من أسرار الإعجاز البياني في سورة القارعة
قال الله عز وجل :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾(القارعة: 1- 11)
أولاً- افتتح الله تعالى هذه السورة الكريمة بلفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ، وهو افتتاح مَهول مرعب ، فيه ترويع وتخويف ، وفيه إثارة وتشويق إلى معرفة ما سيأتي بعده من خبرها ، وقد ألقى به سبحانه مفردًا ؛ كالقذيفة هكذا :﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ، بلا خبر ، ولا صفة ؛ ليلقي بظله وجرسه الإيحاء المدوِّي ، ويقرع بهوله القلوب .
ثم عقَّب سبحانه وتعالى على هذا الإجمال والإبهام بسؤال التهويل والتعظيم عن ماهيَّة هذه القارعة ؛ ليثير في النفوس الدهشة من هول هذه القارعة ، والتساؤل عن معرفة حقيقتها ، ثم أتبعه بسؤال آخر ، يزيد في التهويل من أمرها ، والتعظيم من شأنها ، فقال جل جلاله :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ (1- 3) .
و﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ وصف مشتق من القرع على وزن : الفاعلة . والقرع هو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت . وأطلق مجازًا على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثُّر خوف ، أو اتعاظ . يقال : قَرَّع فُلانًا بالتشديد . أي : زجره وعَنَّفه بصوت شديد . ويقال : قرَعه بالتخفيف . أي : ضربه بالعصا ، أو غيرها ضربًا عنيفًا . قال المتنبي :
العبد يقرع بالعصا ** والحر تكفيه الإشارة
وأطلق لفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ على الحدث العظيم ، وإن لم يكن من الأصوات ، ومنه قول العرب : قرعتهم القارعة ، وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم أمر فظيع ، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ (الرعد: 31) . أي : تصيبهم داهية بما صنعوا ، تقرعهم بصنوف البلاء ، من القتل والأسر والحرب والجدب ، ونحو ذلك . وأنِّث لفظ القارعة لتأويلها بالحادثة ، أو الكائنة . وعليه فـالمراد بالـ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ هنا : الحادثة العظيمة ، أو الشديدة من شدائد الدهر . وجمهور المفسرين على القول بأنها اسم من أسماء القيامة ؛ كالحَاقَّة ، والطَّامَّة ، والصَّاخَّة ، والغَاشِيَةُ ، والآزِفَة ، والوَاقِعَةُ .
وقالوا : إن الشيء إذا عظُم خطره ، كثُرت أسماؤه . وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله :« كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمَّى » . ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات ؛ فإن لكل اسم دلالته على معنى خاص به . وفي الحقيقة أن لكل شيء اسم واحد ، وما عداه صفات له ، وكل صفة منها ، معناها غير معنى الأولى .
فـ﴿ الحَاقَّةُ ﴾ هي التي يحق فيها وعد الله تعالى بالبعث والجزاء . و﴿ الطَّامَّةُ ﴾ هي التي تطمُّ كل شيء ،وتعمه بأحوالها . و﴿ الصَّاخَّةُ ﴾ هي التي تصخُّ الآذان . أي : يصم صوتها الآذان بما يصحبه من جرس عنيف نافذ ، يكاد يخترق صماخ الأذن . وتقول العرب : صخَّتهم الصاخَّة ، ونابتهم النائبة . و﴿ الغَاشِيَةُ ﴾ هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس. و﴿ الآزِفَةُ ﴾ هي التي تزِف ، بتخفيف الزاي وكسرها . أي : تقترب . والفرق بين قوله تعالى :﴿ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ ﴾(النجم: 57) ، وقوله تعالى : ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ﴾(القمر: 1) هو أن الأَزَفَ ضيق الوقت ؛ ولهذا عُبِّرَ عنه في الثانية بالساعة . أما ﴿ الوَاقِعَةُ ﴾ فهي التي يصدق وقوعها ، فليس لنفس أن تكذِّب بها بأن تنفيها ؛ كما نفتها في الدنيا ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾(الواقعة: 2) .
وأما ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ فهي التي تقرع الناس بالأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم والكواكب بالطمس والانكدار . ومذهب أهل التحقيق من المفسرين أن قوله تعالى :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ ﴾ أشدُّ هولاً من قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ ﴾ ؛ لأن النازل آخرًا لابد ، وأن يكون أبلغ ؛ لأن المقصود منه زيادة التنبيه . وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى . وأما بالنظر إلى المعنى فـ﴿ الْحَاقَّةُ ﴾ أشدُّ لكونها راجعة إلى معنى : العدل ، و﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ أشد لكونها تهجم على القلوب بالأمر الهائل .
إذا عرفت هذا ، فتأمل قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴾ ، كيف وضعت ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ في الآية الرابعة موضع ضمير ﴿ الْحَاقَّة ﴾ ؛ إذ كان ينبغي أن يقال :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِهَا ﴾ . وإنما أتى سبحانه وتعالى- هنا- بلفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ؛ لتدل على معنى القرع في ﴿ الْحَاقَّة ﴾ ، زيادة في وصف شدَّتها وهولها .
