عامين ، أو قريبًا من عامين ، بما يعني : أن مدة الثلاثين شهرًا للحمل والفصال تعني : أن مدة الحمل هي كما هي في حالتها العامة الشائعة تسعة أشهر ، وأنه ربما تعني الآية توجيهًا قرآنيًّا بألا تقل مدة الرضاع عن 21 شهرًا ؟
أرجو إفادتي في فهم هذا الموضوع ، وجزاكم الله خيرًا .
ثانيًا- الجــواب :
بسم الله وبه المستعان وعليه التكلان :
أولاً- مدة الرضاع : أكملها : حولان كاملان . وأقلها : واحد وعشرون شهرًا . وأكثرها : أربعة وعشرون شهرًا . أخذ ذلك العلماء من قوله تعالى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾( البقرة: 233) ، وقوله عز وجل :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾(الأحقاف: 15) ؛ وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة وهي ( تسعة أشهر ) ، والنادرة وهي ( ستة أشهر ) من مدة الحمل والفصال . أي : مدة الحمل والفطام .
أما تحديد أقل مدة الحمل بـ( ستة أشهر) ، فقد استدل عليه علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وجماعة من العلماء بآية الأحقاف ، وبه قال الأطباء . وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل ، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة . وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك .
وأما تحديد أكثر مدة الحمل فليس في القرآن الكريم ما يدل عليه . وحكي عن أرسطو أنه قال :« أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان ، فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر ، وربما وضعت لثمانية ، وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر » . وهذا ما يدل عليه قوله تعالى :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ ؛ كما سنبينه في الفقرة الثانية ، والفقرة الثالثة .
ثانيًا- ولما كان المقصود مجرد تحول الزمان بفصوله الأربعة ، ورجوع الشمس بعد قطع البروج الاثني عشر إلى البرج الذي كانت فيه عند الولادة ، عبَّر سبحانه وتعالى بما يدل على مطلق التحول ، فقال :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ ، ولم يقل :{ سنتين } ، أو { عامين } ؛ كما قال تعالى في آية لقمان :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾(لقمان: 14) .
و{ الحَوْلُ } في اللغة هو السنة اعتبارًا بانقلابِها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها . قال اللَّه تعالى :﴿ مَتَاعًا إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ . قاله الراغِبُ الأصفهاني . وقال الحَرالِّيُّ : الحول هو تمام القوة في الشيء الذي ينتهي لدورة الشمس ، وهو العام الذي يجمع كمال النبات الذي يتم فيه قواه ؛ وكأنه مأخوذ مما له قوة التحويل .
ويقال : حالَ الحَوْلُ حَوْلاً . أي : تَمَّ . ويُجمَع على : أحوال . قال امرؤ القيس :
وهل يَنْعَمَنْ مَن كان أَقْرَبُ عَهْدِهِ ** ثلاثِينَ شَهْرًا أو ثلاثةَ أَحْوالِ
وفي وصف الحولين بالكمال ﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ دفعٌ للمجاز الذي يحتمله لفظ ( الحولين ) ؛ إذ يقال : أقمت عند فلان حولين ، وإن لم يستكملهما ، وهي صفة توكيد ؛ كقوله تعالى :﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾(البقرة: 196) . وجعل تعالى هذه المدة حدًّا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له .
ولما كان ذلك ربما يفهم منه وجوب الكمال ، نفاه تعالى بقوله :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ . أي : هذا الحكم له ، فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك ، وأنه ليس بعد تمام الرضاعة رضاع . وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك ، إن لم يكن في ذلك مضرة للولد ، وكان أصلح له . ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾(البقرة: 133) .
ثالثًا- قال تعالى في الأحقاف :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾ ، وقال في لقمان :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾(لقمان: 14) ، فبيَّن في الآية الأولى مدة الحمل والفصال جميعًا من غير تفصيل ، ثم بيَّن في الثانية مدة الفصال قصدًا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدًا ، فلم يذكر له مدة ؛ فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر . و{ فصاله } . أي : فطامه . والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام ؛ ولذلك عبَّر بالفصال ، أو عن وقته ، دون الرضاع المطلق ؛ لأن الرضاع لا يفيد ذلك .
