كم في المسلمين من ذوي الحاجة وأصحاب الهموم وصرعى المظالم وجرحى القلوب !! الذين لم يجدوا من يطرق بابهم ، أو يسأل عن حالهم ، أو يسعى في كشف الغم عنهم بدافع من خُلُق (النُّصرة) .
نعني بالنصرة تلك الغيرة الإيمانية التي تدفع المسلم لرفع الظلم عن أخيه المسلم المستضعف ، أو لمدّ يد العون إليه ، وبقدر ما تمارس هذا الخلق في حياتك اليومية تكون أقدر على الاستجابة لنداء داعي الجهاد لمنازلة البغاة أو الكافرين .
النصرة ضريبة الأُخُوَّة :
الأخوة الإيمانية ضريبتها النصرة ، والقائم بحق النصرة أو المتخاذل عنها ؛ كل منهما يلقى ثمرة ذلك - في الدنيا قبل الآخرة - جزاء وفاقـًا كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من امرئٍ يخذل امرءًا مسلمـًا عند موطن تُنتهَك فيه حُرمتُه ، ويُنتَقَص فيه من عِرضه ، إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نُصرته ، وما من امرئٍ ينصر امرءًا مسلمـًا في موطن ينتقص فيه من عرضه ، ويُنتهك فيه من حرمته إلاَّ نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))(رواه أحمد وحسه الألباني) .
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع كان منها (نصر المظلوم) ونصه : (( أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع ، ونهانا عن سبع ، فذكر عيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، وردّ السلام ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإبرار القسم))(رواه البخاري) .
ويصف ابن الجوزي الظلم بأن المعصية فيه أشد من غيرها من المعاصي معللاً ذلك بقوله : " لأنه لا يقع غالبـًا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار " .
وليس من شأن المسلم أن يرتضي لنفسه إيقاع الظلم بأخيه ، أو أن يدع أخاه فريسة بيد ظالم يذله ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "((المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمـًا ستره الله يوم القيامة))(رواه البخاري) .
فهل بعد هذا ترى مصيبة واقعة بأخيك وتسلمه لها وتخذله فيها أم تحتقن دماؤك في عروقك ولا يروق لك نوم حتى تبذل ما تستطيع من جهد لكشف ما نزل من ضرّ بأخيك ؟
المسلم أولى بالنصرة :
لقد كان أبناء الجاهلية يتناصرون في الخير والشر ، وأراد الإسلام لهذا الخلق أن يستمر بوجهه الخيّر معطيـًا له معنى جديدًا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ((انصر أخاك ظالمـًا أو مظلومـًا ، فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومـًا ، أفرأيت إذا كان ظالمـًا كيف أنصره ؟ قال : تحجزه - أو تمنعه - من الظلم فإن ذلك نصرَه))(رواه البخاري) .
فإن كنت تنصر قومك وعشيرتك وعصبتك ، وتمنعهم بكل الوسائل من إيقاع ظلم بمسلم - منهم أو من غيرهم - فتلك هي النصرة ، وإلا فهي العصية المقيتة المنتنة التي أُمرنا بأن ندعها ، وقد قال في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشبهـًا حال صاحب العصبية ببعير هلك : ((من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدّي ، فهو ينزع بذنبه))(رواه أبي داود) .
والقادر على النصرة لأخيه المسلم بكلمة أو شفاعة أو إشارة بخير ، إن لم يقدّمها مع قدرته على ذلك وهو يرى بعينه إذلال أخيه ، ألبسه الله لباس ذلّ أمام الخلق يوم القيامة ؛ لتقصيره في نصرة أخيه ، ورفع الذل عنه ، وفي ذل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((مَن أُذلّ عنده مؤمن فلم ينصره - وهو قادر على أن ينصره - أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة))(رواه أحمد) .
النصرة لحياة الدعوة :
لابد لكل دعوة من رجال متشبعين بخلق النصرة ، وإلاّ فلن تُكتب لها الحياة ، وأدناها النصرة بالمعونة ورفع المظالم ، وأعلاها النصرة في الجهاد ، وحين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض دعوته في المواسم بمنى كان يقول: ((مَن يؤويني ؟ مَن ينصرني))(مسند أحمد) .