أما قوله تعالى :﴿ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ ؟ فهو استفهام يراد به التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل ؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه ، فصار التعظيم والتهويل مع الاستفهام متلازمين . والأصل فيه :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا هِيَ ﴾ ؟ أي : أيُّ شيء عظيم مَهول هي ؟ فوضع الاسم الظاهر موضع المضمَر تفخيمًا لشأنها ، وتفظيعًا لهولها . ونحو ذلك قولك : زيد ، ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه ، وعدم نظيره ؛ كأنه شيء خَفِيَ عليك جنسه ، فأنت تسأل عن جنسه ، وتفحص عن جوهره ؛ كما تقول : الغول ، ما الغول ؟ والعنقاء ، ما العنقاء ؟ تريد : أيُّ شيء من الأشياء هي ؟
ولهذا قال السكاكي :« يُسأل بـ( ما ) عن الجنس . تقول : ما عندك ؟ أي : أيُّ الأشياء عندك ؟ وجوابه : إنسان ، فرس ، كتاب . وكذلك تقول : ما الكلمة ؟ وما الكلام ؟ وفي التنزيل :﴿ فَمَا خَطْبُكُمْ ﴾(الحجر: 57، والذاريات: 31) ؟ أو يُسْأل بها عن الوصف ، تقول : ما زيد ؟ وما عمرو ؟ وجوابه : كريم ، أو فاضل ، ونحوهما » .
وقال الفخر الرازي :« لفظة ﴿ مَا ﴾ وضعت لطلب ماهيَّات الأشياء وحقائقها . تقول : ما الملك ؟ وما الروح ؟ وما الجن ؟ والمراد : طلب ماهيَّاتها ، وشرح حقائقها . وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً . ثم إن الشيء العظيم الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ، ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه ، يبقى مجهولاً ؛ فحصل بين الشيء المطلوب بلفظة ﴿ مَا ﴾ ، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه . والمشابهة إحدى أسباب المجاز ، فبهذا جُعِل ﴿ مَا ﴾ دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب ، وعلو رتبته » .
ولمَّا كان هول الشيء وعظمه يستلزم تساؤل الناس عنه ، أتبعه الله تعالى بقوله :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ ؟ زيادة في التهويل ، ومبالغة في التعظيم . والخطاب فيه لغير معين ، والمعنى : أيُّ شيء أدراك أيها السامع : ما القارعة ؟
ولك أن تجعل هذا الاستفهام إنكاريًا . أي : لا دراية لك بكنهها ، ومدى عظمها وشدتها . يعني : أنها في العظم والشدة ، بحيث لا يبلغه دراية أحد ، ولا وهمه . وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم ، فلا يتسنى الإعلام عنها . ومنه يعلم أن الاستفهام- هنا- كُنِّيَ به عن لازمه من أنها لا تعلم ، ولا يصل إليها دراية دار ، ولا تبلغ كنهها الأفكار والأوهام والتصورات ؛ لأنها أكبر من أن يحيط بها الإدراك , ويبلغ درايتها الوهم ، ويلمُّ بها التصور !
والدراية- كما قال الراغب- هي المعرفة المُدْرَكة بضرب من الختل ؛ ولهذا لا تستعمل الدراية في الله تعالى . وأما قول الشاعر:
* لاهُمَّ ! لا أدري ، وأنت الداري *
يريد : اللهم ! أنت الداري ، فهو من تعجْرُف أجلاف العرب .
وأصل درى أن يُعدَّى بالباء ، وقد تحذف على قلَّة . يقال : دريت به ، ودريته . فإذا دخلت عليه همزة التعدية عدِّى إلى واحد بنفسه ، وإلى الآخر بالباء . يقال : أدريت فلانًا بالأمر ، ومنه قوله تعالى : ﴿ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ ﴾(يونس: 16) . وقد يَعدَّى إلى ثلاثة مفاعيل ، فيكون من باب : أعلم ، وأرى . تقول : أدريت فلانًا الأمر سهلاً ؛ كما تقول مثله في : أعلمته ، وأريته . وقد يعلق عن المفعول الثاني والثالث بهمزة الإنكار ، أو بما المتضمنة لها ؛ فمن الأول قول زهير بن أبي سُلمَى :
وما أدري وسوف إخال أدري ** أقومٌ آل حصن أم نساء
ومن الثاني قوله تعالى :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولا الإيمَانُ ﴾(الشورى: 52) .
وتركيب :« مَا أدراك ما كذا » ؟ مما جرى مجرى المثل ، فلا يغير عن هذا اللفظ ، وهو مركَّب من : ما الاستفهامية ، وفعل : أدرى ، الذي يَعدَّى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل ، وقد علق عن المفعولين الثاني والثالث بما الاستفهامية الثانية . وكاف الخطاب فيه- كما ذكرنا- خطاب لغير معين ؛ فلذلك إذا خوطب به غير المفرد المذكر ، فلا يقترن بضمير تثنية ، أو جمع ، أو تأنيث . واستعمال « مَا أدراك ما كذا » ؟ غير استعمال « مَا يدريك ما كذا » ؟ في نحو قوله تعالى :
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾(الشورى: 17)
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾(الأحزاب: 63)
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾(عبس: 3- 4)
روي عن سفيان بن عيينة :« كل شيء في القرآن ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾ ؟ فقد أُخبِر الرسول به ، وكل شيء فيه ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ ؟ لم يُخبَر به » . وقد روي نحو هذا أيضًا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وعن يحيى بن سلاّم . فإن صح هذا المروي ، فإن مرادهم أن مفعول ﴿ مَا أَدْرَاكَ ﴾ ؟ محقق الوقوع ؛ لأن الاستفهام فيه للتهويل ، وأن مفعول ﴿ مَا يُدْرِيكَ ﴾ ؟ غير محقق الوقوع ؛ لأن الاستفهام فيه للإِنكار المجرَّد ، وهو في معنى نفي الدراية .
وقال الراغب الأصفهاني:” كل موضع ذُكر في القرآن ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾ ؟ فقد عُقِّب ببيانه ؛ نحو :
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾(القارعة: 10ـ 11)
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾(القدر: 2-3)
﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ ﴾(يونس: 16).
