جبل الله النفس على الضعف ؛ كما قال تعالى :﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾(النساء: 28) .. وهذا الضعف يشمل الضعف النفسي ، والضعف البدني .. والمصدق لقول خالقه والعالم به ، إذا نظر متفكرًا في نفسه وفي الناس من حوله ، لتأكد من حقيقة مكنون شعور الضعف بنفس الإنسان .. فالإنسان على يقين بينه ، وبين نفسه من حقيقة قلة - بل ربما انعدام - حوله وقوته أمام ، وفي مواجهة ما يحيط به من آيات وجنود الله عز وجل ؛ كالسماء والأرض والجبال ، والزلازل والبراكين ، والرعد والبرق والصواعق ، والريح والأعاصير وفيض الماء ؛ بل أمام ، وفي مواجهة ما يبدو أصغر ؛ كالعقر واللدغ والافتراس .. الخ ( محمود زاهر ) .
﴿ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾(النساء: 28) .
هكذا يقرِّر الله تعالى هذه الكلية العامة الشاملة لكل إنسان ( إن كل إنسان خلق ضعيفًا ) .
- خلق ضعيفًا في نشأته :﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾(عبس: 18- 19) . نطفة : صبابة من ماء مهين .
- وخلق ضعيفًا في علمه :﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾(الإسراء: 85) .
فعلمه قليل ومحفوف بآفتين : جهل قبل العلم ، ونسيان بعده ؛ فهو لا يعلم المستقبل ، حتى في تصرفات الخاصة :
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾(لقمان: 34) .
- وخلق ضعيفًا في تصرفه وإدراكه ، فقد يتصور البعيد قريبًا والقريب بعيدًا ، والنافع ضارًّا والضار نافعًا ، ولا يدرك النتائج التي تتمخض عن تصرفاته ( الشيخ محمد بن صالح العثيمين ) .
إن الضعف الإنساني سمة تلازم الإنسان من لحظة البداية في خلقه .. هل تَذكَّر الإنسان ذلك ؟ هل فكر الإنسان في أصل تكوينه ؟ إنه من تراب الأرض ! هل أدرك الإنسان أنه خُلق من عدم ، ولم يكن شيئاً ؟ هل فكر الإنسان بالقدرة التي أوجدته من العدم وكَّونته من التراب ؟ هذا هو الأصل الإنساني الضعيف! هل فكر الإنسان لحظة واستشعر مراحل ضعفه ووهنه ؟
الإنسان هذا المخلوق العجيب هو صنعة الله تعالى المحكمة الدقيقة ، هذا الإنسان الذي يبدو للوهلة الأولى في منتهى البساطة مشتمل على كل أشكال التعقيد ، إنه يبدو قويًّا مخيفًا مع أنه في حد ذاته ضعيف في كل جانب من جوانب شخصيته .. ضعيفٌ لا يوازيه شيء سوى ما يدعيه من القوة والعزة والسطوة .. وقد لخّصتْ لنا هذه الكلمات القرآنية الثلاث ﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾ جوهر الإنسان ؛ لكن دون أن تضع لنا الإصبع على مفردات ذلك الضعف ومظاهره ؛ ليظل اكتشافها التدريجي عبارة عن دروس وعظات مستمرة ، تذكر الإنسان بحقيقته ، وسوف ينفذ العمر دون أن نحيط بحقيقة أنفسنا .
ومن مظاهر ضعفنا :
1- أن التقدم المعرفي الكبير مازال محدودًا إلى يوم الناس هذا ، فهناك أجزاء من أجسامنا مازالت مناطق محرّمة .. فعلم الدماغ مازال علم إصابات أكثر من أن يكون علم وظائف وتشريح .. ومركبّات الأنسجة والسوائل المختلفة في أجسامنا وتفاعلها مع بعضها مازال الكثير منها مجهولاً ، فإذا ما دلفنا إلى مناطق المشاعر والإدراك وصلاتها وتفاعلاتها بالجوانب العضوية ، وجدنا أن كثيرًا مما لدينا ظنون وتخرُّصات أكثر من أن يكون حقائق . فإذا ما خطونا خطوة أخرى نحو العالم الوجداني والروحي ، وجدنا أنفسنا في متاهات وسراديب ، حتى إن الفردية لتطبع كل ذرة من ذرات وجودنا المعنوي ، مما يجعل إمكانات الفهم ووضع النواميس والنظم العامة أمورًا قليلة الفاعلية محدودة النجاح .
