رَّبُّ النَّاسِ ، مَلِكُ النَّاسِ ، إلَهُ النَّاسِ
أولاً- ( الرَّبُّ ، والمَلِكُ ، والإلَهُ ) صفات ثلاثة من صفات العظمة والكمال لله تعالى ، اجتمعت معًا في ( سورة الناس ) ، إحدى المعوذتين ، مضافة إلى ( الناس ) خاصة ، مع انتظام جميع العالَمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وإلهيته ؛ لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾(الناس: 1- 3) .
وقد تصدى بعض علماء التفسير واللغة والبيان لبيان سِرِّ مجيء هذه الصفات الثلاثة ( الربوبيَّة ، والمًلْك ، والإلهيَّة ) على هذا الترتيب البديع ، وتكرار لفظ ( الناس ) مع كل صفة منها ، مع عدم العطف بالواو .. وكان آخر من تكلم على ذلك من المعاصرين ، وخاض فيه العلامة الدكتور فاضل السامرائي ، في ( لمسات بيانية في سورة الناس ) ، فقال في ذلك ما نصُّه :
1- « وقد تدرّجت الآيات من ( الكثرة ) إلى ( القلّة ) ، فالربّ هو المرشد الموجّه ، وقد يكون في المجتمع الواحد العديد من المرشدين والمربّين ؛ لكن لكل دولة أو مجتمع ملك واحد ، والدنيا فيها ملوك كثر ؛ ولكن إلهها وإلههم واحد ، فانتقل من ( الكثرة للقلة ) ، من حيث دلالة الكلمة بالعدد : الرب كثير ، الملك أقلّ ، وأما الإله فهو واحد » .
2- ثم قال :« وردت كلمة الناس ( 3 ) مرات في السورة ، و( كل منها تعني مجموعة من الناس مختلفة عن غيرها ) ، نوضحها فيما يلي :
كلمة الناس تطلق على مجموعة قليلة من الناس ، أو واحد من الناس ، أو كل الناس . والربّ هو مُرشد مجموعة من الناس قد تكون قليلة ، أو كثيرة . أما الملك فناسه أكثر من ناس المربي . وأما الإله فهو إله كل الناس ، وناسه الأكثر حَتمًا .
ولو قالت الآيات :( أعوذ برب الناس ، وملكهم ، وإلههم ) ، لعاد المعنى كله ( إلى المجموعة الأولى من الناس ) ، ناس الرب ، دون أن يشمل غيرهم ؛ لذلك لا يغني الضمير هنا ، بل لا بد من تكرار المضاف إليه مذكورًا صريحًا ؛ لأن ( لكل معنى مختلف ) » .
3- وانتهى السامرائي من ذلك إلى القول :« فالتدرج في الصفات بدأ من ( الكثرة إلى القلة ) . أما في المضاف إليه الناس فبالعكس من ( القلة إلى الكثرة ) ، فناس المربي أقل ، وناس الملك أكثر ، وناس الإله هم الأكثر » .
ثانيًا- هذا الكلام الذي سحر الكثير من الناس وذهب بعقولهم وأغشى بصائرهم ، فجعلوا يتسابقون ويتبارون في نقله ونشره ، لا قيمة له في الحقيقة ولا وزن ؛ فهو ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ ، هذه هي الحقيقة المرة التي لا يستطيع إدراكها إلا من سلم عقله من المَسِّ وبصيرته من العمى . وكثير أولئك الذين خدعوا بكلام هذا الرجل الخُلَّبيِّ ؛ كهذا الكلام الذي بين أيدينا ، وسأبدأ بقوله الثاني ؛ لأنه يُعدُّ ثمرة من ثمرات إبداعه الذي لا حدود له ، وأثرًا من آثار فتوح العارفين الذي فتحه الله تعالى عليه ، وهو قوله الذي زعم فيه : أن التدرج في لفظ ( الناس ) بدأ من ( القلة إلى الكثرة ) ، عكس التدرج في الصفات ؛ إذ بدأ من ( الكثرة إلى القلة ) ، وخلص منه إلى أن ( ناس المربي أقل ، وناس الملك أكثر ، وناس الإله هم الأكثر ) . وهذا الزعم الباطل جعله يقسم الناس إلى ثلاث مجموعات :
( كل منها تعني مجموعة من الناس مختلفة عن غيرها )
فمجموعة ( الرب ) غير مجموعة ( الملك ) ، ومجموعة الملك غير مجموعة ( الإله ) . ولم يدر أن الناس هم الناس ، والرب هو الملك ، والملك هو مالك الملك ، وهو الإله الذي لا إله غيره . وهكذا زينت له نفسه سوء قوله ، وحمله خياله الواسع إلى الإلحاد في تأويل كلام الله سبحانه ، فأتى بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان ، فجعل ناس ( الرب ) أقل من ناس ( الملك ) ، وناس ( الملك ) أقل من ناس ( الإله ) ، وزعم أن لكل مجموعته التي تختلف عن مجموعة الآخر ، وأن الله سبحانه تدرج في هذه المجموعات من ( القليل إلى الكثير ) ، بعد أن تدرج في الصفات من ( الكثير إلى القليل ) .. تعالى الله عن ذلك ، وعلا علوًّا كبيرًا !
ويذكرني قول السامرائي هذا بقول حكاه النسفي في تفسيره في التعليل لتكرار لفظ ( الناس ) في السورة خمس مرات ، فقال :« وقيل : أراد بالأول ( الأطفال ) ، ومعنى الربوبية يدل عليه ، وبالثاني ( الشبَّان ) ، ولفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه ، وبالثالث ( الشيوخ ) ، ولفظ الإله المنبىءُ عن العبادة يدل عليه ، وبالرابع ( الصالحين ) ، إذ الشيطان مولع بإغوائهم ، وبالخامس ( المفسدين ) ، لعطفه على المعوذ منه » . ولا يستبعد أبدًا أن يكون السامرائي قد استوحى قوله السابق من هذا القول المستهجن الغريب ، ويدل على ذلك أنك تجد تلميحات وإشارات إلى ( الأطفال والشباب والشيوخ ) في قول له تقدم أقواله السابقة التي ذكرناه ، وهو قوله :
« فالأجنة هي البداية ، ثم يخرج الناس للحياة ؛ ليواجهوا المربي الذي يقدم لهم ما يحتاجونه ، من تربية ورعاية ، فإذا كبروا احتاجوا إلى المجتمع وما ينظم علاقتهم به ، ثم يأتي سن التكليف حيث يحاسبه الإله . والمجتمعات عمومًا بين الربوبية ، والملك ، فكل مجتمع يحتاج صغاره إلى المربي ، ثم إلى السلطة . أما الألوهية فتتأخر » .
ومن المؤسف أن يتبنى هذا القول عالم مبدع كالسامرائي ، ويردده على مسامع المشاهدين ، ولست أدري كيف ينطلي هذا القول وأمثاله على الخاصة من الناس قبل عامتهم ، وفساده ظاهر بيِّن لا يخفى عن أحد ! وكان المنتظر من السامرائي أن يطلع على أقوال المفسرين واللغويين في هذه الآيات ، وأن يستفيد من تعليلاتهم ، ثم يقدمها للمشاهدين بعد التحقيق والتمحيص بأسلوب شيق ، وليس كأسلوبه كما يصفه المعجبون . ولو أنه فعل ذلك ، لكان أجدى له وللمشاهدين وأنفع ؛ ولكنه السامرائي ، وما أدراك ما السامرائي ، يأبى إلا أن يظهر للناس براعته ، ويطلعهم على سعة علمه وإحاطته بكل شيء ، فيأتي بما لا يحسد عليه .
