وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ
قال الله عز وجل في الأعراف :﴿ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾(الأعراف: 30) ، وقال سبحانه وتعالى في النحل :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾(النحل: 36) ، فأتى بالفعل ( حقَّ ) مع ( الضلالة ) مذكَّرًا في الآية الأولى ، وأتى بالفعل ( حقَّت ) معها مؤنَّثًا في الآية الثانية .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لم أتى هذا الفعل في آية الأعراف مذكَّرًا ، وأتى في آية النحل مؤنَّثًا ، والمسند إليه في الآيتين واحد ، وهو ( الضلالة ) ؟ وما الفرق بينهما ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- ( الضلالة ) في اللغة مؤنث ( الضلال ) . والضلالُ خلاف الاهتداء ، وهو مصدر : ضلَّ . يقال : ضلًّ يضِلُّ ضلالاً ؛ كما يقال : اهتدى يهتدي اهتداء . قال الله تعالى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾(يونس: 108) . والضلالُ والضلالةُ : العدول عن الحق ومجانبة الصواب ، والفرق بينهما : أن الضلالة أخصُّ من الضلال ، وأبلغ في التعبير عن المراد . ويبين لك ذلك أن نوحًا عليه السلام لما دعا قومه إلى ( التوحيد ) ، قال له الأشراف من قومه والسادة الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ ﴾(الأعراف: 60) ، فأجابهم بقوله :﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾(الأعراف: 61) ، ولم يجبهم بما يقتضيه قولهم له ، فيقول :( ليس بي ضلال ) ؛ لأن الضلالة أخصُّ من الضلال ، فكانت أبلغ في نفي الضلال ؛ وكأنه قال : ليس بي ضلالة واحدة أو شيء من الضلال ، فضلاً عن أن يكون بي ضلال . فكان جوابه من أحسن الرد وأبلغه في نفي أنواع الضلال عن نفسه ، وفي ضمنه نسبة الضلال إليهم بكل أنواعه . فلو قال :( ليس بي ضلال) ، لم يُؤدِّ هذا المعنى ، فتأمله !
وقولي : الضلال أو الضلالة خلاف الاهتداء هو مذهب أهل السنة ، ومذهب المعتزلة أن الضلالة خلاف الهُدَى ، واحتج الزمخشري على ذلك بقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾(البقرة: 16) ، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾(سبأ: 24) ، فوقعت الضلالة والضلال في مقابلة الهدى . وقول الزمخشري هذا مبنيٌّ على تعريفه للهدى بأنه ( الدلالة الموصلة إلى البغية ) . أي : إلى الاهتداء . وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم . وفي حقيقة الهدى قال الرازي :« الهدى عبارة عن الدلالة » ، ثم أورد القولين السابقين ، وعقَّب عليهما بقوله :« والذي يدل على صحة القول الأول ، وفساد القول الثاني والثالث ، أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية مُعتَبرًا في مسمَّى الهدى ، لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء ؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محالٌ ؛ لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾(فصِّلت: 17) ، أثبت الهدى مع عدم الاهتداء ؛ ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال : هديته فلم يهتد ، وذلك يدل على قولنا » . ثم قال :« الفرق بين الهدى ، وبين الاهتداء معلوم بالضرورة ؛ فمقابل الهدى هو الإضلال ، ومقابل الاهتداء هو الضلال ؛ فجََعلُ الهدى في مقابلة الضلال ممتنع » .