2- أن الباحثين في مجالات علوم الإنسان يجدون الطرق متشعبة ملتوية ، كلما تقدموا نحو الأمام ، على حين أن الباحثين في علوم الطبيعة يستفيدون من أنواع التقدم المعرفي الأفقي في إضاءة ما بقي مظلمًا من مسائل الطبيعة والمادة . وتقدّس الله تعالى ؛ إذ يقول :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾(الإسراء: 85) .
ويزداد ظهور ضعف الإنسان حين يدخل الإنسان في صراع بين عقله ومشاعره ، حيث يجد نفسه عاجزًا عن دفع مشاعره ، والخلاص من وساوسه ، والتغلب على مخاوفه أو معرفة مصدرها في بعض الأحيان ؛ ليدرك المرة تلو المرة أنه مع طموحه إلى السيادة على الأرض وغزو الفضاء قاصر عن السيطرة على نفسه .
إن فاعلية كل رأي ودقته نابعان من مجموعة العمليات التي يستند إليها ، فحين تكون تلك العمليات ظنية وعائمة ، فإن آراءنا الطبية والنفسية سوف يظل كثير منها هشًّا ونسبيًّا . الصواب : هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يجزم بشيء مقطوع من حوادث المستقبل ، فمهما أدرك المرء الظروف والعوامل والمؤثرات التي تحيط به ، لم يستطع أن يعرف ماذا سيحدث له بعد شهر أو يوم أو ساعة ، وأعظم أطباء الدنيا لا يستطيع ضمان استمرار حياته أو حياة غيره ساعة من زمان . ومن ثمّ فإن القلق والخوف من المستقبل هما الهاجس الجاثم فوق صدر الإنسان الحديث الذي فقد الإيمان (1) .
إذا كان الإنسان على ما ذكرنا من العجز والقصور ، فإن عليه أن يطامن من نفسه ، ويخضع لقيُّوم السموات والأرض خضوع العارف بضعفه ، المدرك لعظمة خالقه متخذًا من ذلك بابًا للأوبة والتوبة الدائمة .
الإنسان جسد ضعيف محدود القدرات والإمكانيات ، حواسه مقيدة محدودة ، فهو ذو بصر محدود ؛ إذ لا يمكنه الرؤية إلا في حدود مكونات الضوء الأبيض ، وهي الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي ، وما ينتج عن اختلاطها ببعضها من ألوان متعددة . أما ما تعدى حدود ذلك من موجات ضوئية فلا يستطيع الإنسان أن يميزها . فالأشعة تحت الحمراء ، والأشعة فوق البنفسجية ، والأشعة السينية ( أشعة إكس ) ، وأشعة ( جاما ) ، وغيرها لا تدركها العين البشرية ، بينما تستطيع بعض الطيور والحيوانات أن ترى الأشياء عن طريق الأشعة تحت الحمراء مثلاً ، مما يمنحها القدرة على الرؤية في الظلام الدامس ؛ كالكلاب والحمير ، ومنها ما يستطيع أن يرى الأشياء عن طرق الأشعة فوق البنفسجية ؛ كالدِّيَكَة مثلاً . والإنسان له عينان فقط ، وبالمقارنة مع الحيوانات والحشرات والطيور ، فإن المعروف أن عدد عيون الحيوانات تتراوح ما بين عينين اثنتين إلى عدة آلاف . فالعنكبوت مثلاً له ثماني عيون ، ومع ذلك فبصره ضعيف جدًّا بالنسبة لغيره .