وأول شيء كان ينبغي أن يتذكره العلامة السامرائي أن لفظ ( الناس ) اسم جَمْع للبشر جميعهم ، أو لطائفة منهم ، وأن تعريفه هنا للاستغراق العرفي ؛ فعندما يقول الله جل وعلا :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ ، يعني : رب جميع الناس ، وملك جميع الناس ، وإله جميع الناس الذين يخطرون بالبال ، من عهد آدم إلى يوم القيامة ؛ لعدم إرادة معهودين معينين ، ولاستحالة دخول كل الناس في دين الله بدليل المشاهدة .
فالله سبحانه هو ( ِرَبِّ النَّاسِ ) جميعهم ، وهو سبحانه ( رَبُّ العَالَمِينَ ) ، و( رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) ؛ كما قال تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الفاتحة: 2) ، ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾(الأنعام: 164) . ولما سأل فرعون اللعين موسى عليه السلام :﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(الشعراء: 23) ؟ أجابه موسى عليه السلام بقوله :﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴾(الشعراء: 24) . والرب هو المالك ، والخالق ، والصاحب ، وهو المصلح للشيء والقائم عليه ، ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن . تقول : رَبَّه يَرِبُّه فهو رَبٌّ . ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل . والله جل ثناؤه هو الربُّ ؛ لأنه مصلح أحوال خلقه ، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده ، وهو في غيره على التقيد بالإضافة ، كقولهم : رب الدار ، ورب الناقة . والملك لا يكون ملكًا إلا إذا كان ربًّا مالكًا ، ويدلُّ أصل اشتقاقه على قوّةٍ في الشيء وصحة . يقال : أملَكَ عجِينَه . أي : قوَّى عَجنَه وشَدَّه . وملَّكتُ الشَّيءَ : قوَّيتُه . والإله الحق هو المعبود بحق ، ولا يكون الإله إلهًا حقًّا إلا إذا كان ربًّا وملكًا .
والله سبحانه هو رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، وليس رب فئة واحدة ، أو عنصر واحد ، أو مجموعة بشربة واحدة ! فكيف بقال : إنه ربٌّ لناس قليلين ، وإن ناسه أقل من ناس الملك ، وناس الملك أقل من ناس الإله ، والإله هو الملك ، والملك هو الرب ، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الدخان: 7- ، و﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾(الحشر: 23) ، ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾(البقرة: 133) ؟ فإله الآباء والأجداد من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة هو ربهم الذي خلقهم وملك بتربيته لهم أمرهم ، وهو ملكهم المتصرف في شئونهم كلها ، وهو وحده المستحق للعبادة .
ولم يكتف العلامة السامرائي بأن فرَّق بين ( الرب ) ، و( الملك ) ، و( الإله ) ، حين جعل لكل منهم جماعته من الناس التي تختلف عن جماعة الآخر ، بل أكد ذلك بقوله :( ولو قالت الآيات : أعوذ برب الناس ، وملكهم ، وإلههم ، لعاد المعنى كله إلى المجموعة الأولى من الناس ، ناس الرب ، دون أن يشمل غيرهم ؛ لذلك لا يغني الضمير هنا ، بل لا بد من تكرار المضاف إليه مذكورًا صريحًا ؛ لأن لكل معنى مختلف ) .
ولم يدر العلامة السامرائي ، وأنى له أن يدري ، أن لفظ ( الناس ) كُرِّر مع ( ملك الناس ) ، و( إله الناس ) ؛ لأن كل واحد منهما عطف بيان من ( رب الناس ) ، وعطف البيان يقتضي الإظهار ، لا الإضمار . وهذا ما نص عليه الزمخشري في كشافه موضوع ( رسالة السامرائي في الدكتوراه ) ؛ إذ قال :« فإن قلت :( ملك الناس إله الناس ) ما هما من ( رب الناس ) ؟ قلت : هما عطف بيان .. بُيِّن بـ( ملك الناس ) ، ثم زيد بيانًا بـ( إله الناس ) ؛ لأنه قد يقال لغيره : رب الناس .. وقد يقال : ملك الناس . وأمّا ( إله الناس ) فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان . فإن قلت : فهلاَّ اكتُفِيَ بإظهار المضاف إليه الذي هو ( الناس ) مرة واحدة ؟ قلت : لأن عطف البيان للبيان ، فكان مَظِنَّة للإظهار دون الإضمار » .
وقال البقاعي في نظم الدُّرر :« وكرر الاسم الظاهر دون أن يضمر ، فيقول مثلاً :( ملكهم ، إلههم ) ؛ تحقيقًا لهذا المعنى ، وتقوية له بإعادة اسمهم ، الدال على شدة الاضطراب ، المقتضي للحاجة عند كل اسم من أسمائه ، الدال على الكمال المقتضي للغنى المطلق ، ودلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها ؛ لبيان أنه المتصرف فيهم من جميع الجهات ، وبيانًا لشرف الإنسان ، ومزيد الاعتماد بمزيد البيان ؛ ولئلا يظن أن شيئًا من هذه الأسماء يتقيد بما أضيف إليه الذي قبله من ذلك الوجه ؛ لأن الضمير إذا أعيد كان المراد به عين ما عاد إليه ، فأشير بالإظهار إلى أن كل صفة منها عامة غير مقيدة بشيء أصلاً . واندرج في هذه الاستعاذة جميع وجوه الاستعاذات من جميع وجوه التربية ، وجميع الوجوه المنسوبة إلى المستعيذ ، من جهة أنه في قهر الملك بالضم ، وجميع الوجوه المنسوبة إلى الإلهية ؛ لئلا يقع خلل في وجه من تلك الوجوه ؛ تنزيلاً لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات ، إشعارًا بعظم الآفة المستعاذ منها . ولم يعطف بالواو ، لما فيها من الإيذان بالمغايرة ، والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات الواقعة على ذات واحدة ، حتى كأنها صفة واحدة » .
ثالثًا- ونعود إلى قوله الأول الذي زعم فيه أن الآيات ( قد تدرّجت من الكثرة إلى القلّة ، فالربّ هو المرشد الموجّه ، وقد يكون في المجتمع الواحد العديد من المرشدين والمربّين ؛ لكن لكل دولة أو مجتمع ملك واحد ، والدنيا فيها ملوك كثر ؛ ولكن إلهها وإلههم واحد ، فانتقل من الكثرة للقلة ، من حيث دلالة الكلمة بالعدد : الرب كثير ، الملك أقلّ ، وأما الإله فهو واحد ) .
وإلى نحو هذا القول ذهب ابن جزي ، نقل ذلك عنه ابن عجيبة في البحر المديد ، فقال :« والآية من باب الترقِّي ؛ وذلك أن ( الرب ) قد يطلق على كثير من الناس ، فتقول : فلان رب الدار ، وشبه ذلك ، فبدأ به لاشتراك معناه ، وأما ( المَلك ) فلا يوصف به إلا آحاد من الناس ، وهم الملوك ، ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس ؛ فلذلك جيء به بعد الرب ، وأما ( الإله ) فهو أعلى من المَلك ؛ ولذلك لا يَدَّعي الملوك أنهم آلهة ؛ وإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير » .
والفرق بين القولين : أن التدرج في الصفات ، أو الترقي فيها على قول السامرائي من ( الكثرة إلى القلة ) ، وعلى قول ابن جزي من ( الأدنى إلى الأعلى ) ، والقولان ليسا بشيء ؛ فليس في الآية ما يدل على كثرة وقلة ، أو أدنى وأعلى . ومتى كانت صفات الله عز وجل تقاس على صفات مخلوقاته ، حتى يقال فيها هذه الأقوال التي تمس بقدسيتها وجلالها ، وتجعل منها صفات لذوات مختلفة ؟ لاحظ قول العلامة المبدع :( فانتقل من الكثرة للقلة ، من حيث دلالة الكلمة بالعدد : الرب كثير ، الملك أقل ، وأما الإله فهو واحد ) ، تعالى الله عن ذلك ، وعلا علوًّا كبيرًا .
وكان المتوقع من العلامة السامرائي ، وهو يتحدث عن اللمسات البيانية في سورة الناس ، أن يستفيد مما ذكره ابن قيم الجوزية وغيره في التعليل لمجيء هذه الصفات الثلاثة على هذا الترتيب البديع ، كما استفاد في معظم ما أتى به في هذه اللمسات من كلام ابن قيم الجوزية ، فأكثر كلام السامرائي في هذه اللمسات مأخوذ من كلام ابن قيم الجوزية على ( المعوذتين ) ، ومع ذلك لم يستطع أن يأتي بشيء يسير فيها مما أتى به ابن القيم . يقول ابن القيم في التفسير القيم ، وفي بدائع الفوائد :« وقدَّم ( الربوبية ) لعمومها وشمولها لكل مربوب ، وأخَّر ( الإلهية ) لخصوصها ؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها ، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه ، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ؛ ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره ، ووسط صفة ( الملك ) بين ( الربوبية والإلهية ) ؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره ، فهو المطاع إذا أمر ، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم ؛ فملكه من كمال ربوبيته ، وكونه إلاههم الحق من كمال ملكه ، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه ، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها ، فهو الرب الحق ، الملك الحق ، الإله الحق خلقهم بربوبيته ، وقهرهم بملكه ، واستعبدهم بإلاهيته .. فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة ، على أبدع نظام وأحسن سياق : رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس » !
وهذا القول ذكره البقاعي في نظم الدُّرر ، وزاد عليه قوله :« وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الوحدانية ؛ لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة ، علم أن له مربيًا . فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى ، علم أنه غني عن الكل ، والكل إليه محتاج ، وعن أمره تجري أمورهم ، فيعلم أنه ملكهم . ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها » .
وهنا يكمن السر في مجيء هذه الصفات الثلاثة على هذا الترتيب البديع ، وهذا ما أشار إليه الرازي في التفسير الكبير بقوله :« بدأ بذكر ( الرب ) ، وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه ، وهو من أوائل نعمه ، إلى أن رباه وأعطاه العقل ، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك ، وهو ملكه ، فثنَّى بذكر ( الملك ) . ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه ( إله ) ؛ فلهذا ختم به » .
وهذا القول الذي قاله الرازي حكاه ابن عادل في تفسير اللباب عن ابن الخطيب ، وهو قول مختصر ، زيد بيانًا وتفصيلاً في ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ) ، فقد جاء فيه :« في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال :( رَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلَهِ النَّاسِ ) ؛ ولكأنها لأوَّل وهلة تشير إلى ( الرَّبِّ ، الْمَلِكِ ) هو ( الإلهُ الحقُّ ) الذي يستحق أن يعبَد وحده . ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة ( الإخلاص ) قبلها :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ ، وهذا هو منطق العقل والقول الحق ؛ لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية ، والعبودية تستلزم التأليهَ والتوحيد في الألوهيَّة ؛ لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك ، وإن كان مالكه عبدًا ، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه ؟ وكيف بالمالك الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث :( الرب ، الملك ، الإله ) في أوَّل افتتاحيَّة أوَّل المصحف :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾(الفاتحة: 2-4) ، والقراءة الأخرى :﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ . وفي أول سورة ( البقرة ) نداء موجَّه للناس بعبادة الله تعالى وحده ؛ لأنه ربهم ، مع بيان الموجبات لذلك ، في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾(البقرة: 21) ، ثم بيَّن الموجب لذلك بقوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾(البقرة: 21) ، وقوله تعالى :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾(البقرة: 22) . وهذا كله من آثار ( الربوبيَّة ) ، واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة . ثم بيَّن موجب إفراده وحده بذلك بقوله :﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 22). أي : كما أنه لا نِدَّ له في الخلْق ولا في الرزق ولا في شيء ممَّا ذكر ، فلا تجعلوا لله أندادًا أيضًا في عبادةٍ ، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك . وكون ( الربوبيَّة ) تستوجب العبادة جاء صريحًا في قوله تعالى :﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾(قريش: 3-4) ، فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة .
وفي مجيء قوله تعالى :﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾ بعد قوله :﴿ ِرَبِّ النَّاسِ ﴾ تدرُّجٌ في التنْبيه على تلك المعاني العظام ، وانتقالٌ بالعباد من مبدأ الإيمان بالرب ، لما شاهدوه من آثار الرُّبُوبِيَّةِ في المخلوق والرزق ، وجميع تلك الكائنات ؛ كما تقدَّم في أوَّل نداء وجِّه إليهم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 21- 22) .
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقرُّوا بموجبها ، بأن الذي أوجدها هو ربهم ، ومن ثَمَّ ينتقل بهم إلى الدرجة الثانية ، وهي أن ربهم الذي هذه أفعاله هو ملكهم ، وهو المتصرِّف في تلك العوالم ، وملك لأمرهم وجميع شئونهم ، وملك لأمر الدنيا والآخرة جميعًا . فإذا وصلوا بإقرارهم ِإلى هذا الإدراك ، أقرَّوا له ضرورةً بالألوهية ، وهي المرتبة النهاية ﴿ إِلَهِ النَّاسِ ﴾ . أَيْ : مألوههم ومعبودهم ، وهو ما خلقهم إليه ؛ كما قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾(الذاريات: 56) » .
قال البقاعي في نظم الدُّرر :« وهذه دائمًا طريقة القرآن ، يحتج عليهم بإقرارهم بتوحيدهم له في ( الربوبية والملك ) على ما أنكروه من ( توحيد الإلهية والعبادة ) . فمن كان ربهم وملكهم ، فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ، ولا يستعيذوا بغيره ؛ كما أن أحدهم إذا دهمه أمر استعاذ بوليه من أبناء جنسه واستغاث به . والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد ، فأحبوه واستأنسوا به ، ولجؤوا إليه في جميع أمورهم » .
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾(فاطر: 13) . قال الرازي :« أي : ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات والأرض وإرسال الأرواح وإرسال الرياح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك ، له الملك كله ، فلا معبود إلا هو لذاته الكامل ، ولكونه ملكًا . والملك مخدوم بقدر ملكه ، فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها ، ثم بين ما ينافي صفة الإلهية ، وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ .
وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما : أن الخلق بالقدرة الإرادة . والثاني : الملك ، واستدل بهما على أنه إله معبود ؛ كما قال تعالى :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس * مَلِكِ الناس * إله الناس ﴾ ، ذكر الرب والملك ، ورتب عليهما كونه إلهًا . أي : معبودًا ، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة ، وهو عدم الملك بقوله :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ ، ولم يذكر سلب الوصف الآخر ، لوجهين أحدهما : أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله ؛ وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها ، فقال : لا ملك لهم ، ولا ملَّكهم الله شيئًا ، ولا مَلَكوا شيئًا . وثانيهما : أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق ؛ لأنه لو خلق شيئًا لملكه ، فإذا لم يملك قطميرًا ، ما خلق قليلاً ولا كثيرًا » .