وكل موضع ذكر فيه ﴿ مَا يُدْرِيكَ ﴾ ؟ لم يُعقِّبْه بذلك ؛ نحو :
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾(عبس: 3)
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾(الشورى: 17) “.
ثانيًا- قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾(4- 5) جواب لقوله تعالى:
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾(3) .
وكان حق هذا الجواب أن يكون بماهيَّة القارعة وحقيقتها ، لا بما يكون فيها من أحوالها ؛ ولكن عدِل عن الأول إلى هذا ؛ لأن ماهيتها وحقيقتها- كما أسلفنا- أكبر من أن يحيط بها الإدراك , ويبلغ درايتها الوهم ، ويلم بحقيقتها التصور ! وقد بين الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين حالاً من أحوال القارعة ، وبين بعض أحوالها الأخرى في سورة ( الواقعة ) بأنها خافضة رافعة . وفي ( الحاقة ) بما أصاب ثمود وعاد وحلَّ بهم بسبب تكذيبهم بالقارعة . وفي ( الطامة والصاخة ) ينظر المرء ما قدَّمت يداه .
وقد ذكر سبحانه وتعالى مع كل حالة من هذه الحالات الحال الذي يناسبها . والقارعة من القرع ؛ وهو- كما أسلفنا - ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت ، فناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث ، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش .
و﴿ الفَرَاشُ ﴾ هو فرخ الجَراد ، حين يخرُج من بيضه من الأرض . وقد يطلق لفظه على ما يطير من الحشرات ، ويتساقط على النار ليْلاً ، وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية به هنا . وقال الفرَّاء :« هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ، ويركب بعضه بعضًا من الهول » . وقال صاحب التأويلات :« اختلفوا في تأويله على وجوه ؛ لكن كلها ترجع إلى معنى واحد ، وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم » . و﴿ الْمَبْثُوث ﴾ هو المتفرق على وجه الأرض في كل الجهات . ومن أمثال العرب قولهم :« أطيش من فراشة » ، و« أضعف من فراشة » ، و« وأذل وأجهل من فراشة » .
وقال تعالى هنا :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾ ، فشبه الناس يوم البعث بالفراش المبثوث . وقال في موضع آخر :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴾(القمر: 7) ، فشبههم بالجراد المنتشر . وقد سبق أن ذكرنا إلى أن الفراش هو فرخ الجراد . أو هو غوغاء الجراد ، فما وجه التشبيه في كل منهما ؟
أما وجه تشبيههم بالجراد فقيل : الكثرة والتتابع . وأما وجه التشبيه بالفراش فقيل : شبِّه الناس بالفراش المتفرق المتطاير في الكثرة والانتشار ، وفي الضعف والذلة ، وفي المجيء والذهاب على غير نظام ، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر ؛ لأن الفراش إذا ثار ، لم يتَّجه لجهة واحدة ؛ بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى .
وليت الذين يتحدثون عن كيفية ابتداء خلق الإنسان أن يقرنوا بين قوله تعالى :
﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴾(القمر: 7) ، وقوله تعالى :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾(الروم: 20) ، لعلهم يدركون سرَّ تخصيص لفظ البشر بالذكر دون لفظ الناس ، وسرَّ تشبيههم بالجراد في الانتشار يوم خلقهم من تراب ، ويوم بعثهم ، ثم يتذكرون قول الله تعالى :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾(الأعراف: 29) !
و﴿ الْعِهْنُ ﴾ هو الصوف المصبوغ باللون الأحمر ، وقيل : هو المصبوغ ألوانًا . وفي قراءة ابن مسعود :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْصُّوفِ الْمَنْفُوشِ ﴾ . قال زهير بن أبي سُلمَى :
كأنَّ فُتات العِهن في كل منزلٍ ** نَزَلْنَ به حبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِِ
والفَنَا بالقصر : حَبٌّ في البادية يقال له : عنب الثعلب ، وله ألوان ، بعضه أخضر ، وبعضه أصفر ، وبعضه أحمر . والعهنة: شجرة تنبت بالبادية ، لها ورد أحمر . و﴿ الْمَنْفُوشِ ﴾ هو المفرَّق بعض أجزائه عن بعض ؛ لِيُغزَل ، أو تُحْشَى به الحشايا ، فعندما يُضْرَب بالعصا ، تتطاير أجزاؤه.
ووجه التشبيه بين الجبال ، والعهن المنفوش : أن من الجبال ؛ كما قال الله تعالى:﴿ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾(فاطر: 27) ، فهي مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها ، وكذلك الصوف مختلفة ألوانه . فهي تشبهه من هذا الوجه . ثم هي تشبهه من وجه آخر ، وهو أنها إذا بُسَّت ، طُيِّرت في الجو ؛ كما يتطاير الصوف المنفوش . قال الحسن :« تسير الجبال مع الرياح ، ثم تنهدُّ ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنسف ، فتصير هباء » .
وإعادة لفظ الكون ﴿ تَكُونُ ، وَتَكُونُ ﴾ مع حرف العطف ، للإِشارة إلى اختلاف الكونين ؛ فإن أولهما كونُ إيجاد ، والثاني كونُ اضمحلال ، وكلاهما علامة على زوال عالم ، وظهور عالم آخر . وقيل : كرَّر ذلك ؛ لأن التكرير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير .
وقال تعالى هنا :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾( 3 ) ، وقال في موضع آخر :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾(المعارج: 9) ، فأتى بالعهن موصوفًا بالنفش في الآية الأولى ، وأتى به غير موصوف به في الآية الثانية . فما سر البيان في ذلك ؟
ويجاب عنه بأن الغرض من هذا التشبيه في سورة القارعة هو غيره في سورة المعارج ، وبيان ذلك :
أن القارعة- كما أسلفنا- هي من القرع ، وهو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت ، فناسب أن يذكر معها من أحوالها في ذلك اليوم المهول ما يوهِن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث ، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش . فشبَّه تعالى أحوال الناس في ذلك اليوم في كثرتهم وحيرتهم واضطرابهم وانتشارهم في كل جهة بالفراش المبثوث . ثم شبَّه الجبال في اختلاف ألوانها وتفكك أجزائها وتطايرها هباء في الجو بالصوف المنفوش ، فناسب بين المشبَّه ، والمشبَّه به من جهة ، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية ، والتشبيه في الصورة الأولى ، فقال سبحانه :
﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾(4- 5)
ووجه التشبيه بين الجبال ، والعهن : أن الجبال في ثقلها وتماسك أجزائها واختلاف ألوانها ، تصير في ذلك اليوم واهية خفيفة مفككة الأجزاء تتلوَّن بألوان مختلفة ؛ كالعهن في ضعفه وخفته وتفرق أجزائه واختلاف ألوانه . وليس المراد- هنا- تطاير أجزائها في الجو - كما في القارعة- ولهذا أطلق لفظ العهن هنا دون قيد ، وقيد هناك بالوصف .
أما في المعارج فقد ذكر تعالى من أحوال ذلك اليوم الذي وصفه بقوله :﴿ فِيْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾(المعارج: 4) ما يحيل بناء السماء ولونها ، إلى صورة المهل المذاب ولونه ، ويحيل تماسك الجبال وثقلها وألوانها ، إلى وهن العهن الخفيف وألوانه . فشبَّه السماء في ذلك اليوم بالمهل ، وشبَّه الجبال بالعهن ، فناسب بين المشبَّه والمشبَّه به من جهة ، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية ، والتشبيه في الصورة الأولى ؛ وذلك قوله تعالى :
﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾(المعارج: 8- 9)
ووجه التشبيه بين السماء ، والمهل : أن السماء تذاب في ذلك اليوم ، وتصير كالفضة المذابة ؛ كما قال الحسن رضي الله عنه. وقيل : المهل : ما أذيب من النحاس والرصاص ، وما أشبه ذلك . وقال غير واحد : المهل ما أذيب على مهل من الفلزات . والمراد : يوم تكون السماء واهية .
أخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قوله :« إن السماء الآن خضراء ، وإنها تحول يوم القيامة لونًا آخر إلى الحمرة » . وسئل ابن مسعود عن قوله تعالى :﴿ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾(الكهف: 29) ، فدعا بفضة ، فأذابها ، فجعلت تميع ، وتَلَوَّن ، فقال : هذا من أشبه ما أنتم راءون بالمهل » .
وقال الأزهري :« ومثله قوله :﴿ فََكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾(الرحمن: 37) . قال أبو إسحق : كالدهان . أي : تتلون كما يتلون الدهان المختلفة ، ودليل ذلك قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴾ ؛ كالزيت الذي قد أغلي » .
وقال ابن الأنباري :« تبدل السماوات بطيِّها ، وجعلها مرة كالمهل ، ومرة وردة كالدهان . وعن مجاهد : تكون الأرض كالفضة ، والسماوات كذلك » .
وقال ابن تيميَّة :« إن السموات ، وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها ، فإن ذلك لا يوجب عدمها ، وفسادها ؛ بل أصلها باق بتحويلها من حال إلى حال ؛ كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾(إبراهيم: 48) . وإذا بدلت ، فإنه لا يزال سماء دائمة ، وأرض دائمة ، والله أعلم » !
وعن ابن مسعود :« تبدل الأرض أرضًا بيضاءَ ؛ كأنها سبيكة بيضاء ، لم يسفك فيها دمٌ حرامٌ ، ولم يعمَل فيها خطيئةٌ » .
ثالثًا- ولما وصف الله تعالى في الآيات السابقة حال يوم القيامة ، عقَّب على ذلك بقوله :﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾(6- 11) ، فقسم سبحانه الناس في هذا اليوم إلى قسمين :
أحدهما :﴿ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ . والثاني :﴿ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ . وأخبر عن الأول بأنه في ﴿ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ . أي : عيشة مرضية . وأخبر عن الثاني بأن ﴿ أُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ . أي : مستقرُّه . أو مسكنه . والهاوية اسم من أسماء النار ؛ وكأنها النار العميقة ، يهوي فيها أهل النار مهوى بعيدًا . وقال تعالى :﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ ؛ لأن الأصل في السكون والاستقرار : الأمهات .
وقال تعالى :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾ ، ثم أخبر عنها ، فقال :﴿ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ ، منبهًا بذلك على أن نار الدنيا في جنب تلك النار الحامية ليست بشيء . وبذلك صار آخر السورة مطابقًا لأولها . وأما ﴿ هِيَهْ ﴾ فهو ضمير يعود على :﴿ هَاوِيَةٌ ﴾ ، والهاء فيه للسكت . وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق ، والأعمش ، وحمزة ، وأثبتها الجمهور .