وأما بالنسبة للسمع فإن الأذن البشرية ذات إمكانيات محدودة ، حيث لا تستطيع تمييز الأصوات ذات التردد أو الذبذبات التي تقل عن حوالي عشرين ذبذبة في الثانية ، أو التي تزيد عن حوالي عشرين ألف ذبذبة في الثانية ، كما أن قوة الصوت أو شدته تؤثر تأثيرًا ضارًّا على أذن الإنسان ، إذا تعدَّت حدودًا معينة . وتستطيع معظم الحيوانات أن تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج المدى المسموع بواسطة الأذن البشرية . فالكلب مثلاً يستطيع أن يسمع الأصوات ذات التردد المنخفض بواسطة أجزاء حساسة عند الخطوط الجانبية من جسمه ، وتستطيع الأسماك في الأحواض الزجاجية أن تسمع صدى حركتها منعكسًا على زجاج الحوض ، فلا ترتطم به . كما تتميز الطيور عمومًا بسمع حاد قوي . أما الخفاش فتوجد لديه قدرة خاصة على استقبال الموجات الصوتية ، ذات الترددات العالية (ultrasounds)بوساطة أذنيه الكبيرتين اللتين تتحركان في مختلف الاتجاهات بصورة مستمرة ؛ كأنهما جهاز رادار يبحث عن تلك الموجات الصوتية (2) .
فالإنسان هو أضعف المخلوقات من حيث القوة العقلية والجسمانية ، يحس بهذه الحقيقة في قرارة نفسه ، وحين يستعرض مشوار حياته منذ خلق من الماء المهين مرورًا بالحمل والمخاض ، وخروجه طفلاً ضعيفًا يستمد العون والمساعدة من غيره . ( انظر جريدة " العالم الإسلامي " السعودية – العدد : 1383)
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾(الروم: 54) .
في هذه الآية الكريمة يشير الحق سبحانه وتعالى إلى صفة الضعف ، تلك الصفة التي تلازم الإنسان طوال حياته ، وهى السمة المميزة للإنسان في مقتبل العمر ، وفى خريف حياته . وسبحان الخالق العظيم جعل مشوار حياة الإنسان يبدأ بالضعف وينتهي به ، حتى وإن كان في ريعان شبابه وقمة عنفوانه ، فهو ضعيف . إنه صريع أمام دوافع النوم ( الموتة الصغرى ) ، لا غلبة له عليه ، يطرحه أرضًا ، حتى وإن كانت قوته تصارع وتقهر العتاة .
أليس الإنسان ضعيفًا حتى في أوج قوته ؟ وها هو المرض في أوهن أشكاله ومسبباته يقهر الإنسان ، ويوهن صحته ويحد من نشاطه ، وقد ينال من جسده ويضعف من قوته ، فيصبح عاجزاً لا يقوى على رعاية نفسه ؟ أليس المسلم ضعيفًا أخي المسلم حتى في لحظات ومراحل القوة والغطرسة التي قد تخدع أكثر الناس ، وتحيد به عن سواء السبيل ؟
ونحن إذ نتأمل صفة الضعف التي تلازم الإنسان ، فإننا لا نرى سوى سبيل واحد فريد ، هو مصدر كل قوة حقيقية ، وهو مبعث كل طمأنينة ، وهو المصدر المنيع الذي يدافع عن النفس ويحميها من كل خطب وضلال وهوان ، إنه الإيمان بالله الواحد القهَّار .. فهو القوة الحقيقة في النفس البشرية ، ومادون ذلك فهو ضعف وهوان ، وإن كان ظاهره القوة .