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور ، عبَّر تعالى في أمره هنا بـ{ العام } الذي تدور مادته على السعة ، وقيده بـ( في ) الدالة على الظرفية ، فقال :{ في عامين } ، ولم يقل :{ في حولين } ، أو{ في سنتين } . وفي التعبير بلفظ { العام } أيضًا إشارة إلى تعظيم منتهاه بكون الأم تعد أيام رضاع ولدها- مع كونها أضعف ما تكون في أيام تربيته- أيام سعة وسرور . وأما تقييد العامين بـ( في ) فيشير إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمام العامين على حسب ما يحتمله حاله ، وتدعو إليه المصلحة من أمره . وفي ذلك كله دليل واضح على أن فترة الرضاعة ، قد تزيد وتنقص تبعًا لفترة الحمل .. والله تعالى أعلم !
محمد إسماعيل عتوك
رابعًا- وعقب الأخ السائل على الجواب السابق بقوله :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
شكرًا جزيلاً على اهتمامك بالرد ، وفي الحقيقة كان ردًّا شافيًا ؛ ولكن الذي استوقفني فيه شيء مختلف عن موضوع السؤال ، وهو حديثك عن حركة ودوران الشمس ، وليس الأرض ؛ مثل قولك :( ورجوع الشمس بعد قطع البروج الاثني عشر إلى البرج الذي كانت فيه عند الولادة . و: عبَّر سبحانه في اللغة هو السنة اعتبارًا بانقلابِها ، ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها ) .
هل السبب هو أن الرد كان في بعض أجزائه ينقل آراء المفسرين القدامى الذين كانوا يعتقدون أن الشمس هي التي تدور حول الأرض ؟ أم أن هذا ما تعتقده فعلاً ؟
خامسًا- وكان الردُّ على تعقيب الأخ السائل بالآتي :
أخي الفاضل !
أولاً- أنا لم أتحدث في كلامي السابق عن الشمس والأرض ، أيهما يدور حول الآخر ؛ فهذا مما لا أعنيه . وإنما نقلت لك ما قاله الراغب الأصفهاني ، والحرالِّي في تعريف ( الحول ) ؛ لألفت انتباهك إلى الفرق بينه وبين السنة ، والعام . ولوجود هذا الفرق جاء التعبير بـ( حَوْلَيْنِ ) ، وأكِّدا بـ( كَامِلَيْنِ ) ، دون ( عامين ) ، أو( سنتين ) ؛ لأن العام والسنة لا يحتاجان إلى تأكيد ؛ لأنه لا خلاف في أن ﴿ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا ﴾(التوبة: 36) ؛ وذلك هو العام والسنة ، وهو أيضًا الحول الكامل . وأما غير الكامل فهو الذي ذكره امرؤ القيس في قوله :
وهل يَنْعَمَنْ مَن كان أَقْرَبُ عَهْدِهِ ** ثلاثِينَ شَهْرًا أو ثلاثةَ أَحْوالِ
لاحظ قوله :( ثلاثِينَ شَهْرًا أو ثلاثةَ أَحْوالِ ) ، وهي مدة الحمل والفصال التي أشارت إليها آية سورة الأحقاف ، ومنه يفهم أن الحول غير الكامل هو عشرة أشهر ، بخلاف السنة ، أو العام .
ثانيًا- وأما عن حركة ودوران الشمس فقال صاحب كتاب ( القرآن وإعجازه العلمي ) في تفسير قول الله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾(الفرقان: 61) ما نصُّه :
« يرى سكان الأرض نجوم السماء على هيئة مجموعات ، تكاد تحتفظ بصورها على مر الأجيال . والبروج هي تلك المجموعات من الأجرام التى تمر أمامها الشمس أثناء دورانها الظاهري من حول الأرض ، فالبروج كأنها منازل الشمس في دورانها أثناء السنة ، وكل ثلاثة منها تؤلف فصلاً من فصول السنة » .
وقال في تفسير قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾(يس: 38) .