وقال تعالى :﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾ ، ولم يقل :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هَاوِيَةُ ﴾ ؛ كما قال :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾. والفرق بينهما : أن كونها قارعة أمر محسوس ، وليس كذلك كونها هاوية ؛ ولهذا حسُن وضع الضمير- هنا- موضع الاسم الظاهر ، خلافًا للآية السابقة . والله تعالى أعل
قال الله عز وجل :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾(القارعة: 1- 11)
أولاً- افتتح الله تعالى هذه السورة الكريمة بلفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ، وهو افتتاح مَهول مرعب ، فيه ترويع وتخويف ، وفيه إثارة وتشويق إلى معرفة ما سيأتي بعده من خبرها ، وقد ألقى به سبحانه مفردًا ؛ كالقذيفة هكذا :﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ، بلا خبر ، ولا صفة ؛ ليلقي بظله وجرسه الإيحاء المدوِّي ، ويقرع بهوله القلوب .
ثم عقَّب سبحانه وتعالى على هذا الإجمال والإبهام بسؤال التهويل والتعظيم عن ماهيَّة هذه القارعة ؛ ليثير في النفوس الدهشة من هول هذه القارعة ، والتساؤل عن معرفة حقيقتها ، ثم أتبعه بسؤال آخر ، يزيد في التهويل من أمرها ، والتعظيم من شأنها ، فقال جل جلاله :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ (1- 3) .
و﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ وصف مشتق من القرع على وزن : الفاعلة . والقرع هو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت . وأطلق مجازًا على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثُّر خوف ، أو اتعاظ . يقال : قَرَّع فُلانًا بالتشديد . أي : زجره وعَنَّفه بصوت شديد . ويقال : قرَعه بالتخفيف . أي : ضربه بالعصا ، أو غيرها ضربًا عنيفًا . قال المتنبي :
العبد يقرع بالعصا ** والحر تكفيه الإشارة
وأطلق لفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ على الحدث العظيم ، وإن لم يكن من الأصوات ، ومنه قول العرب : قرعتهم القارعة ، وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم أمر فظيع ، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ (الرعد: 31) . أي : تصيبهم داهية بما صنعوا ، تقرعهم بصنوف البلاء ، من القتل والأسر والحرب والجدب ، ونحو ذلك . وأنِّث لفظ القارعة لتأويلها بالحادثة ، أو الكائنة . وعليه فـالمراد بالـ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ هنا : الحادثة العظيمة ، أو الشديدة من شدائد الدهر . وجمهور المفسرين على القول بأنها اسم من أسماء القيامة ؛ كالحَاقَّة ، والطَّامَّة ، والصَّاخَّة ، والغَاشِيَةُ ، والآزِفَة ، والوَاقِعَةُ .
وقالوا : إن الشيء إذا عظُم خطره ، كثُرت أسماؤه . وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله :« كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمَّى » . ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات ؛ فإن لكل اسم دلالته على معنى خاص به . وفي الحقيقة أن لكل شيء اسم واحد ، وما عداه صفات له ، وكل صفة منها ، معناها غير معنى الأولى .
فـ﴿ الحَاقَّةُ ﴾ هي التي يحق فيها وعد الله تعالى بالبعث والجزاء . و﴿ الطَّامَّةُ ﴾ هي التي تطمُّ كل شيء ،وتعمه بأحوالها . و﴿ الصَّاخَّةُ ﴾ هي التي تصخُّ الآذان . أي : يصم صوتها الآذان بما يصحبه من جرس عنيف نافذ ، يكاد يخترق صماخ الأذن . وتقول العرب : صخَّتهم الصاخَّة ، ونابتهم النائبة . و﴿ الغَاشِيَةُ ﴾ هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس. و﴿ الآزِفَةُ ﴾ هي التي تزِف ، بتخفيف الزاي وكسرها . أي : تقترب . والفرق بين قوله تعالى :﴿ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ ﴾(النجم: 57) ، وقوله تعالى : ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ﴾(القمر: 1) هو أن الأَزَفَ ضيق الوقت ؛ ولهذا عُبِّرَ عنه في الثانية بالساعة . أما ﴿ الوَاقِعَةُ ﴾ فهي التي يصدق وقوعها ، فليس لنفس أن تكذِّب بها بأن تنفيها ؛ كما نفتها في الدنيا ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾(الواقعة: 2) .
وأما ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ فهي التي تقرع الناس بالأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم والكواكب بالطمس والانكدار . ومذهب أهل التحقيق من المفسرين أن قوله تعالى :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ ﴾ أشدُّ هولاً من قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ ﴾ ؛ لأن النازل آخرًا لابد ، وأن يكون أبلغ ؛ لأن المقصود منه زيادة التنبيه . وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى . وأما بالنظر إلى المعنى فـ﴿ الْحَاقَّةُ ﴾ أشدُّ لكونها راجعة إلى معنى : العدل ، و﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ أشد لكونها تهجم على القلوب بالأمر الهائل .
إذا عرفت هذا ، فتأمل قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴾ ، كيف وضعت ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ في الآية الرابعة موضع ضمير ﴿ الْحَاقَّة ﴾ ؛ إذ كان ينبغي أن يقال :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِهَا ﴾ . وإنما أتى سبحانه وتعالى- هنا- بلفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ؛ لتدل على معنى القرع في ﴿ الْحَاقَّة ﴾ ، زيادة في وصف شدَّتها وهولها .