تأمل أخي المسلم مرحلة الطفولة لحظة خروج الإنسان للحياة ، ثم طفلاً رضيعًا يستمد الغذاء والعون من أمه .. إنها لحظات الضعف والوهن الغامر الذي مر به كل مخلوق ، وأولهم الإنسان .. تذكر أخي الشاب المسلم هذه اللحظات ، وأرجع شريط مسيرة حياتك ، وتخيل كيف كنت لا تقوى على الحركة والجلوس والمشي ، ولا تقدر على التعبير والنطق ، ولا تدرك أسباب الحياة وحركتها .. تفكيرك محدود ، وقوتك ضعيفة ، وعزمك واهن ، وإرادتك تابعة ، وتطلب العون والمساعدة ، ثم تدرجت في قدراتك ، وتطور نموك ، وارتقت مفاهيمك ، واتسع إدراكك ، واشتد عودك ، وانتصب قوامك ، والتفت عضلاتك ، وتكونت شخصيتك ، وأصبحت رجلاً يتمتع بالقوة ، وتحتل مكانة وتتبوأ مركزاً مرموقًا ، أو تتحمل أعباء وتدير حركة الحياة وتعمر الأرض . فهل فكرت أخي المسلم ! كيف كنت ؟ وأين أصبحت ؟ وهل استحضرت حقيقة كيف كنت ؟ وأين أصبحت ؟
أخي المسلم عليك أن تستلهم من مسيرة حياتك ، وتأخذ العبرة من لحظات الضعف التي كنت بها قبل أن تصبح رجلاً قويًّا ، فتكرِّس قوتك وتسخرها لعبادة الله وطاعته ، وتنتهز لحظات القوة ؛ لكي تؤدى واجب الطاعة والعبادة للخالق الذي أمدك بالقوة ، ووهبك العقل والفكر والبصيرة . فلا تضيع قوتك التي سوف تزول لا محالة في هوى النفس وشهواتها ، ولا تفني هذه القوة في معصية الله عز وجل ، وفى غير ما أُهِّلتْ له .. تذكر أخي المسلم أن لحظات حياتك عجلة دائرة ، فأنت بين ضعف وقوة وعجز وقدرة . (جريدة " العالم الإسلامي " – السعودية – العدد "1389" )
خلق الله تعالى آدم من تراب من عناصر الأرض .. من الحديد والكالسيوم والماغنسيوم والكربون وغيرها ، واختار له الصورة التي أراده عليها ، وبث فيه الحياة ، وزوده بمواهب وطاقات تساعده على إعمار الأرض واستخراج مكنوناتها ، وزوده بالعقل والسمع والبصر والفؤاد ، وشرع له المنهج الذي تستقيم به حياته ، وأمره بالسير في هذا الطريق وتجنب إغراءات الشيطان ونزعات النفس حتى لا يضل ..
ولنرجع إلى جسم الإنسان ؛ لنرى ما قالت المعامل ، وما أثبتت : إن جسم الإنسان العادي يحتوى على مائة وأربعين رطلاً من الماء ، ومن الدهون ما يكفي لصنع سبع قطع من الصابون ، ومن الرصاص ما يكفي لصنع ستة آلاف قلم رصاص ، ومن الملح ما يملأ ملعقة صغيرة ، ومن الفسفور ما يكفي لصنع ألفين ومائتي عود ثقاب ، ومن الماغنسيوم ما يكفي لجرعة من الأملاح الملينة ، ومن الحديد ما يكفي لصنع مسمار طويل ، ومن البوتاسيوم ما يكفي لقدح زناد مدفع من مدافع الأطفال ، ومن السكر ما يملأ زجاجة عادية .
هذا هو الإنسان ، خلق من الأرض الترابية ، فإذا مات عاد إليها ، وتحلل جسمه إلى هذه العناصر ، ودخل في تركيب أجسام أخرى حيوانية ونباتية (3) . وهكذا يُولد الإنسان متجهًا إلى نهايته . فكل دقيقة تمر تدنيه من أجله ، لا ينحرف عن هذه الغاية أبدًا ، ولا يتخلف عن موعدها . أنفاسٌ معدودة ، وخطواتٌ محدودة ، فإذا اكتمل العدد كانت النهاية .. ويُسدل الستار على إنسان كان .. ولو كان قد أصغى إلى دقات قلبه ، لسمعها ، وهي تقول :( إن الحياة دقائق وثوان ) . ولو صغى الناس بقلوبهم إلى بارئهم ، لامتثلوا أمره ونهيه ، واعتبروا بقوله سبحانه ، وهو يناديهم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾(لقمان: 33) .