« يقرر علم الفلك بأن الشمس لها مجموعة من الكواكب والأقمار والمذنبات تتبعها دائمًا ، وتخضع لقوة جاذبيتها ، وتجعلها تدور من حولها في مدارات متتابعة بيضاوية الشكل ، وجميع أفراد هذه المجموعة تنتقل مع الشمس خلال حركتها الذاتية . والخلاصة أن المجموعة الشمسية تجري في الفضاء بسرعة محدودة ، وفي اتجاه محدود ، وتبلغ هذه السرعة حوالى / 700 / كيلومتر في الثانية ، وتتم دورتها حول المركز في مدى /200 / مليون سنة ضوئية ، ولم يتوصل علماء الفلك إلى معرفة هذه الحركة واتجاهها إلا في أوائل القرن العشرين . فأين هذا من وقت نزول القرآن ، حيث لم يكن محمد النبي الأمي ، ولا قومه يعرفون شيئًا من ذلك » .. والله تعالى أعلم !
أولاً- الســؤال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
هناك شيء يحيرني بخصوص الآيات القرآنية التي تعرضت لفترة الرضاعة ، فهناك على قدر علمي ثلاث آيات بهذا الخصوص :
الأولى في سورة البقرة :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾(البقرة: 233) .
والثانية في سورة لقمان :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾(لقمان: 14) .
والثالثة في سورة الأحقاف :﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾ (الأحقاف: 15) .
والسؤال هو : لماذا يتخذ البعض من آية سورة الأحقاف دليلاً على أقصر مدة للحمل ؟ وأنها ستة أشهر ؟ وكأن فترة الرضاع لمدة عامين . أي : أربعة وعشرين شهرًا هي فترة محددة لا يجب المساس بها ، وأنها يجب ألا تزيد ، أو تنقص . بينما الحمل من الممكن أن يكون ستة أشهر . وهل من المفروض أن يبنى حكم ، وهو الرضاعة لمدة ثلاثين شهرًا على حالات الحمل شديدة الشيوع ، أم على حالة هي بالغة الندرة ؟ وهل أقصر مدة للحمل تحددها آية قرآنية ، أم يسأل فيها أهل الذكر ؟
ثُم إن الطفل الذي يولد لستة أشهر فقط لا يمكن أن يظن من يراه أنه ابن تسعة أشهر ، أو حتى سبعة أشهر ؛ لأن اليوم الزيادة بالنسبة للطفل ناقص النمو ، أو المولود مبكرًا له تأثيره الواضح على حالة المولود ، وفي مصر هنا أقصر مدة حمل كما يذكر الأطباء هي ( 28 ) أسبوعًا .
في تفسير الطبري لكلمة ( كاملين ) بعد ( حولين ) قال :« حتى لا يظن أحد أنه حولاً ، وبعض حول » . والله سبحانه وتعالى يقول في سورة لقمان :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ ، ولم يقل :( كاملين ) . فلماذا يقال : المقصود تمام عامين ، مقارنة بسورة البقرة ، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذه السورة :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ، ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ ، بما يعني طبقًا لتفسير القرطبي :
« دَلِيل عَلَى أَنَّ إِرْضَاع الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا فَإِنَّهُ يَجُوز الْفِطَام قَبْل الْحَوْلَيْنِ , وَلَكِنَّهُ تَحْدِيد لِقَطْعِ التَّنَازُع بَيْن الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّة الرَّضَاع , فَلَا يَجِب عَلَى الزَّوْج إِعْطَاء الْأُجْرَة لِأَكْثَر مِنْ حَوْلَيْنِ . وَإِنْ أَرَادَ الْأَب الْفَطْم قَبْل هَذِهِ الْمُدَّة وَلَمْ تَرْضَ الْأُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . وَالزِّيَادَة عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ النُّقْصَان إِنَّمَا يَكُون عِنْد عَدَم الْإِضْرَار بِالْمَوْلُودِ وَعِنْد رِضَا الْوَالِدَيْنِ » ؟
ألا يدل هذا على أن فترة الإرضاع ، وليس الحمل ، هي التي بها شيء من المرونة في التحديد ؟ فلماذا لا تقارن سورة لقمان بسورة الأحقاف ، فيقال :﴿ فِي عَامَيْنِ ﴾ . أي : نحو عامين ، أو قريبًا من عامين ، بما يعني : أن مدة الثلاثين شهرًا للحمل والفصال تعني : أن مدة الحمل هي كما هي في حالتها العامة الشائعة تسعة أشهر ، وأنه ربما تعني الآية توجيهًا قرآنيًّا بألا تقل مدة الرضاع عن 21 شهرًا ؟
أرجو إفادتي في فهم هذا الموضوع ، وجزاكم الله خيرًا .