ونظير ذلك قوله تعالى في مطلع سورة النساء :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾(النساء: 1) ، وهو نداء للناس كافة ، يأمرهم بتقوى ( الربوبية ) ، مع بيان الموجب لذلك ، وهو خلقهم من نفس واحدة وخلق زوجها منها .. ثم أتبع بالأمر بتقوى ( الألوهيَّة ) . وقدم الأمر بتقوى الربوبية ؛ لأن لفظ ( الربَّ ) يدل على الإحسان والتربية ؛ إذ الربّ هو المالك الذي يَرِبُّ مملوكه ويحسن إليه ، ولا يكون إلا مطاعًا . قال موسى عليه السلام :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾(طه: 84) . أما لفظ ( الله ) فيدل على القهر والهيبة ، وهو اسم علم لله المنعم على عباده بنعمه التي لا تعد ولا تحصى ، وهو المتفضل بها عليهم . ولما كان المقام هنا مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة والجلالة والرهبة ، استعمل فيه اسم ( الله ) ، بخلاف مقام الربوبية الذي هو مقام ترغيب ، فبنى التقوى أولاً على الترغيب ، وثانيًا على الترهيب . ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقًا حذرًا عن العقاب العظيم ، وأن الثاني يدعو إليها وفاءً بالشكر الواجب .
وقد جعل الله سبحانه هذا المطلع ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ مطلعًا لسورتين : إحداهما : سورة النساء ، وهي الرابعة من النصف الأول من المصحف . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من نصفه الثاني . وعُلِّل في النساء الأمرُ بتقوى الرب جل وعلا بما يدل على معرفة المبدأ ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾(النساء: 1) ، وعُلِّل في سورة الحج بزلزلة الساعة بما يدل على معرفة المعاد ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾(الحج: 1 ) ، فكان ارتباط قوله تعالى :﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ بقوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ من سورة النساء ، وبقوله سبحانه :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ من سورة الحج ، في غاية الحسن والانتظام ؛ إذ جعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، ثم قدم السورة الدالة على معرفة المبدأ على السورة الدالة على معرفة المعاد .. فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية وحكم مطوية ، لا يعرفها إلا الخواصُّ من عباده .
ومن تأمَّل براهين القرآن على وحدانيَّة الله تعالى وتفرده بالإلهية ، وعلى قدرته على البعث ، وهما أهمُّ القضايا العقائديَّة ، يجد أهمَّها وأوضحها وأكثرها هو دليل الربوبيَّة المتضمن معنى : الملك والتدبير ، والخلق والتصوير ؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(غافر: 64) .
وبهذه النصوص وغيرها كثير يتبيَّن لك سر البيان في مجيء هذه الصفات ( رَبّ الناس * مَلِكِ الناس * إله الناس ) على هذا الترتيب البديع ، وهذا ما لم يصل إليه علم السامرائي بعد ، ولم يدخل في دائرة إبداعه ، ولن يدخل أبدًا ؛ ولهذا تجده كمن يخبط في الوحل خبط عشواء ، وتراه يشرق ويغرب ضاربًا أخماسًا لأسداس ؛ ليوهم المشاهدين بأنه قد أتاهم بجديد ، فيتوهمون ويصفقون ، وهكذا يخدع نفسه ويخدعهم بتلك التأويلات الغريبة العجيبة ، وينخدع هو بما يثنون به عليه ، فيحسب أنه بذلك قد أحسن صنعًا .
رابعًا- بقي أن تعلم أن الله تعالى قال في فاتحة الكتاب :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ ، وقال في آل عمران :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾(آل عمران: 26) ، وقال في خاتمة الكتاب :﴿ مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ ، فذكر سبحانه في فاتحة الكتاب أنه ( مالك يوم الدين ) ، وذكر في آل عمران أنه ( مالك الملك ) ، وذكر في خاتمة الكتاب أنه ( ملك الناس ) . قال البقاعي :« وقد أجمع القراء هنا على إسقاط الألف من ( ملك ) ، بخلاف الفاتحة ؛ لأن ( الملك ) إذا أضيف إلى ( اليوم ) أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى المُلْك ، بالضم . وأما إضافة ( المالك ) إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرىء به هنا لنقص المعنى . وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه ؛ لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء . والمِلْك ، بكسر الميم ، أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ؛ وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وأن باديه إلى الخافي يسير » .
وقال الرازي في سورة الناس :« لا يجوز ههنا :( مالك الناس ) ، ويجوز :( مالك يوم الدين ) في سورة الفاتحة ، والفرق أن قوله :( رب الناس ) أفاد كونه مالكًا لهم ، فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ؛ ليفيد أنه مالك ، ومع كونه مالكًا فهو ملك . فإن قيل : أليس قال في سورة الفاتحة :( رب العالمين ) ، ثم قال :( مالك يوم الدين ) ، فليزم وقوع التكرار هناك ؟ قلنا : اللفظ دل على أنه رب العالمين ، وهي الأشياء الموجودة في الحال ، وعلى أنه مالك ليوم الدين . أي : قادر عليه ، فهناك ( الرب ) مضاف إلى شيء ، و( المالك ) إلى شيء آخر ، فلم يلزم التكرير . وأما ههنا ، لو ذكر ( المالك ) لكان ( الرب والمالك ) مضافين إلى شيء واحد ، فيلزم منه التكرير ، فظهر الفرق . وأيضًا ، فجواز القراءات يتبع النزول ، لا القياس ، وقد قرىء :( مالك ) ؛ لكن في الشواذ » .
وقال ابن عاشور في سورة الفاتحة :« وقوله :( مَلِك ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم ، وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ( مَالِك ) بالألف ؛ فالأول صفة مشبهة صارت اسمًا لصاحب المُلْك ، بضم الميم ، والثاني اسم فاعل من مَلِك إذا اتصف بالمِلْك ، بكسر الميم ، وكلاهما مشتق من ( مَلَك ) . فأصل مادة ( مَلَك ) في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشدِّ والضبط ، كما قاله ابن عطية ، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز ، والتحقيق والاعتبار . وقراءة ( مَلِك ) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين ؛ لأن ( المَلِك ) ، بفتح الميم وكسر اللام ، هو ذو المُلْك ، بضم الميم ، والمُلْك أخص من المِلْك ؛ إذ المُلْك ، بضم الميم ، هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ، ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم ؛ فلذالك يقال : مَلِكُ الناس ، ولا يقال : مَلِكُ الدواب ، أو الدراهم . وأما المِلْكُ ، بكسر الميم ، فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره » .
وأضاف ابن عاشور قائلاً :« وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة ( مَلِك ) ، بدون ألف ، وقراءة ( مَالِك ) ، بالألف ، من خصوصيات ، بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ( ملك ) ، ومفهوم كلمة ( مالك ) ، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى ( يوم الدين ) . فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك . ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة ( ملك ) ، أو ( مالك ) إلى ( يوم ) بتأويل شؤون يوم الدين ، على أن ( مالك ) لغة في ( ملك ) ، ففي القاموس : وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك » . يريد : أن معنى ( مَليك ، ومَلِك ، ومَالك ) : ذو المُلك . أي : صاحب المُلْك . والمُلْك : العظمة والسلطان ؛ كقوله تعالى :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾(غافر: 16) . وفي تاج العروس :« والمَلْكُ ، بالفَتْحِ ، وكـ( كَتِف وأَمِيرِ وصاحِبِ ) : ذُو المُلْكِ ، وبهِنَّ قُرِئَ قوله تعالى :( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) و( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) و( مَلِيكِ يَومِ الدِّينِ ) و( مَلْكِ يَومِ الدِّينِ ) » .. والله تعالى أعلم بمراده ، وأسرار بيانه ، والحمد لله رب العالمين !