﴿ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾(النساء: 28) .
هكذا يقرِّر الله تعالى هذه الكلية العامة الشاملة لكل إنسان ( إن كل إنسان خلق ضعيفًا ) .
- خلق ضعيفًا في نشأته :﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾(عبس: 18- 19) . نطفة : صبابة من ماء مهين .
- وخلق ضعيفًا في علمه :﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾(الإسراء: 85) .
فعلمه قليل ومحفوف بآفتين : جهل قبل العلم ، ونسيان بعده ؛ فهو لا يعلم المستقبل ، حتى في تصرفات الخاصة :
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾(لقمان: 34) .
- وخلق ضعيفًا في تصرفه وإدراكه ، فقد يتصور البعيد قريبًا والقريب بعيدًا ، والنافع ضارًّا والضار نافعًا ، ولا يدرك النتائج التي تتمخض عن تصرفاته ( الشيخ محمد بن صالح العثيمين ) .
إن الضعف الإنساني سمة تلازم الإنسان من لحظة البداية في خلقه .. هل تَذكَّر الإنسان ذلك ؟ هل فكر الإنسان في أصل تكوينه ؟ إنه من تراب الأرض ! هل أدرك الإنسان أنه خُلق من عدم ، ولم يكن شيئاً ؟ هل فكر الإنسان بالقدرة التي أوجدته من العدم وكَّونته من التراب ؟ هذا هو الأصل الإنساني الضعيف! هل فكر الإنسان لحظة واستشعر مراحل ضعفه ووهنه ؟
الإنسان هذا المخلوق العجيب هو صنعة الله تعالى المحكمة الدقيقة ، هذا الإنسان الذي يبدو للوهلة الأولى في منتهى البساطة مشتمل على كل أشكال التعقيد ، إنه يبدو قويًّا مخيفًا مع أنه في حد ذاته ضعيف في كل جانب من جوانب شخصيته .. ضعيفٌ لا يوازيه شيء سوى ما يدعيه من القوة والعزة والسطوة .. وقد لخّصتْ لنا هذه الكلمات القرآنية الثلاث ﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾ جوهر الإنسان ؛ لكن دون أن تضع لنا الإصبع على مفردات ذلك الضعف ومظاهره ؛ ليظل اكتشافها التدريجي عبارة عن دروس وعظات مستمرة ، تذكر الإنسان بحقيقته ، وسوف ينفذ العمر دون أن نحيط بحقيقة أنفسنا .
ومن مظاهر ضعفنا :
1- أن التقدم المعرفي الكبير مازال محدودًا إلى يوم الناس هذا ، فهناك أجزاء من أجسامنا مازالت مناطق محرّمة .. فعلم الدماغ مازال علم إصابات أكثر من أن يكون علم وظائف وتشريح .. ومركبّات الأنسجة والسوائل المختلفة في أجسامنا وتفاعلها مع بعضها مازال الكثير منها مجهولاً ، فإذا ما دلفنا إلى مناطق المشاعر والإدراك وصلاتها وتفاعلاتها بالجوانب العضوية ، وجدنا أن كثيرًا مما لدينا ظنون وتخرُّصات أكثر من أن يكون حقائق . فإذا ما خطونا خطوة أخرى نحو العالم الوجداني والروحي ، وجدنا أنفسنا في متاهات وسراديب ، حتى إن الفردية لتطبع كل ذرة من ذرات وجودنا المعنوي ، مما يجعل إمكانات الفهم ووضع النواميس والنظم العامة أمورًا قليلة الفاعلية محدودة النجاح .