ثانيًا- الجــواب :
بسم الله وبه المستعان وعليه التكلان :
أولاً- مدة الرضاع : أكملها : حولان كاملان . وأقلها : واحد وعشرون شهرًا . وأكثرها : أربعة وعشرون شهرًا . أخذ ذلك العلماء من قوله تعالى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾( البقرة: 233) ، وقوله عز وجل :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾(الأحقاف: 15) ؛ وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة وهي ( تسعة أشهر ) ، والنادرة وهي ( ستة أشهر ) من مدة الحمل والفصال . أي : مدة الحمل والفطام .
أما تحديد أقل مدة الحمل بـ( ستة أشهر) ، فقد استدل عليه علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وجماعة من العلماء بآية الأحقاف ، وبه قال الأطباء . وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل ، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة . وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك .
وأما تحديد أكثر مدة الحمل فليس في القرآن الكريم ما يدل عليه . وحكي عن أرسطو أنه قال :« أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان ، فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر ، وربما وضعت لثمانية ، وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر » . وهذا ما يدل عليه قوله تعالى :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ ؛ كما سنبينه في الفقرة الثانية ، والفقرة الثالثة .
ثانيًا- ولما كان المقصود مجرد تحول الزمان بفصوله الأربعة ، ورجوع الشمس بعد قطع البروج الاثني عشر إلى البرج الذي كانت فيه عند الولادة ، عبَّر سبحانه وتعالى بما يدل على مطلق التحول ، فقال :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ ، ولم يقل :{ سنتين } ، أو { عامين } ؛ كما قال تعالى في آية لقمان :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾(لقمان: 14) .
و{ الحَوْلُ } في اللغة هو السنة اعتبارًا بانقلابِها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها . قال اللَّه تعالى :﴿ مَتَاعًا إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ . قاله الراغِبُ الأصفهاني . وقال الحَرالِّيُّ : الحول هو تمام القوة في الشيء الذي ينتهي لدورة الشمس ، وهو العام الذي يجمع كمال النبات الذي يتم فيه قواه ؛ وكأنه مأخوذ مما له قوة التحويل .
ويقال : حالَ الحَوْلُ حَوْلاً . أي : تَمَّ . ويُجمَع على : أحوال . قال امرؤ القيس :
وهل يَنْعَمَنْ مَن كان أَقْرَبُ عَهْدِهِ ** ثلاثِينَ شَهْرًا أو ثلاثةَ أَحْوالِ
وفي وصف الحولين بالكمال ﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ دفعٌ للمجاز الذي يحتمله لفظ ( الحولين ) ؛ إذ يقال : أقمت عند فلان حولين ، وإن لم يستكملهما ، وهي صفة توكيد ؛ كقوله تعالى :﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾(البقرة: 196) . وجعل تعالى هذه المدة حدًّا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع ، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له .
ولما كان ذلك ربما يفهم منه وجوب الكمال ، نفاه تعالى بقوله :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ . أي : هذا الحكم له ، فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك ، وأنه ليس بعد تمام الرضاعة رضاع . وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك ، إن لم يكن في ذلك مضرة للولد ، وكان أصلح له . ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾(البقرة: 133) .
ثالثًا- قال تعالى في الأحقاف :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾ ، وقال في لقمان :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾(لقمان: 14) ، فبيَّن في الآية الأولى مدة الحمل والفصال جميعًا من غير تفصيل ، ثم بيَّن في الثانية مدة الفصال قصدًا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدًا ، فلم يذكر له مدة ؛ فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر . و{ فصاله } . أي : فطامه . والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام ؛ ولذلك عبَّر بالفصال ، أو عن وقته ، دون الرضاع المطلق ؛ لأن الرضاع لا يفيد ذلك .
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور ، عبَّر تعالى في أمره هنا بـ{ العام } الذي تدور مادته على السعة ، وقيده بـ( في ) الدالة على الظرفية ، فقال :{ في عامين } ، ولم يقل :{ في حولين } ، أو{ في سنتين } . وفي التعبير بلفظ { العام } أيضًا إشارة إلى تعظيم منتهاه بكون الأم تعد أيام رضاع ولدها- مع كونها أضعف ما تكون في أيام تربيته- أيام سعة وسرور . وأما تقييد العامين بـ( في ) فيشير إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمام العامين على حسب ما يحتمله حاله ، وتدعو إليه المصلحة من أمره . وفي ذلك كله دليل واضح على أن فترة الرضاعة ، قد تزيد وتنقص تبعًا لفترة الحمل .. والله تعالى أعلم !