أولاً- ( الرَّبُّ ، والمَلِكُ ، والإلَهُ ) صفات ثلاثة من صفات العظمة والكمال لله تعالى ، اجتمعت معًا في ( سورة الناس ) ، إحدى المعوذتين ، مضافة إلى ( الناس ) خاصة ، مع انتظام جميع العالَمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وإلهيته ؛ لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾(الناس: 1- 3) .
وقد تصدى بعض علماء التفسير واللغة والبيان لبيان سِرِّ مجيء هذه الصفات الثلاثة ( الربوبيَّة ، والمًلْك ، والإلهيَّة ) على هذا الترتيب البديع ، وتكرار لفظ ( الناس ) مع كل صفة منها ، مع عدم العطف بالواو .. وكان آخر من تكلم على ذلك من المعاصرين ، وخاض فيه العلامة الدكتور فاضل السامرائي ، في ( لمسات بيانية في سورة الناس ) ، فقال في ذلك ما نصُّه :
1- « وقد تدرّجت الآيات من ( الكثرة ) إلى ( القلّة ) ، فالربّ هو المرشد الموجّه ، وقد يكون في المجتمع الواحد العديد من المرشدين والمربّين ؛ لكن لكل دولة أو مجتمع ملك واحد ، والدنيا فيها ملوك كثر ؛ ولكن إلهها وإلههم واحد ، فانتقل من ( الكثرة للقلة ) ، من حيث دلالة الكلمة بالعدد : الرب كثير ، الملك أقلّ ، وأما الإله فهو واحد » .
2- ثم قال :« وردت كلمة الناس ( 3 ) مرات في السورة ، و( كل منها تعني مجموعة من الناس مختلفة عن غيرها ) ، نوضحها فيما يلي :
كلمة الناس تطلق على مجموعة قليلة من الناس ، أو واحد من الناس ، أو كل الناس . والربّ هو مُرشد مجموعة من الناس قد تكون قليلة ، أو كثيرة . أما الملك فناسه أكثر من ناس المربي . وأما الإله فهو إله كل الناس ، وناسه الأكثر حَتمًا .
ولو قالت الآيات :( أعوذ برب الناس ، وملكهم ، وإلههم ) ، لعاد المعنى كله ( إلى المجموعة الأولى من الناس ) ، ناس الرب ، دون أن يشمل غيرهم ؛ لذلك لا يغني الضمير هنا ، بل لا بد من تكرار المضاف إليه مذكورًا صريحًا ؛ لأن ( لكل معنى مختلف ) » .
3- وانتهى السامرائي من ذلك إلى القول :« فالتدرج في الصفات بدأ من ( الكثرة إلى القلة ) . أما في المضاف إليه الناس فبالعكس من ( القلة إلى الكثرة ) ، فناس المربي أقل ، وناس الملك أكثر ، وناس الإله هم الأكثر » .
ثانيًا- هذا الكلام الذي سحر الكثير من الناس وذهب بعقولهم وأغشى بصائرهم ، فجعلوا يتسابقون ويتبارون في نقله ونشره ، لا قيمة له في الحقيقة ولا وزن ؛ فهو ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ ، هذه هي الحقيقة المرة التي لا يستطيع إدراكها إلا من سلم عقله من المَسِّ وبصيرته من العمى . وكثير أولئك الذين خدعوا بكلام هذا الرجل الخُلَّبيِّ ؛ كهذا الكلام الذي بين أيدينا ، وسأبدأ بقوله الثاني ؛ لأنه يُعدُّ ثمرة من ثمرات إبداعه الذي لا حدود له ، وأثرًا من آثار فتوح العارفين الذي فتحه الله تعالى عليه ، وهو قوله الذي زعم فيه : أن التدرج في لفظ ( الناس ) بدأ من ( القلة إلى الكثرة ) ، عكس التدرج في الصفات ؛ إذ بدأ من ( الكثرة إلى القلة ) ، وخلص منه إلى أن ( ناس المربي أقل ، وناس الملك أكثر ، وناس الإله هم الأكثر ) . وهذا الزعم الباطل جعله يقسم الناس إلى ثلاث مجموعات :
( كل منها تعني مجموعة من الناس مختلفة عن غيرها )
فمجموعة ( الرب ) غير مجموعة ( الملك ) ، ومجموعة الملك غير مجموعة ( الإله ) . ولم يدر أن الناس هم الناس ، والرب هو الملك ، والملك هو مالك الملك ، وهو الإله الذي لا إله غيره . وهكذا زينت له نفسه سوء قوله ، وحمله خياله الواسع إلى الإلحاد في تأويل كلام الله سبحانه ، فأتى بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان ، فجعل ناس ( الرب ) أقل من ناس ( الملك ) ، وناس ( الملك ) أقل من ناس ( الإله ) ، وزعم أن لكل مجموعته التي تختلف عن مجموعة الآخر ، وأن الله سبحانه تدرج في هذه المجموعات من ( القليل إلى الكثير ) ، بعد أن تدرج في الصفات من ( الكثير إلى القليل ) .. تعالى الله عن ذلك ، وعلا علوًّا كبيرًا !
ويذكرني قول السامرائي هذا بقول حكاه النسفي في تفسيره في التعليل لتكرار لفظ ( الناس ) في السورة خمس مرات ، فقال :« وقيل : أراد بالأول ( الأطفال ) ، ومعنى الربوبية يدل عليه ، وبالثاني ( الشبَّان ) ، ولفظ الملك المنبئ عن السياسة يدل عليه ، وبالثالث ( الشيوخ ) ، ولفظ الإله المنبىءُ عن العبادة يدل عليه ، وبالرابع ( الصالحين ) ، إذ الشيطان مولع بإغوائهم ، وبالخامس ( المفسدين ) ، لعطفه على المعوذ منه » . ولا يستبعد أبدًا أن يكون السامرائي قد استوحى قوله السابق من هذا القول المستهجن الغريب ، ويدل على ذلك أنك تجد تلميحات وإشارات إلى ( الأطفال والشباب والشيوخ ) في قول له تقدم أقواله السابقة التي ذكرناه ، وهو قوله :
« فالأجنة هي البداية ، ثم يخرج الناس للحياة ؛ ليواجهوا المربي الذي يقدم لهم ما يحتاجونه ، من تربية ورعاية ، فإذا كبروا احتاجوا إلى المجتمع وما ينظم علاقتهم به ، ثم يأتي سن التكليف حيث يحاسبه الإله . والمجتمعات عمومًا بين الربوبية ، والملك ، فكل مجتمع يحتاج صغاره إلى المربي ، ثم إلى السلطة . أما الألوهية فتتأخر » .
ومن المؤسف أن يتبنى هذا القول عالم مبدع كالسامرائي ، ويردده على مسامع المشاهدين ، ولست أدري كيف ينطلي هذا القول وأمثاله على الخاصة من الناس قبل عامتهم ، وفساده ظاهر بيِّن لا يخفى عن أحد ! وكان المنتظر من السامرائي أن يطلع على أقوال المفسرين واللغويين في هذه الآيات ، وأن يستفيد من تعليلاتهم ، ثم يقدمها للمشاهدين بعد التحقيق والتمحيص بأسلوب شيق ، وليس كأسلوبه كما يصفه المعجبون . ولو أنه فعل ذلك ، لكان أجدى له وللمشاهدين وأنفع ؛ ولكنه السامرائي ، وما أدراك ما السامرائي ، يأبى إلا أن يظهر للناس براعته ، ويطلعهم على سعة علمه وإحاطته بكل شيء ، فيأتي بما لا يحسد عليه .
