من الآيات المتعلقة بحرية الاعتقاد، ما جاء في قوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي }
(البقرة:256)، فقد جاءت هذه الآية عقب آية الكرسي، التي أخبرت عن عظيم
قدرته سبحانه، وكمال علمه. فماذا عن سبب نزول هذه الآية، وما هو المراد
منها؟
تذكر كتب أسباب النزول وكتب التفسير بعضاً من الأخبار الواردة في سبب نزول هذه الآية، من ذلك:
ما روي عن ابن عباس رضي
الله عنهما، أنه قال: كانت المرأة تكون مقلاتاً، فتجعل على نفسها، إن عاش
لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار،
فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي }، رواه أبو داود و النسائي . و(المقلات): التي لا يعيش لها ولد.
وهذا الحديث عمدة ما روي في سبب نزول هذه الآية؛ لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي. وقد روي عن مجاهد و ابن جبير و الشعبي و الحسن البصري وغيرهم: أن الآية نزلت في ذلك.
وروي عن ابن عباس أيضاً،
أنها نزلت في رجل من الأنصار، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً
مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا
النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك. رواه الطبري .
وروى الواحدي عن مجاهد ، قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، كان له غلام أسود، يقال له: صبيح ، وكان يكرهه على الإسلام.
هذا مجمل ما قيل في سبب نزول هذه الآية. وقد وردت روايات أُخر لا تخرج عن مضمون ما ذكرناه.
وإذا وضح ما قيل في سبب نزول هذه الآية، نقول بعد: إن ابن كثير ذكر في "تفسيره" أن الآية، وإن كانت قد نزلت في قوم من الأنصار، إلا أن حكمها عامٌّ. وما ذكره ابن كثير موافق لقاعدة: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وهذا
يفيد أن الآية الكريمة، وإن كانت قد نزلت على سبب خاص - وهو ما تقدم ذكره -
إلا أن معناها عامٌّ يشمل كل أحد؛ وبالتالي فلا يصح إكراه أحد على الدخول
في الإسلام. ويؤيد هذا العموم، ما رواه ابن أبي حاتم عن أُسَق ، قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لـ عمر بن الخطاب ، فكان يعرض علي الإسلام فآبى، فيقول: { لا إكراه في الدين }، ويقول: يا أُسَق ! لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.
والآية
الكريمة تقرر وتؤكد قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين، وهي قاعدة حرية
الاعتقاد؛ إذ الأصل أن يختار الناس عقيدتهم بمحض إرادتهم، من غير إكراه
مادي أو ضغط معنوي. ومن هنا، فلا يجوز بحال إكراه أحد على اعتناق هذا
الدين؛ إذ إن الإكراه والإجبار يتنافيان مع الكرامة التي امتن الله بها على
الإنسان، كل الإنسان. قال تعالى: { ولقد كرمنا بني آدم } (الإسراء:70).
نخلص
إلى أن الآية، وإن كانت واردة على سبب خاص، إلا أن هذا السبب ليس حاكماً
عليها، ولا مقيِّداً لعمومها، بل هي أصل برأسها، وقاعدة بذاتها، وليس ما
يُذكر من سبب نزولها إلا تطبيق لمنطوقها، وتكييف لمقتضاها.