وذهب بعضهم إلى أن الضلال في قوله تعالى :﴿ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴾(نوح: 24) بمعنى العذاب ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾(القمر: 17) . أي : في عذاب ، ونار مستعرة . وقال أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾(البقرة: 16) :« قيل : يضل بمعنى : يعذب ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ ، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا ، وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق » . وقال الرازي :« اعترض القفال عليه ، فقال : لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب . أما قوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن الحق في الدنيا ، وفي سعر . أي : في عذاب جهنم في الآخرة » . وإلى هذا القول ذهب بعض المفسرين ، والصواب في تفسير الآية قول ابن كثير :« يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق ، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء ، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق » ، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى :﴿ فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾(القمر: 24) ، والمعنى : يقولون : إن اتبعنا صالحًا وهو بشر منا واحد ، فإنا إذًا لفي ذهاب عن الصواب وبعد عن الحق ، وجنون . أو في شقاء وعناء ، تشبيهًا باستعار النار . وقال الزركشي في البرهان :« كل شيء في القرآن من ذكر السعير فهو النار والوقود ؛ إلا قوله عز وجل :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ ، فإنه العناد » .
ثانيًا- نعود إلى الجواب عن السؤال الذي ابتدأنا به ، وكان الغرض ممَّا تقدَّم أن نبين أن الضلالة خلاف الاهتداء ، وأنها لا تأتي بمعنى : العذاب ، خلافًا للمعتزلة ومن يقول بقولهم ، فنقول بعد هذا : قال ابن قيِّم الجوزيَّة :« فإن قيل : فما الفرق بين قوله :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾(النحل: 36) ، وبين قوله :﴿ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾(الأعراف: 30) ؟ قيل : الفرق من وجهين : لفظي ومعنوي.
أما اللفظي فهو أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل في قوله :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ أكثر منها في قوله :﴿ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ ﴾ ، وقد تقدم أن الحذف مع كثرة الحواجز أحسن .
وأما المعنوي فإن ( مَنْ ) في قوله :﴿ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾ واقعة على الأمة والجماعة ، وهي مؤنثة لفظًا ؛ ألا تراه يقول :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ﴾(النحل: 36) ، ثم قال :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾ . أي : من تلك الأمم أمم حقَّت عليهم الضلالة . ولو قال بدل ذلك :( ضَلَّتْ ) ، لتعينت التاء ، ومعنى الكلامين واحد . وإذا كان معنى الكلامين واحدًا ، كان إثبات التاء أحسن من تركها ؛ لأنها ثابتة فيما هو في معنى الكلام الآخر .
وأما ﴿ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ فـ( الفريق ) مذكَّر ، ولو قال :( فريقًا ضلُّوا ) ، لكان بغير تاء ، وقولهم :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ في معناه ، فجاء بغير تاء . وهذا أسلوب لطيف من أساليب العربية ، تدع العرب حكم اللفظ الواجب له في قياس لغتها ، إذا كان في معنى كلمة لا يجب لها ذلك الحكم ، تراهم يقولون : هو أحسن الفتيان وأجمله ؛ لأنه في معنى : هو أحسن فتى وأجمله » .
ثالثًا- وهنا أدعو عبَّاد الأوثان إلى النظر في جواب ابن قيِّم الجوزيَّة وتدبُّره ، إن كانوا يحسنون النظر والتدبر ؛ ليقارنوه بجواب العالم الكبير والمبدع الذي لا حدود لإبداعه ، وكان الدكتور السامرائي قد تحدث عن سبب تذكير الفعل وتأنيثه في هاتين الآيتين ، فقال :« تذكير الفاعل المؤنث له أكثر من سبب وأكثر من خط في القرآن الكريم ، فإذا قصدنا باللفظ المؤنّث معنى المذكّر جاز تذكيره ، وهو ما يُعرف بالحمل على المعنى ، وقد جاء في قوله تعالى عن الضلالة :( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ (30) الأعراف) ، وقوله تعالى :( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ (36) النحل) .
ونرى أنه في كل مرة يذكر فيها الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب ؛ لأن الكلام في الآخرة :( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الأعراف) ، وليس في الآخرة ضلالة بمعناها ؛ لأن الأمور كلها تنكشف في الآخرة ، وعندما تكون الضلالة بالتأنيث يكون الكلام في الدنيا . فلمّا كانت الضلالة بمعناها هي ، يؤنّث الفعل » .