وأول شيء كان ينبغي أن يتذكره العلامة السامرائي أن لفظ ( الناس ) اسم جَمْع للبشر جميعهم ، أو لطائفة منهم ، وأن تعريفه هنا للاستغراق العرفي ؛ فعندما يقول الله جل وعلا :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ ، يعني : رب جميع الناس ، وملك جميع الناس ، وإله جميع الناس الذين يخطرون بالبال ، من عهد آدم إلى يوم القيامة ؛ لعدم إرادة معهودين معينين ، ولاستحالة دخول كل الناس في دين الله بدليل المشاهدة .
فالله سبحانه هو ( ِرَبِّ النَّاسِ ) جميعهم ، وهو سبحانه ( رَبُّ العَالَمِينَ ) ، و( رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) ؛ كما قال تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الفاتحة: 2) ، ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾(الأنعام: 164) . ولما سأل فرعون اللعين موسى عليه السلام :﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(الشعراء: 23) ؟ أجابه موسى عليه السلام بقوله :﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴾(الشعراء: 24) . والرب هو المالك ، والخالق ، والصاحب ، وهو المصلح للشيء والقائم عليه ، ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن . تقول : رَبَّه يَرِبُّه فهو رَبٌّ . ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل . والله جل ثناؤه هو الربُّ ؛ لأنه مصلح أحوال خلقه ، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده ، وهو في غيره على التقيد بالإضافة ، كقولهم : رب الدار ، ورب الناقة . والملك لا يكون ملكًا إلا إذا كان ربًّا مالكًا ، ويدلُّ أصل اشتقاقه على قوّةٍ في الشيء وصحة . يقال : أملَكَ عجِينَه . أي : قوَّى عَجنَه وشَدَّه . وملَّكتُ الشَّيءَ : قوَّيتُه . والإله الحق هو المعبود بحق ، ولا يكون الإله إلهًا حقًّا إلا إذا كان ربًّا وملكًا .
والله سبحانه هو رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، وليس رب فئة واحدة ، أو عنصر واحد ، أو مجموعة بشربة واحدة ! فكيف بقال : إنه ربٌّ لناس قليلين ، وإن ناسه أقل من ناس الملك ، وناس الملك أقل من ناس الإله ، والإله هو الملك ، والملك هو الرب ، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الدخان: 7- ، و﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾(الحشر: 23) ، ﴿ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾(البقرة: 133) ؟ فإله الآباء والأجداد من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة هو ربهم الذي خلقهم وملك بتربيته لهم أمرهم ، وهو ملكهم المتصرف في شئونهم كلها ، وهو وحده المستحق للعبادة .
ولم يكتف العلامة السامرائي بأن فرَّق بين ( الرب ) ، و( الملك ) ، و( الإله ) ، حين جعل لكل منهم جماعته من الناس التي تختلف عن جماعة الآخر ، بل أكد ذلك بقوله :( ولو قالت الآيات : أعوذ برب الناس ، وملكهم ، وإلههم ، لعاد المعنى كله إلى المجموعة الأولى من الناس ، ناس الرب ، دون أن يشمل غيرهم ؛ لذلك لا يغني الضمير هنا ، بل لا بد من تكرار المضاف إليه مذكورًا صريحًا ؛ لأن لكل معنى مختلف ) .
ولم يدر العلامة السامرائي ، وأنى له أن يدري ، أن لفظ ( الناس ) كُرِّر مع ( ملك الناس ) ، و( إله الناس ) ؛ لأن كل واحد منهما عطف بيان من ( رب الناس ) ، وعطف البيان يقتضي الإظهار ، لا الإضمار . وهذا ما نص عليه الزمخشري في كشافه موضوع ( رسالة السامرائي في الدكتوراه ) ؛ إذ قال :« فإن قلت :( ملك الناس إله الناس ) ما هما من ( رب الناس ) ؟ قلت : هما عطف بيان .. بُيِّن بـ( ملك الناس ) ، ثم زيد بيانًا بـ( إله الناس ) ؛ لأنه قد يقال لغيره : رب الناس .. وقد يقال : ملك الناس . وأمّا ( إله الناس ) فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان . فإن قلت : فهلاَّ اكتُفِيَ بإظهار المضاف إليه الذي هو ( الناس ) مرة واحدة ؟ قلت : لأن عطف البيان للبيان ، فكان مَظِنَّة للإظهار دون الإضمار » .
وقال البقاعي في نظم الدُّرر :« وكرر الاسم الظاهر دون أن يضمر ، فيقول مثلاً :( ملكهم ، إلههم ) ؛ تحقيقًا لهذا المعنى ، وتقوية له بإعادة اسمهم ، الدال على شدة الاضطراب ، المقتضي للحاجة عند كل اسم من أسمائه ، الدال على الكمال المقتضي للغنى المطلق ، ودلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها ؛ لبيان أنه المتصرف فيهم من جميع الجهات ، وبيانًا لشرف الإنسان ، ومزيد الاعتماد بمزيد البيان ؛ ولئلا يظن أن شيئًا من هذه الأسماء يتقيد بما أضيف إليه الذي قبله من ذلك الوجه ؛ لأن الضمير إذا أعيد كان المراد به عين ما عاد إليه ، فأشير بالإظهار إلى أن كل صفة منها عامة غير مقيدة بشيء أصلاً . واندرج في هذه الاستعاذة جميع وجوه الاستعاذات من جميع وجوه التربية ، وجميع الوجوه المنسوبة إلى المستعيذ ، من جهة أنه في قهر الملك بالضم ، وجميع الوجوه المنسوبة إلى الإلهية ؛ لئلا يقع خلل في وجه من تلك الوجوه ؛ تنزيلاً لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات ، إشعارًا بعظم الآفة المستعاذ منها . ولم يعطف بالواو ، لما فيها من الإيذان بالمغايرة ، والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات الواقعة على ذات واحدة ، حتى كأنها صفة واحدة » .
ثالثًا- ونعود إلى قوله الأول الذي زعم فيه أن الآيات ( قد تدرّجت من الكثرة إلى القلّة ، فالربّ هو المرشد الموجّه ، وقد يكون في المجتمع الواحد العديد من المرشدين والمربّين ؛ لكن لكل دولة أو مجتمع ملك واحد ، والدنيا فيها ملوك كثر ؛ ولكن إلهها وإلههم واحد ، فانتقل من الكثرة للقلة ، من حيث دلالة الكلمة بالعدد : الرب كثير ، الملك أقلّ ، وأما الإله فهو واحد ) .
وإلى نحو هذا القول ذهب ابن جزي ، نقل ذلك عنه ابن عجيبة في البحر المديد ، فقال :« والآية من باب الترقِّي ؛ وذلك أن ( الرب ) قد يطلق على كثير من الناس ، فتقول : فلان رب الدار ، وشبه ذلك ، فبدأ به لاشتراك معناه ، وأما ( المَلك ) فلا يوصف به إلا آحاد من الناس ، وهم الملوك ، ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس ؛ فلذلك جيء به بعد الرب ، وأما ( الإله ) فهو أعلى من المَلك ؛ ولذلك لا يَدَّعي الملوك أنهم آلهة ؛ وإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير » .
والفرق بين القولين : أن التدرج في الصفات ، أو الترقي فيها على قول السامرائي من ( الكثرة إلى القلة ) ، وعلى قول ابن جزي من ( الأدنى إلى الأعلى ) ، والقولان ليسا بشيء ؛ فليس في الآية ما يدل على كثرة وقلة ، أو أدنى وأعلى . ومتى كانت صفات الله عز وجل تقاس على صفات مخلوقاته ، حتى يقال فيها هذه الأقوال التي تمس بقدسيتها وجلالها ، وتجعل منها صفات لذوات مختلفة ؟ لاحظ قول العلامة المبدع :( فانتقل من الكثرة للقلة ، من حيث دلالة الكلمة بالعدد : الرب كثير ، الملك أقل ، وأما الإله فهو واحد ) ، تعالى الله عن ذلك ، وعلا علوًّا كبيرًا .