2- أن الباحثين في مجالات علوم الإنسان يجدون الطرق متشعبة ملتوية ، كلما تقدموا نحو الأمام ، على حين أن الباحثين في علوم الطبيعة يستفيدون من أنواع التقدم المعرفي الأفقي في إضاءة ما بقي مظلمًا من مسائل الطبيعة والمادة . وتقدّس الله تعالى ؛ إذ يقول :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾(الإسراء: 85) .
ويزداد ظهور ضعف الإنسان حين يدخل الإنسان في صراع بين عقله ومشاعره ، حيث يجد نفسه عاجزًا عن دفع مشاعره ، والخلاص من وساوسه ، والتغلب على مخاوفه أو معرفة مصدرها في بعض الأحيان ؛ ليدرك المرة تلو المرة أنه مع طموحه إلى السيادة على الأرض وغزو الفضاء قاصر عن السيطرة على نفسه .
إن فاعلية كل رأي ودقته نابعان من مجموعة العمليات التي يستند إليها ، فحين تكون تلك العمليات ظنية وعائمة ، فإن آراءنا الطبية والنفسية سوف يظل كثير منها هشًّا ونسبيًّا . الصواب : هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يجزم بشيء مقطوع من حوادث المستقبل ، فمهما أدرك المرء الظروف والعوامل والمؤثرات التي تحيط به ، لم يستطع أن يعرف ماذا سيحدث له بعد شهر أو يوم أو ساعة ، وأعظم أطباء الدنيا لا يستطيع ضمان استمرار حياته أو حياة غيره ساعة من زمان . ومن ثمّ فإن القلق والخوف من المستقبل هما الهاجس الجاثم فوق صدر الإنسان الحديث الذي فقد الإيمان (1) .
إذا كان الإنسان على ما ذكرنا من العجز والقصور ، فإن عليه أن يطامن من نفسه ، ويخضع لقيُّوم السموات والأرض خضوع العارف بضعفه ، المدرك لعظمة خالقه متخذًا من ذلك بابًا للأوبة والتوبة الدائمة .
الإنسان جسد ضعيف محدود القدرات والإمكانيات ، حواسه مقيدة محدودة ، فهو ذو بصر محدود ؛ إذ لا يمكنه الرؤية إلا في حدود مكونات الضوء الأبيض ، وهي الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي ، وما ينتج عن اختلاطها ببعضها من ألوان متعددة . أما ما تعدى حدود ذلك من موجات ضوئية فلا يستطيع الإنسان أن يميزها . فالأشعة تحت الحمراء ، والأشعة فوق البنفسجية ، والأشعة السينية ( أشعة إكس ) ، وأشعة ( جاما ) ، وغيرها لا تدركها العين البشرية ، بينما تستطيع بعض الطيور والحيوانات أن ترى الأشياء عن طريق الأشعة تحت الحمراء مثلاً ، مما يمنحها القدرة على الرؤية في الظلام الدامس ؛ كالكلاب والحمير ، ومنها ما يستطيع أن يرى الأشياء عن طرق الأشعة فوق البنفسجية ؛ كالدِّيَكَة مثلاً . والإنسان له عينان فقط ، وبالمقارنة مع الحيوانات والحشرات والطيور ، فإن المعروف أن عدد عيون الحيوانات تتراوح ما بين عينين اثنتين إلى عدة آلاف . فالعنكبوت مثلاً له ثماني عيون ، ومع ذلك فبصره ضعيف جدًّا بالنسبة لغيره .