هذا ما أجاب به السامرائي ، ولا يخفى ما بينه ، وبين جواب ابن قيِّم الجوزية من مفارقة عجيبة ، ولو أنه اقتدى به لكان أفضل له وأحسن ، وتعقيبًا على هذا الجواب ، إن جاز أن نسمِّيه جوابًا ، نقول :
1- أما قوله :« تذكير الفاعل المؤنث له أكثر من سبب وأكثر من خط في القرآن الكريم » فالفاعل المؤنث لا يذكَّر ، وإنما الذي يجوز فيه التذكير والتأنيث هو الفعل المسند إلى الفاعل إن توفرت فيه الشروط المعروفة ، فلا يقال : هذا ضلالة ، وهذا صيحة ، وهذا رجفة ؛ وإنما يقال : حقَّ عليه ضلالة ، وأخذ الظالم صيحة ورجفة . وأما قوله :« له أكثر من سبب وأكثر من خط في القرآن الكريم » فهو ادعاء باطل ، وما سمَّاه خطوطًا هنا ، وفي موضع آخر : خطوطًا تعبيرية ، هو خطوط وهمية لا حقيقة لها ، وقد رددنا عليه قوله هذا في أكثر من مقال .
2- وأما قوله :« فإذا قصدنا باللفظ المؤنّث معنى المذكّر جاز تذكيره ، وهو ما يُعرف بالحمل على المعنى » فآخره صحيح ، وأوله كقوله السابق ؛ فاللفظ المؤنث ، وإن قصد به معنى المذكَّر ، فلا يجوز تذكيره ؛ وإنما الذي يجوز تذكيره- كما قلنا- هو الفعل المسند إليه إن توفرت فيه الشروط المتفق عليها بين النحاة .
3- وأما قوله :« ونرى أنه في كل مرة يذكر فيها الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب » فالضلالة لا تُذكِر بالتذكير ، ولا تكون بمعنى العذاب ، وقد سبق أن بينا ذلك في الفقرة الأولى ، ونضيف هنا أولاً : قال الله تعالى :﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾(البقرة: 175) ، فجمع بين الضلالة والعذاب . فلو كانت الضلالة بمعنى العذاب ، لما صحت المغايرة بينهما . وأما ثانيًا : فإن لفظ ( الضلالة ) ورد بالتعريف في ثماني آيات ، وورد بالتنكير في آية واحدة وقع فيها اسمًا لليس ، وهي قوله :﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾(الأعراف: 61) ، وجاء مسندًا إلى ضمير الغائبين ﴿ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ في آيتين ، وجاء مسندًا إلى الفعل في آيتين ، ذكِّر في الأولى ، وأُنِّث في الثانية ؛ وهما الآيتان اللتان نحن بصدد الحديث عنهما :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ ، ﴿ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ ﴾ ، وهذا ينقض قوله السابق الذي زعم فيه أنه يرى في كل مرة يذكر فيها الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب .
4- وأما قوله :« لأن الكلام في الآخرة :( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الأعراف) ، وليس في الآخرة ضلالة بمعناها ؛ لأن الأمور كلها تنكشف في الآخرة . وعندما تكون الضلالة بالتأنيث يكون الكلام في الدنيا ، فلمّا كانت الضلالة بمعناها هي يؤنّث الفعل » فهو ادعاء باطل أيضًا ، يدل على عدم فهم لكلام الله عز وجل ، وجهل فاضح بما ينطوي عليه من أسرار البيان . هذا مع أن معنى الآية أوضح من أن يخفى عن المبتدئين ؛ فالله تعالى يقول : كما بدأكم في الدنيا فريقين : فريق مهتد وفريق ضال ؛ كذلك يعيدكم يوم البعث فريقين : فريق مهتد وفريق ضال . فمن كتب عليه أنه من أهل السعادة والإيمان في الدنيا فهو كذلك في الآخرة ، ومن كتب عليه أنه من أهل الشقاوة والكفر في الدنيا فهو كذلك في الآخرة ، لا يتبدل شيء مما أحكمه الله عز وجل ودبَّره ، وهذا مذهب جمهور المفسرين .