وكان المتوقع من العلامة السامرائي ، وهو يتحدث عن اللمسات البيانية في سورة الناس ، أن يستفيد مما ذكره ابن قيم الجوزية وغيره في التعليل لمجيء هذه الصفات الثلاثة على هذا الترتيب البديع ، كما استفاد في معظم ما أتى به في هذه اللمسات من كلام ابن قيم الجوزية ، فأكثر كلام السامرائي في هذه اللمسات مأخوذ من كلام ابن قيم الجوزية على ( المعوذتين ) ، ومع ذلك لم يستطع أن يأتي بشيء يسير فيها مما أتى به ابن القيم . يقول ابن القيم في التفسير القيم ، وفي بدائع الفوائد :« وقدَّم ( الربوبية ) لعمومها وشمولها لكل مربوب ، وأخَّر ( الإلهية ) لخصوصها ؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها ، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه ، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ؛ ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره ، ووسط صفة ( الملك ) بين ( الربوبية والإلهية ) ؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره ، فهو المطاع إذا أمر ، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم ؛ فملكه من كمال ربوبيته ، وكونه إلاههم الحق من كمال ملكه ، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه ، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها ، فهو الرب الحق ، الملك الحق ، الإله الحق خلقهم بربوبيته ، وقهرهم بملكه ، واستعبدهم بإلاهيته .. فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة ، على أبدع نظام وأحسن سياق : رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس » !
وهذا القول ذكره البقاعي في نظم الدُّرر ، وزاد عليه قوله :« وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الوحدانية ؛ لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة ، علم أن له مربيًا . فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى ، علم أنه غني عن الكل ، والكل إليه محتاج ، وعن أمره تجري أمورهم ، فيعلم أنه ملكهم . ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها » .
وهنا يكمن السر في مجيء هذه الصفات الثلاثة على هذا الترتيب البديع ، وهذا ما أشار إليه الرازي في التفسير الكبير بقوله :« بدأ بذكر ( الرب ) ، وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه ، وهو من أوائل نعمه ، إلى أن رباه وأعطاه العقل ، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك ، وهو ملكه ، فثنَّى بذكر ( الملك ) . ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه ( إله ) ؛ فلهذا ختم به » .
وهذا القول الذي قاله الرازي حكاه ابن عادل في تفسير اللباب عن ابن الخطيب ، وهو قول مختصر ، زيد بيانًا وتفصيلاً في ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ) ، فقد جاء فيه :« في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال :( رَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلَهِ النَّاسِ ) ؛ ولكأنها لأوَّل وهلة تشير إلى ( الرَّبِّ ، الْمَلِكِ ) هو ( الإلهُ الحقُّ ) الذي يستحق أن يعبَد وحده . ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة ( الإخلاص ) قبلها :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ ، وهذا هو منطق العقل والقول الحق ؛ لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية ، والعبودية تستلزم التأليهَ والتوحيد في الألوهيَّة ؛ لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك ، وإن كان مالكه عبدًا ، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه ؟ وكيف بالمالك الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث :( الرب ، الملك ، الإله ) في أوَّل افتتاحيَّة أوَّل المصحف :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾(الفاتحة: 2-4) ، والقراءة الأخرى :﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ . وفي أول سورة ( البقرة ) نداء موجَّه للناس بعبادة الله تعالى وحده ؛ لأنه ربهم ، مع بيان الموجبات لذلك ، في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾(البقرة: 21) ، ثم بيَّن الموجب لذلك بقوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾(البقرة: 21) ، وقوله تعالى :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾(البقرة: 22) . وهذا كله من آثار ( الربوبيَّة ) ، واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة . ثم بيَّن موجب إفراده وحده بذلك بقوله :﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 22). أي : كما أنه لا نِدَّ له في الخلْق ولا في الرزق ولا في شيء ممَّا ذكر ، فلا تجعلوا لله أندادًا أيضًا في عبادةٍ ، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك . وكون ( الربوبيَّة ) تستوجب العبادة جاء صريحًا في قوله تعالى :﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾(قريش: 3-4) ، فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة .
وفي مجيء قوله تعالى :﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾ بعد قوله :﴿ ِرَبِّ النَّاسِ ﴾ تدرُّجٌ في التنْبيه على تلك المعاني العظام ، وانتقالٌ بالعباد من مبدأ الإيمان بالرب ، لما شاهدوه من آثار الرُّبُوبِيَّةِ في المخلوق والرزق ، وجميع تلك الكائنات ؛ كما تقدَّم في أوَّل نداء وجِّه إليهم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 21- 22) .
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقرُّوا بموجبها ، بأن الذي أوجدها هو ربهم ، ومن ثَمَّ ينتقل بهم إلى الدرجة الثانية ، وهي أن ربهم الذي هذه أفعاله هو ملكهم ، وهو المتصرِّف في تلك العوالم ، وملك لأمرهم وجميع شئونهم ، وملك لأمر الدنيا والآخرة جميعًا . فإذا وصلوا بإقرارهم ِإلى هذا الإدراك ، أقرَّوا له ضرورةً بالألوهية ، وهي المرتبة النهاية ﴿ إِلَهِ النَّاسِ ﴾ . أَيْ : مألوههم ومعبودهم ، وهو ما خلقهم إليه ؛ كما قال تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾(الذاريات: 56) » .
قال البقاعي في نظم الدُّرر :« وهذه دائمًا طريقة القرآن ، يحتج عليهم بإقرارهم بتوحيدهم له في ( الربوبية والملك ) على ما أنكروه من ( توحيد الإلهية والعبادة ) . فمن كان ربهم وملكهم ، فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ، ولا يستعيذوا بغيره ؛ كما أن أحدهم إذا دهمه أمر استعاذ بوليه من أبناء جنسه واستغاث به . والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد ، فأحبوه واستأنسوا به ، ولجؤوا إليه في جميع أمورهم » .
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾(فاطر: 13) . قال الرازي :« أي : ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات والأرض وإرسال الأرواح وإرسال الرياح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك ، له الملك كله ، فلا معبود إلا هو لذاته الكامل ، ولكونه ملكًا . والملك مخدوم بقدر ملكه ، فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها ، ثم بين ما ينافي صفة الإلهية ، وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ .
وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما : أن الخلق بالقدرة الإرادة . والثاني : الملك ، واستدل بهما على أنه إله معبود ؛ كما قال تعالى :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس * مَلِكِ الناس * إله الناس ﴾ ، ذكر الرب والملك ، ورتب عليهما كونه إلهًا . أي : معبودًا ، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة ، وهو عدم الملك بقوله :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ ، ولم يذكر سلب الوصف الآخر ، لوجهين أحدهما : أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله ؛ وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها ، فقال : لا ملك لهم ، ولا ملَّكهم الله شيئًا ، ولا مَلَكوا شيئًا . وثانيهما : أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق ؛ لأنه لو خلق شيئًا لملكه ، فإذا لم يملك قطميرًا ، ما خلق قليلاً ولا كثيرًا » .