وأما بالنسبة للسمع فإن الأذن البشرية ذات إمكانيات محدودة ، حيث لا تستطيع تمييز الأصوات ذات التردد أو الذبذبات التي تقل عن حوالي عشرين ذبذبة في الثانية ، أو التي تزيد عن حوالي عشرين ألف ذبذبة في الثانية ، كما أن قوة الصوت أو شدته تؤثر تأثيرًا ضارًّا على أذن الإنسان ، إذا تعدَّت حدودًا معينة . وتستطيع معظم الحيوانات أن تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج المدى المسموع بواسطة الأذن البشرية . فالكلب مثلاً يستطيع أن يسمع الأصوات ذات التردد المنخفض بواسطة أجزاء حساسة عند الخطوط الجانبية من جسمه ، وتستطيع الأسماك في الأحواض الزجاجية أن تسمع صدى حركتها منعكسًا على زجاج الحوض ، فلا ترتطم به . كما تتميز الطيور عمومًا بسمع حاد قوي . أما الخفاش فتوجد لديه قدرة خاصة على استقبال الموجات الصوتية ، ذات الترددات العالية (ultrasounds)بوساطة أذنيه الكبيرتين اللتين تتحركان في مختلف الاتجاهات بصورة مستمرة ؛ كأنهما جهاز رادار يبحث عن تلك الموجات الصوتية (2) .
فالإنسان هو أضعف المخلوقات من حيث القوة العقلية والجسمانية ، يحس بهذه الحقيقة في قرارة نفسه ، وحين يستعرض مشوار حياته منذ خلق من الماء المهين مرورًا بالحمل والمخاض ، وخروجه طفلاً ضعيفًا يستمد العون والمساعدة من غيره . ( انظر جريدة " العالم الإسلامي " السعودية – العدد : 1383)
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾(الروم: 54) .
في هذه الآية الكريمة يشير الحق سبحانه وتعالى إلى صفة الضعف ، تلك الصفة التي تلازم الإنسان طوال حياته ، وهى السمة المميزة للإنسان في مقتبل العمر ، وفى خريف حياته . وسبحان الخالق العظيم جعل مشوار حياة الإنسان يبدأ بالضعف وينتهي به ، حتى وإن كان في ريعان شبابه وقمة عنفوانه ، فهو ضعيف . إنه صريع أمام دوافع النوم ( الموتة الصغرى ) ، لا غلبة له عليه ، يطرحه أرضًا ، حتى وإن كانت قوته تصارع وتقهر العتاة .
أليس الإنسان ضعيفًا حتى في أوج قوته ؟ وها هو المرض في أوهن أشكاله ومسبباته يقهر الإنسان ، ويوهن صحته ويحد من نشاطه ، وقد ينال من جسده ويضعف من قوته ، فيصبح عاجزاً لا يقوى على رعاية نفسه ؟ أليس المسلم ضعيفًا أخي المسلم حتى في لحظات ومراحل القوة والغطرسة التي قد تخدع أكثر الناس ، وتحيد به عن سواء السبيل ؟
ونحن إذ نتأمل صفة الضعف التي تلازم الإنسان ، فإننا لا نرى سوى سبيل واحد فريد ، هو مصدر كل قوة حقيقية ، وهو مبعث كل طمأنينة ، وهو المصدر المنيع الذي يدافع عن النفس ويحميها من كل خطب وضلال وهوان ، إنه الإيمان بالله الواحد القهَّار .. فهو القوة الحقيقة في النفس البشرية ، ومادون ذلك فهو ضعف وهوان ، وإن كان ظاهره القوة .