أما قوله تعالى :﴿ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ ؟ فهو استفهام يراد به التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل ؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه ، فصار التعظيم والتهويل مع الاستفهام متلازمين . والأصل فيه :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا هِيَ ﴾ ؟ أي : أيُّ شيء عظيم مَهول هي ؟ فوضع الاسم الظاهر موضع المضمَر تفخيمًا لشأنها ، وتفظيعًا لهولها . ونحو ذلك قولك : زيد ، ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه ، وعدم نظيره ؛ كأنه شيء خَفِيَ عليك جنسه ، فأنت تسأل عن جنسه ، وتفحص عن جوهره ؛ كما تقول : الغول ، ما الغول ؟ والعنقاء ، ما العنقاء ؟ تريد : أيُّ شيء من الأشياء هي ؟
ولهذا قال السكاكي :« يُسأل بـ( ما ) عن الجنس . تقول : ما عندك ؟ أي : أيُّ الأشياء عندك ؟ وجوابه : إنسان ، فرس ، كتاب . وكذلك تقول : ما الكلمة ؟ وما الكلام ؟ وفي التنزيل :﴿ فَمَا خَطْبُكُمْ ﴾(الحجر: 57، والذاريات: 31) ؟ أو يُسْأل بها عن الوصف ، تقول : ما زيد ؟ وما عمرو ؟ وجوابه : كريم ، أو فاضل ، ونحوهما » .
وقال الفخر الرازي :« لفظة ﴿ مَا ﴾ وضعت لطلب ماهيَّات الأشياء وحقائقها . تقول : ما الملك ؟ وما الروح ؟ وما الجن ؟ والمراد : طلب ماهيَّاتها ، وشرح حقائقها . وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً . ثم إن الشيء العظيم الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ، ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه ، يبقى مجهولاً ؛ فحصل بين الشيء المطلوب بلفظة ﴿ مَا ﴾ ، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه . والمشابهة إحدى أسباب المجاز ، فبهذا جُعِل ﴿ مَا ﴾ دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب ، وعلو رتبته » .
ولمَّا كان هول الشيء وعظمه يستلزم تساؤل الناس عنه ، أتبعه الله تعالى بقوله :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ ؟ زيادة في التهويل ، ومبالغة في التعظيم . والخطاب فيه لغير معين ، والمعنى : أيُّ شيء أدراك أيها السامع : ما القارعة ؟
ولك أن تجعل هذا الاستفهام إنكاريًا . أي : لا دراية لك بكنهها ، ومدى عظمها وشدتها . يعني : أنها في العظم والشدة ، بحيث لا يبلغه دراية أحد ، ولا وهمه . وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم ، فلا يتسنى الإعلام عنها . ومنه يعلم أن الاستفهام- هنا- كُنِّيَ به عن لازمه من أنها لا تعلم ، ولا يصل إليها دراية دار ، ولا تبلغ كنهها الأفكار والأوهام والتصورات ؛ لأنها أكبر من أن يحيط بها الإدراك , ويبلغ درايتها الوهم ، ويلمُّ بها التصور !
والدراية- كما قال الراغب- هي المعرفة المُدْرَكة بضرب من الختل ؛ ولهذا لا تستعمل الدراية في الله تعالى . وأما قول الشاعر:
* لاهُمَّ ! لا أدري ، وأنت الداري *
يريد : اللهم ! أنت الداري ، فهو من تعجْرُف أجلاف العرب .
وأصل درى أن يُعدَّى بالباء ، وقد تحذف على قلَّة . يقال : دريت به ، ودريته . فإذا دخلت عليه همزة التعدية عدِّى إلى واحد بنفسه ، وإلى الآخر بالباء . يقال : أدريت فلانًا بالأمر ، ومنه قوله تعالى : ﴿ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ ﴾(يونس: 16) . وقد يَعدَّى إلى ثلاثة مفاعيل ، فيكون من باب : أعلم ، وأرى . تقول : أدريت فلانًا الأمر سهلاً ؛ كما تقول مثله في : أعلمته ، وأريته . وقد يعلق عن المفعول الثاني والثالث بهمزة الإنكار ، أو بما المتضمنة لها ؛ فمن الأول قول زهير بن أبي سُلمَى :
وما أدري وسوف إخال أدري ** أقومٌ آل حصن أم نساء
ومن الثاني قوله تعالى :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولا الإيمَانُ ﴾(الشورى: 52) .
وتركيب :« مَا أدراك ما كذا » ؟ مما جرى مجرى المثل ، فلا يغير عن هذا اللفظ ، وهو مركَّب من : ما الاستفهامية ، وفعل : أدرى ، الذي يَعدَّى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل ، وقد علق عن المفعولين الثاني والثالث بما الاستفهامية الثانية . وكاف الخطاب فيه- كما ذكرنا- خطاب لغير معين ؛ فلذلك إذا خوطب به غير المفرد المذكر ، فلا يقترن بضمير تثنية ، أو جمع ، أو تأنيث . واستعمال « مَا أدراك ما كذا » ؟ غير استعمال « مَا يدريك ما كذا » ؟ في نحو قوله تعالى :
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾(الشورى: 17)
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾(الأحزاب: 63)
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾(عبس: 3- 4)
روي عن سفيان بن عيينة :« كل شيء في القرآن ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾ ؟ فقد أُخبِر الرسول به ، وكل شيء فيه ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ ؟ لم يُخبَر به » . وقد روي نحو هذا أيضًا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وعن يحيى بن سلاّم . فإن صح هذا المروي ، فإن مرادهم أن مفعول ﴿ مَا أَدْرَاكَ ﴾ ؟ محقق الوقوع ؛ لأن الاستفهام فيه للتهويل ، وأن مفعول ﴿ مَا يُدْرِيكَ ﴾ ؟ غير محقق الوقوع ؛ لأن الاستفهام فيه للإِنكار المجرَّد ، وهو في معنى نفي الدراية .
وقال الراغب الأصفهاني:” كل موضع ذُكر في القرآن ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾ ؟ فقد عُقِّب ببيانه ؛ نحو :
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾(القارعة: 10ـ 11)
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾(القدر: 2-3)
﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ ﴾(يونس: 16).