ونظير ذلك قوله تعالى في مطلع سورة النساء :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾(النساء: 1) ، وهو نداء للناس كافة ، يأمرهم بتقوى ( الربوبية ) ، مع بيان الموجب لذلك ، وهو خلقهم من نفس واحدة وخلق زوجها منها .. ثم أتبع بالأمر بتقوى ( الألوهيَّة ) . وقدم الأمر بتقوى الربوبية ؛ لأن لفظ ( الربَّ ) يدل على الإحسان والتربية ؛ إذ الربّ هو المالك الذي يَرِبُّ مملوكه ويحسن إليه ، ولا يكون إلا مطاعًا . قال موسى عليه السلام :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾(طه: 84) . أما لفظ ( الله ) فيدل على القهر والهيبة ، وهو اسم علم لله المنعم على عباده بنعمه التي لا تعد ولا تحصى ، وهو المتفضل بها عليهم . ولما كان المقام هنا مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة والجلالة والرهبة ، استعمل فيه اسم ( الله ) ، بخلاف مقام الربوبية الذي هو مقام ترغيب ، فبنى التقوى أولاً على الترغيب ، وثانيًا على الترهيب . ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقًا حذرًا عن العقاب العظيم ، وأن الثاني يدعو إليها وفاءً بالشكر الواجب .
وقد جعل الله سبحانه هذا المطلع ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ مطلعًا لسورتين : إحداهما : سورة النساء ، وهي الرابعة من النصف الأول من المصحف . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من نصفه الثاني . وعُلِّل في النساء الأمرُ بتقوى الرب جل وعلا بما يدل على معرفة المبدأ ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾(النساء: 1) ، وعُلِّل في سورة الحج بزلزلة الساعة بما يدل على معرفة المعاد ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾(الحج: 1 ) ، فكان ارتباط قوله تعالى :﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ بقوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ من سورة النساء ، وبقوله سبحانه :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ من سورة الحج ، في غاية الحسن والانتظام ؛ إذ جعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، ثم قدم السورة الدالة على معرفة المبدأ على السورة الدالة على معرفة المعاد .. فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية وحكم مطوية ، لا يعرفها إلا الخواصُّ من عباده .
ومن تأمَّل براهين القرآن على وحدانيَّة الله تعالى وتفرده بالإلهية ، وعلى قدرته على البعث ، وهما أهمُّ القضايا العقائديَّة ، يجد أهمَّها وأوضحها وأكثرها هو دليل الربوبيَّة المتضمن معنى : الملك والتدبير ، والخلق والتصوير ؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(غافر: 64) .
وبهذه النصوص وغيرها كثير يتبيَّن لك سر البيان في مجيء هذه الصفات ( رَبّ الناس * مَلِكِ الناس * إله الناس ) على هذا الترتيب البديع ، وهذا ما لم يصل إليه علم السامرائي بعد ، ولم يدخل في دائرة إبداعه ، ولن يدخل أبدًا ؛ ولهذا تجده كمن يخبط في الوحل خبط عشواء ، وتراه يشرق ويغرب ضاربًا أخماسًا لأسداس ؛ ليوهم المشاهدين بأنه قد أتاهم بجديد ، فيتوهمون ويصفقون ، وهكذا يخدع نفسه ويخدعهم بتلك التأويلات الغريبة العجيبة ، وينخدع هو بما يثنون به عليه ، فيحسب أنه بذلك قد أحسن صنعًا .
رابعًا- بقي أن تعلم أن الله تعالى قال في فاتحة الكتاب :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ ، وقال في آل عمران :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾(آل عمران: 26) ، وقال في خاتمة الكتاب :﴿ مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ ، فذكر سبحانه في فاتحة الكتاب أنه ( مالك يوم الدين ) ، وذكر في آل عمران أنه ( مالك الملك ) ، وذكر في خاتمة الكتاب أنه ( ملك الناس ) . قال البقاعي :« وقد أجمع القراء هنا على إسقاط الألف من ( ملك ) ، بخلاف الفاتحة ؛ لأن ( الملك ) إذا أضيف إلى ( اليوم ) أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى المُلْك ، بالضم . وأما إضافة ( المالك ) إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرىء به هنا لنقص المعنى . وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه ؛ لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء . والمِلْك ، بكسر الميم ، أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ؛ وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وأن باديه إلى الخافي يسير » .
وقال الرازي في سورة الناس :« لا يجوز ههنا :( مالك الناس ) ، ويجوز :( مالك يوم الدين ) في سورة الفاتحة ، والفرق أن قوله :( رب الناس ) أفاد كونه مالكًا لهم ، فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ؛ ليفيد أنه مالك ، ومع كونه مالكًا فهو ملك . فإن قيل : أليس قال في سورة الفاتحة :( رب العالمين ) ، ثم قال :( مالك يوم الدين ) ، فليزم وقوع التكرار هناك ؟ قلنا : اللفظ دل على أنه رب العالمين ، وهي الأشياء الموجودة في الحال ، وعلى أنه مالك ليوم الدين . أي : قادر عليه ، فهناك ( الرب ) مضاف إلى شيء ، و( المالك ) إلى شيء آخر ، فلم يلزم التكرير . وأما ههنا ، لو ذكر ( المالك ) لكان ( الرب والمالك ) مضافين إلى شيء واحد ، فيلزم منه التكرير ، فظهر الفرق . وأيضًا ، فجواز القراءات يتبع النزول ، لا القياس ، وقد قرىء :( مالك ) ؛ لكن في الشواذ » .
وقال ابن عاشور في سورة الفاتحة :« وقوله :( مَلِك ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم ، وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ( مَالِك ) بالألف ؛ فالأول صفة مشبهة صارت اسمًا لصاحب المُلْك ، بضم الميم ، والثاني اسم فاعل من مَلِك إذا اتصف بالمِلْك ، بكسر الميم ، وكلاهما مشتق من ( مَلَك ) . فأصل مادة ( مَلَك ) في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشدِّ والضبط ، كما قاله ابن عطية ، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز ، والتحقيق والاعتبار . وقراءة ( مَلِك ) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين ؛ لأن ( المَلِك ) ، بفتح الميم وكسر اللام ، هو ذو المُلْك ، بضم الميم ، والمُلْك أخص من المِلْك ؛ إذ المُلْك ، بضم الميم ، هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ، ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم ؛ فلذالك يقال : مَلِكُ الناس ، ولا يقال : مَلِكُ الدواب ، أو الدراهم . وأما المِلْكُ ، بكسر الميم ، فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره » .
وأضاف ابن عاشور قائلاً :« وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة ( مَلِك ) ، بدون ألف ، وقراءة ( مَالِك ) ، بالألف ، من خصوصيات ، بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ( ملك ) ، ومفهوم كلمة ( مالك ) ، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى ( يوم الدين ) . فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك . ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة ( ملك ) ، أو ( مالك ) إلى ( يوم ) بتأويل شؤون يوم الدين ، على أن ( مالك ) لغة في ( ملك ) ، ففي القاموس : وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك » . يريد : أن معنى ( مَليك ، ومَلِك ، ومَالك ) : ذو المُلك . أي : صاحب المُلْك . والمُلْك : العظمة والسلطان ؛ كقوله تعالى :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾(غافر: 16) . وفي تاج العروس :« والمَلْكُ ، بالفَتْحِ ، وكـ( كَتِف وأَمِيرِ وصاحِبِ ) : ذُو المُلْكِ ، وبهِنَّ قُرِئَ قوله تعالى :( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) و( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) و( مَلِيكِ يَومِ الدِّينِ ) و( مَلْكِ يَومِ الدِّينِ ) » .. والله تعالى أعلم بمراده ، وأسرار بيانه ، والحمد لله رب العالمين !