وقال ابن عاشور :« ومعنى ﴿ فَرِيقاً هَدَى ﴾ : أن فريقًا هداهم الله في الدنيا ، و:﴿ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ . أي : في الدنيا ؛ كما دل عليه التعليل بقوله :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾(الأعراف: 30) » ، فحصر الضلالة في الدنيا ، وقد مرَّ بنا قول نوح عليه السلام لقومه :﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾(الأعراف: 61) بتذكير ( ليس ) مع الضلالة ، وهي في الدنيا ، وليست بمعنى العذاب وأنها في الآخرة ؛ كما زعم السامرائي . وأما سبب تذكيرها هنا فهو وجود الفاصل بينها ، وبين الضلالة ، وأن المراد بالضلالة النوع . أي ليس بي نوع من أنواع الضلال ، وهذا هو الحمل على المعنى .
رابعًا- من يقرأ جواب ابن قيم الجوزية يفهم منه كل شيء ، ومن يقرأ كلام العالم الكبير المبدع لا يفهم منه أي شيء ، والقول الوحيد الذي ذكره صوابًا في جوابه كله هو قوله :« وهو ما يُعرف بالحمل على المعنى » ، ولم يحسن تطبيقه . وأما ما عدا ذلك فكل ما ذكر في هذا الجواب هو خطأ ، لا يخفى إلا على من طمس الله على بصره ، وختم على قلبه ، فليس عجيبًا بعد هذا أن ترى أحدهم يكتب مقالاً بحت عنوان ( الدكتور فاضل السامرائي- إبداع بلا حدود ) ، وليس غريبًا أن تسمع السيدة سمر الأناؤوط تعلق على هذا المقال بقولها :
« بارك الله بالدكتور الفاضل ، وهو بحق إبداع بلا حدود ، وصدق فيه قوله تعالى :( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (23) الأحزاب ) ، صدق اللهَ في دعائه له بأن يفتح عليه من علمه الواسع بالقرآن وتعلق بأستار الكعبة داعيًا ربه متضرعًا إليه راجيًا ، فصدقَه اللهُ تعالى ، وزاده من علمه ، وفتح عليه فتوح العارفين » . وأضافت هذه السيدة التي اعترفت أكثر من مرة بأنها لا تفهم شيئًا مما يقول السامرائي ، فمهمتها مقتصرة فقط على نقل وجمع ما ينطق به عالمها المبدع الذي لا حدود لإبداعه من درر وجواهر ، أضافت قائلة :« وتقديرًا لجهوده وحرصًا على نشر علمه ، كانت فكرة موقعي إسلاميات الذي بدأ بحلقات هذا العالم الفاضل ، ثم توسع ليشمل علماء آخرين ، لكن يبقى برنامج لمسات بيانية أساس هذا الموقع وقلبه النابض بالعلم بكتاب الله تعالى » .
وشتان ما بين شهادة هؤلاء الشهود له ، وشهادة تلك اللمسات التي تنطق بنفسها دون أن يستنطقها أحد بجهل ما له حدود بكلام الله عز وجل ، أفلم ينظروا فيها ، ( فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) ؟ ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ، صدق الله العظيم !