وكل موضع ذكر فيه ﴿ مَا يُدْرِيكَ ﴾ ؟ لم يُعقِّبْه بذلك ؛ نحو :
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾(عبس: 3)
﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾(الشورى: 17) “.
ثانيًا- قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾(4- 5) جواب لقوله تعالى:
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾(3) .
وكان حق هذا الجواب أن يكون بماهيَّة القارعة وحقيقتها ، لا بما يكون فيها من أحوالها ؛ ولكن عدِل عن الأول إلى هذا ؛ لأن ماهيتها وحقيقتها- كما أسلفنا- أكبر من أن يحيط بها الإدراك , ويبلغ درايتها الوهم ، ويلم بحقيقتها التصور ! وقد بين الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين حالاً من أحوال القارعة ، وبين بعض أحوالها الأخرى في سورة ( الواقعة ) بأنها خافضة رافعة . وفي ( الحاقة ) بما أصاب ثمود وعاد وحلَّ بهم بسبب تكذيبهم بالقارعة . وفي ( الطامة والصاخة ) ينظر المرء ما قدَّمت يداه .
وقد ذكر سبحانه وتعالى مع كل حالة من هذه الحالات الحال الذي يناسبها . والقارعة من القرع ؛ وهو- كما أسلفنا - ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت ، فناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث ، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش .
و﴿ الفَرَاشُ ﴾ هو فرخ الجَراد ، حين يخرُج من بيضه من الأرض . وقد يطلق لفظه على ما يطير من الحشرات ، ويتساقط على النار ليْلاً ، وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية به هنا . وقال الفرَّاء :« هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ، ويركب بعضه بعضًا من الهول » . وقال صاحب التأويلات :« اختلفوا في تأويله على وجوه ؛ لكن كلها ترجع إلى معنى واحد ، وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم » . و﴿ الْمَبْثُوث ﴾ هو المتفرق على وجه الأرض في كل الجهات . ومن أمثال العرب قولهم :« أطيش من فراشة » ، و« أضعف من فراشة » ، و« وأذل وأجهل من فراشة » .
وقال تعالى هنا :﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾ ، فشبه الناس يوم البعث بالفراش المبثوث . وقال في موضع آخر :﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴾(القمر: 7) ، فشبههم بالجراد المنتشر . وقد سبق أن ذكرنا إلى أن الفراش هو فرخ الجراد . أو هو غوغاء الجراد ، فما وجه التشبيه في كل منهما ؟
أما وجه تشبيههم بالجراد فقيل : الكثرة والتتابع . وأما وجه التشبيه بالفراش فقيل : شبِّه الناس بالفراش المتفرق المتطاير في الكثرة والانتشار ، وفي الضعف والذلة ، وفي المجيء والذهاب على غير نظام ، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر ؛ لأن الفراش إذا ثار ، لم يتَّجه لجهة واحدة ؛ بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى .
وليت الذين يتحدثون عن كيفية ابتداء خلق الإنسان أن يقرنوا بين قوله تعالى :
﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ﴾(القمر: 7) ، وقوله تعالى :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾(الروم: 20) ، لعلهم يدركون سرَّ تخصيص لفظ البشر بالذكر دون لفظ الناس ، وسرَّ تشبيههم بالجراد في الانتشار يوم خلقهم من تراب ، ويوم بعثهم ، ثم يتذكرون قول الله تعالى :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾(الأعراف: 29) !
و﴿ الْعِهْنُ ﴾ هو الصوف المصبوغ باللون الأحمر ، وقيل : هو المصبوغ ألوانًا . وفي قراءة ابن مسعود :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْصُّوفِ الْمَنْفُوشِ ﴾ . قال زهير بن أبي سُلمَى :
كأنَّ فُتات العِهن في كل منزلٍ ** نَزَلْنَ به حبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِِ
والفَنَا بالقصر : حَبٌّ في البادية يقال له : عنب الثعلب ، وله ألوان ، بعضه أخضر ، وبعضه أصفر ، وبعضه أحمر . والعهنة: شجرة تنبت بالبادية ، لها ورد أحمر . و﴿ الْمَنْفُوشِ ﴾ هو المفرَّق بعض أجزائه عن بعض ؛ لِيُغزَل ، أو تُحْشَى به الحشايا ، فعندما يُضْرَب بالعصا ، تتطاير أجزاؤه.
ووجه التشبيه بين الجبال ، والعهن المنفوش : أن من الجبال ؛ كما قال الله تعالى:﴿ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾(فاطر: 27) ، فهي مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها ، وكذلك الصوف مختلفة ألوانه . فهي تشبهه من هذا الوجه . ثم هي تشبهه من وجه آخر ، وهو أنها إذا بُسَّت ، طُيِّرت في الجو ؛ كما يتطاير الصوف المنفوش . قال الحسن :« تسير الجبال مع الرياح ، ثم تنهدُّ ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنسف ، فتصير هباء » .
وإعادة لفظ الكون ﴿ تَكُونُ ، وَتَكُونُ ﴾ مع حرف العطف ، للإِشارة إلى اختلاف الكونين ؛ فإن أولهما كونُ إيجاد ، والثاني كونُ اضمحلال ، وكلاهما علامة على زوال عالم ، وظهور عالم آخر . وقيل : كرَّر ذلك ؛ لأن التكرير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير .
وقال تعالى هنا :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾( 3 ) ، وقال في موضع آخر :﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾(المعارج: 9) ، فأتى بالعهن موصوفًا بالنفش في الآية الأولى ، وأتى به غير موصوف به في الآية الثانية . فما سر البيان في ذلك ؟
ويجاب عنه بأن الغرض من هذا التشبيه في سورة القارعة هو غيره في سورة المعارج ، وبيان ذلك :
أن القارعة- كما أسلفنا- هي من القرع ، وهو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت ، فناسب أن يذكر معها من أحوالها في ذلك اليوم المهول ما يوهِن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث ، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش . فشبَّه تعالى أحوال الناس في ذلك اليوم في كثرتهم وحيرتهم واضطرابهم وانتشارهم في كل جهة بالفراش المبثوث . ثم شبَّه الجبال في اختلاف ألوانها وتفكك أجزائها وتطايرها هباء في الجو بالصوف المنفوش ، فناسب بين المشبَّه ، والمشبَّه به من جهة ، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية ، والتشبيه في الصورة الأولى ، فقال سبحانه :
﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾(4- 5)
ووجه التشبيه بين الجبال ، والعهن : أن الجبال في ثقلها وتماسك أجزائها واختلاف ألوانها ، تصير في ذلك اليوم واهية خفيفة مفككة الأجزاء تتلوَّن بألوان مختلفة ؛ كالعهن في ضعفه وخفته وتفرق أجزائه واختلاف ألوانه . وليس المراد- هنا- تطاير أجزائها في الجو - كما في القارعة- ولهذا أطلق لفظ العهن هنا دون قيد ، وقيد هناك بالوصف .
أما في المعارج فقد ذكر تعالى من أحوال ذلك اليوم الذي وصفه بقوله :﴿ فِيْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾(المعارج: 4) ما يحيل بناء السماء ولونها ، إلى صورة المهل المذاب ولونه ، ويحيل تماسك الجبال وثقلها وألوانها ، إلى وهن العهن الخفيف وألوانه . فشبَّه السماء في ذلك اليوم بالمهل ، وشبَّه الجبال بالعهن ، فناسب بين المشبَّه والمشبَّه به من جهة ، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية ، والتشبيه في الصورة الأولى ؛ وذلك قوله تعالى :
﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾(المعارج: 8- 9)
ووجه التشبيه بين السماء ، والمهل : أن السماء تذاب في ذلك اليوم ، وتصير كالفضة المذابة ؛ كما قال الحسن رضي الله عنه. وقيل : المهل : ما أذيب من النحاس والرصاص ، وما أشبه ذلك . وقال غير واحد : المهل ما أذيب على مهل من الفلزات . والمراد : يوم تكون السماء واهية .
أخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قوله :« إن السماء الآن خضراء ، وإنها تحول يوم القيامة لونًا آخر إلى الحمرة » . وسئل ابن مسعود عن قوله تعالى :﴿ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾(الكهف: 29) ، فدعا بفضة ، فأذابها ، فجعلت تميع ، وتَلَوَّن ، فقال : هذا من أشبه ما أنتم راءون بالمهل » .
وقال الأزهري :« ومثله قوله :﴿ فََكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾(الرحمن: 37) . قال أبو إسحق : كالدهان . أي : تتلون كما يتلون الدهان المختلفة ، ودليل ذلك قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴾ ؛ كالزيت الذي قد أغلي » .
وقال ابن الأنباري :« تبدل السماوات بطيِّها ، وجعلها مرة كالمهل ، ومرة وردة كالدهان . وعن مجاهد : تكون الأرض كالفضة ، والسماوات كذلك » .
وقال ابن تيميَّة :« إن السموات ، وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها ، فإن ذلك لا يوجب عدمها ، وفسادها ؛ بل أصلها باق بتحويلها من حال إلى حال ؛ كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾(إبراهيم: 48) . وإذا بدلت ، فإنه لا يزال سماء دائمة ، وأرض دائمة ، والله أعلم » !
وعن ابن مسعود :« تبدل الأرض أرضًا بيضاءَ ؛ كأنها سبيكة بيضاء ، لم يسفك فيها دمٌ حرامٌ ، ولم يعمَل فيها خطيئةٌ » .
ثالثًا- ولما وصف الله تعالى في الآيات السابقة حال يوم القيامة ، عقَّب على ذلك بقوله :﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾(6- 11) ، فقسم سبحانه الناس في هذا اليوم إلى قسمين :
أحدهما :﴿ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ . والثاني :﴿ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ . وأخبر عن الأول بأنه في ﴿ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ . أي : عيشة مرضية . وأخبر عن الثاني بأن ﴿ أُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ . أي : مستقرُّه . أو مسكنه . والهاوية اسم من أسماء النار ؛ وكأنها النار العميقة ، يهوي فيها أهل النار مهوى بعيدًا . وقال تعالى :﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ ؛ لأن الأصل في السكون والاستقرار : الأمهات .
وقال تعالى :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾ ، ثم أخبر عنها ، فقال :﴿ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ ، منبهًا بذلك على أن نار الدنيا في جنب تلك النار الحامية ليست بشيء . وبذلك صار آخر السورة مطابقًا لأولها . وأما ﴿ هِيَهْ ﴾ فهو ضمير يعود على :﴿ هَاوِيَةٌ ﴾ ، والهاء فيه للسكت . وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق ، والأعمش ، وحمزة ، وأثبتها الجمهور .
وقال تعالى :﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴾ ، ولم يقل :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هَاوِيَةُ ﴾ ؛ كما قال :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾. والفرق بينهما : أن كونها قارعة أمر محسوس ، وليس كذلك كونها هاوية ؛ ولهذا حسُن وضع الضمير- هنا- موضع الاسم الظاهر ، خلافًا للآية السابقة . والله تعالى أعل