تأمل أخي المسلم مرحلة الطفولة لحظة خروج الإنسان للحياة ، ثم طفلاً رضيعًا يستمد الغذاء والعون من أمه .. إنها لحظات الضعف والوهن الغامر الذي مر به كل مخلوق ، وأولهم الإنسان .. تذكر أخي الشاب المسلم هذه اللحظات ، وأرجع شريط مسيرة حياتك ، وتخيل كيف كنت لا تقوى على الحركة والجلوس والمشي ، ولا تقدر على التعبير والنطق ، ولا تدرك أسباب الحياة وحركتها .. تفكيرك محدود ، وقوتك ضعيفة ، وعزمك واهن ، وإرادتك تابعة ، وتطلب العون والمساعدة ، ثم تدرجت في قدراتك ، وتطور نموك ، وارتقت مفاهيمك ، واتسع إدراكك ، واشتد عودك ، وانتصب قوامك ، والتفت عضلاتك ، وتكونت شخصيتك ، وأصبحت رجلاً يتمتع بالقوة ، وتحتل مكانة وتتبوأ مركزاً مرموقًا ، أو تتحمل أعباء وتدير حركة الحياة وتعمر الأرض . فهل فكرت أخي المسلم ! كيف كنت ؟ وأين أصبحت ؟ وهل استحضرت حقيقة كيف كنت ؟ وأين أصبحت ؟
أخي المسلم عليك أن تستلهم من مسيرة حياتك ، وتأخذ العبرة من لحظات الضعف التي كنت بها قبل أن تصبح رجلاً قويًّا ، فتكرِّس قوتك وتسخرها لعبادة الله وطاعته ، وتنتهز لحظات القوة ؛ لكي تؤدى واجب الطاعة والعبادة للخالق الذي أمدك بالقوة ، ووهبك العقل والفكر والبصيرة . فلا تضيع قوتك التي سوف تزول لا محالة في هوى النفس وشهواتها ، ولا تفني هذه القوة في معصية الله عز وجل ، وفى غير ما أُهِّلتْ له .. تذكر أخي المسلم أن لحظات حياتك عجلة دائرة ، فأنت بين ضعف وقوة وعجز وقدرة . (جريدة " العالم الإسلامي " – السعودية – العدد "1389" )
خلق الله تعالى آدم من تراب من عناصر الأرض .. من الحديد والكالسيوم والماغنسيوم والكربون وغيرها ، واختار له الصورة التي أراده عليها ، وبث فيه الحياة ، وزوده بمواهب وطاقات تساعده على إعمار الأرض واستخراج مكنوناتها ، وزوده بالعقل والسمع والبصر والفؤاد ، وشرع له المنهج الذي تستقيم به حياته ، وأمره بالسير في هذا الطريق وتجنب إغراءات الشيطان ونزعات النفس حتى لا يضل ..
ولنرجع إلى جسم الإنسان ؛ لنرى ما قالت المعامل ، وما أثبتت : إن جسم الإنسان العادي يحتوى على مائة وأربعين رطلاً من الماء ، ومن الدهون ما يكفي لصنع سبع قطع من الصابون ، ومن الرصاص ما يكفي لصنع ستة آلاف قلم رصاص ، ومن الملح ما يملأ ملعقة صغيرة ، ومن الفسفور ما يكفي لصنع ألفين ومائتي عود ثقاب ، ومن الماغنسيوم ما يكفي لجرعة من الأملاح الملينة ، ومن الحديد ما يكفي لصنع مسمار طويل ، ومن البوتاسيوم ما يكفي لقدح زناد مدفع من مدافع الأطفال ، ومن السكر ما يملأ زجاجة عادية .
هذا هو الإنسان ، خلق من الأرض الترابية ، فإذا مات عاد إليها ، وتحلل جسمه إلى هذه العناصر ، ودخل في تركيب أجسام أخرى حيوانية ونباتية (3) . وهكذا يُولد الإنسان متجهًا إلى نهايته . فكل دقيقة تمر تدنيه من أجله ، لا ينحرف عن هذه الغاية أبدًا ، ولا يتخلف عن موعدها . أنفاسٌ معدودة ، وخطواتٌ محدودة ، فإذا اكتمل العدد كانت النهاية .. ويُسدل الستار على إنسان كان .. ولو كان قد أصغى إلى دقات قلبه ، لسمعها ، وهي تقول :( إن الحياة دقائق وثوان ) . ولو صغى الناس بقلوبهم إلى بارئهم ، لامتثلوا أمره ونهيه ، واعتبروا بقوله سبحانه ، وهو يناديهم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾(لقمان: 33) .