محمد إسماعيل عتوك
رابعًا- وعقب الأخ السائل على الجواب السابق بقوله :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
شكرًا جزيلاً على اهتمامك بالرد ، وفي الحقيقة كان ردًّا شافيًا ؛ ولكن الذي استوقفني فيه شيء مختلف عن موضوع السؤال ، وهو حديثك عن حركة ودوران الشمس ، وليس الأرض ؛ مثل قولك :( ورجوع الشمس بعد قطع البروج الاثني عشر إلى البرج الذي كانت فيه عند الولادة . و: عبَّر سبحانه في اللغة هو السنة اعتبارًا بانقلابِها ، ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها ) .
هل السبب هو أن الرد كان في بعض أجزائه ينقل آراء المفسرين القدامى الذين كانوا يعتقدون أن الشمس هي التي تدور حول الأرض ؟ أم أن هذا ما تعتقده فعلاً ؟
خامسًا- وكان الردُّ على تعقيب الأخ السائل بالآتي :
أخي الفاضل !
أولاً- أنا لم أتحدث في كلامي السابق عن الشمس والأرض ، أيهما يدور حول الآخر ؛ فهذا مما لا أعنيه . وإنما نقلت لك ما قاله الراغب الأصفهاني ، والحرالِّي في تعريف ( الحول ) ؛ لألفت انتباهك إلى الفرق بينه وبين السنة ، والعام . ولوجود هذا الفرق جاء التعبير بـ( حَوْلَيْنِ ) ، وأكِّدا بـ( كَامِلَيْنِ ) ، دون ( عامين ) ، أو( سنتين ) ؛ لأن العام والسنة لا يحتاجان إلى تأكيد ؛ لأنه لا خلاف في أن ﴿ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا ﴾(التوبة: 36) ؛ وذلك هو العام والسنة ، وهو أيضًا الحول الكامل . وأما غير الكامل فهو الذي ذكره امرؤ القيس في قوله :
وهل يَنْعَمَنْ مَن كان أَقْرَبُ عَهْدِهِ ** ثلاثِينَ شَهْرًا أو ثلاثةَ أَحْوالِ
لاحظ قوله :( ثلاثِينَ شَهْرًا أو ثلاثةَ أَحْوالِ ) ، وهي مدة الحمل والفصال التي أشارت إليها آية سورة الأحقاف ، ومنه يفهم أن الحول غير الكامل هو عشرة أشهر ، بخلاف السنة ، أو العام .
ثانيًا- وأما عن حركة ودوران الشمس فقال صاحب كتاب ( القرآن وإعجازه العلمي ) في تفسير قول الله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾(الفرقان: 61) ما نصُّه :
« يرى سكان الأرض نجوم السماء على هيئة مجموعات ، تكاد تحتفظ بصورها على مر الأجيال . والبروج هي تلك المجموعات من الأجرام التى تمر أمامها الشمس أثناء دورانها الظاهري من حول الأرض ، فالبروج كأنها منازل الشمس في دورانها أثناء السنة ، وكل ثلاثة منها تؤلف فصلاً من فصول السنة » .
وقال في تفسير قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾(يس: 38) .
« يقرر علم الفلك بأن الشمس لها مجموعة من الكواكب والأقمار والمذنبات تتبعها دائمًا ، وتخضع لقوة جاذبيتها ، وتجعلها تدور من حولها في مدارات متتابعة بيضاوية الشكل ، وجميع أفراد هذه المجموعة تنتقل مع الشمس خلال حركتها الذاتية . والخلاصة أن المجموعة الشمسية تجري في الفضاء بسرعة محدودة ، وفي اتجاه محدود ، وتبلغ هذه السرعة حوالى / 700 / كيلومتر في الثانية ، وتتم دورتها حول المركز في مدى /200 / مليون سنة ضوئية ، ولم يتوصل علماء الفلك إلى معرفة هذه الحركة واتجاهها إلا في أوائل القرن العشرين . فأين هذا من وقت نزول القرآن ، حيث لم يكن محمد النبي الأمي ، ولا قومه يعرفون شيئًا من ذلك » .. والله تعالى أعلم !