وحين بويع بيعة العقبة اشترط النصرة ، فقال : ((… وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا ، وتنصرونا ، وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم))(رواه أحمد).
وحتى ورقة بن نوفل كان يقول له في مطلع الرسالة : ((وإن يدركني يومُك أنصرْك نصرًا مؤزرًا))(رواه البخاري) .
والله عز وجل قادر على أن ينصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه ترك للمؤمنين حظـًا من النصرة يؤدونه ، ويُسألون عنه ويؤجرون عليه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)(الأنفال/62) ، والمفلحون هم الذين (…آمَنُوَا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ)(الأعراف/157) .
وقد شرع للمؤمن أن يدعو بالنصرة ، كما في الحديث : ((رب أعني ولا تعن عليَّ ، وانصرني ولا تنصر عليَّ ، وامكري لي ولا تمكر عليَّ ، واهدني ويسر الهدى إليَّ ، وانصرني على من بغى عليَّ))(رواه ابن ماجه) .
ولكن هذه النصرة لا تكون غالبـًا بسبب غيبي ، وإنما بتسخيرك يا صاحب خلق (النصرة) لتؤدي دورك بحميتك الإيمانية ، وغيرتك للحق ، أما الخذلان في ساعة الحاجة فشأن المنافقين مع أوليائهم الذين قال الله فيهم : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ)(الحشر/12) .
وقد اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجالسين على قارعة الطريق أن يتحملوا ضريبة جلوسهم هذا ، وشهودهم لمواقف تقتضي منهم التدخل وأداء الواجب ، فقال لهم : ((إن أبيتم إلا أن تجلسوا فاهدوا السبيل ، وردّوا السلام ، وأعينوا المظلوم))(رواه أحمد) .
نصرة المسلم في غيبته :
والمبادرة إلى نصرة الأخ في الله في الدنيا - وخاصة في حال غيابه حيث تسقط المجاملات وتظهر حقيقة المشاعر ، وتخلص النصرة لله - يكون من ثمرتها أن يسخر الله للناصر مَن يقف إلى جانبه وينصره في الدنيا ويتولاه الله في الآخرة ، كما في الحديث : ((مَن نصر أخاه بظهر الغيب ، نصره الله في الدنيا والآخرة))(صحيح الجامع/6574 حسن) .
نصرته عند السلطان :
وأوجب صور النصرة ما يكون فيه دفع أذى من أمير أو ذي سلطان أو صاحب سطوة ؛ لأن هؤلاء أذاهم شديد ، وناصحوهم قليل ، والمتملقون لهم كثير ، فيضيع الحق في غمرة المجاملات والمداراة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن يعينهم على ظلمهم ، ولا ينصرهم على أنفسهم وأهوائهم بردعهم عن الظلم ، وقد جاء هذا المعنى في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إنّه ستكون بعدي أمراء ، من صدّقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ولستُ منه ، وليس بوارد عليَّ الحوض ، ومَن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم فهو منّي وأنا منه ، وهو وارد عليَّ الحوض))(رواه النسائي) .
منع الظلم يمدح به غير المسلم ؛ فالمسلم أولى :
وإذا كان منع ظلم الملوك بنصرة المستضعفين خُلُقـًا يتجمل به غير المسلمين ، فالمسلمون به أولى وأحرى ، وقد صوف عمرو بن العاص الروم بخصال استحسنها فيهم ، فقال : " إن فيهم لخصالاً أربعـًا : إنّهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرّة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف ، وخامسة حسنة جميلة : وأمنعهم من ظلم الملوك)).
في الإعانة على الباطل غضب الله :
ومَن كانت نصرته بصورته الجاهلية نصرة على الباطل ، ودورانـًا مع العصبية ، وإعانة على الظلم ، فقد غضب الله عليه ، كما في الحديث : ((مَن أعان على خصومة بظلم - أو يعين على ظلم - لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) .
فكن نصيرًا للحق حيث كان ، وإلاَّ فلا تطمع بوسام الجهاد ولا شرف الاستشهاد.