قال الله عز وجل في الأعراف :﴿ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾(الأعراف: 30) ، وقال سبحانه وتعالى في النحل :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾(النحل: 36) ، فأتى بالفعل ( حقَّ ) مع ( الضلالة ) مذكَّرًا في الآية الأولى ، وأتى بالفعل ( حقَّت ) معها مؤنَّثًا في الآية الثانية .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لم أتى هذا الفعل في آية الأعراف مذكَّرًا ، وأتى في آية النحل مؤنَّثًا ، والمسند إليه في الآيتين واحد ، وهو ( الضلالة ) ؟ وما الفرق بينهما ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- ( الضلالة ) في اللغة مؤنث ( الضلال ) . والضلالُ خلاف الاهتداء ، وهو مصدر : ضلَّ . يقال : ضلًّ يضِلُّ ضلالاً ؛ كما يقال : اهتدى يهتدي اهتداء . قال الله تعالى :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾(يونس: 108) . والضلالُ والضلالةُ : العدول عن الحق ومجانبة الصواب ، والفرق بينهما : أن الضلالة أخصُّ من الضلال ، وأبلغ في التعبير عن المراد . ويبين لك ذلك أن نوحًا عليه السلام لما دعا قومه إلى ( التوحيد ) ، قال له الأشراف من قومه والسادة الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ ﴾(الأعراف: 60) ، فأجابهم بقوله :﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾(الأعراف: 61) ، ولم يجبهم بما يقتضيه قولهم له ، فيقول :( ليس بي ضلال ) ؛ لأن الضلالة أخصُّ من الضلال ، فكانت أبلغ في نفي الضلال ؛ وكأنه قال : ليس بي ضلالة واحدة أو شيء من الضلال ، فضلاً عن أن يكون بي ضلال . فكان جوابه من أحسن الرد وأبلغه في نفي أنواع الضلال عن نفسه ، وفي ضمنه نسبة الضلال إليهم بكل أنواعه . فلو قال :( ليس بي ضلال) ، لم يُؤدِّ هذا المعنى ، فتأمله !
وقولي : الضلال أو الضلالة خلاف الاهتداء هو مذهب أهل السنة ، ومذهب المعتزلة أن الضلالة خلاف الهُدَى ، واحتج الزمخشري على ذلك بقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾(البقرة: 16) ، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾(سبأ: 24) ، فوقعت الضلالة والضلال في مقابلة الهدى . وقول الزمخشري هذا مبنيٌّ على تعريفه للهدى بأنه ( الدلالة الموصلة إلى البغية ) . أي : إلى الاهتداء . وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم . وفي حقيقة الهدى قال الرازي :« الهدى عبارة عن الدلالة » ، ثم أورد القولين السابقين ، وعقَّب عليهما بقوله :« والذي يدل على صحة القول الأول ، وفساد القول الثاني والثالث ، أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية مُعتَبرًا في مسمَّى الهدى ، لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء ؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محالٌ ؛ لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾(فصِّلت: 17) ، أثبت الهدى مع عدم الاهتداء ؛ ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال : هديته فلم يهتد ، وذلك يدل على قولنا » . ثم قال :« الفرق بين الهدى ، وبين الاهتداء معلوم بالضرورة ؛ فمقابل الهدى هو الإضلال ، ومقابل الاهتداء هو الضلال ؛ فجََعلُ الهدى في مقابلة الضلال ممتنع » .
وذهب بعضهم إلى أن الضلال في قوله تعالى :﴿ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴾(نوح: 24) بمعنى العذاب ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾(القمر: 17) . أي : في عذاب ، ونار مستعرة . وقال أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾(البقرة: 16) :« قيل : يضل بمعنى : يعذب ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ ، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا ، وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق » . وقال الرازي :« اعترض القفال عليه ، فقال : لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب . أما قوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن الحق في الدنيا ، وفي سعر . أي : في عذاب جهنم في الآخرة » . وإلى هذا القول ذهب بعض المفسرين ، والصواب في تفسير الآية قول ابن كثير :« يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق ، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء ، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق » ، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى :﴿ فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾(القمر: 24) ، والمعنى : يقولون : إن اتبعنا صالحًا وهو بشر منا واحد ، فإنا إذًا لفي ذهاب عن الصواب وبعد عن الحق ، وجنون . أو في شقاء وعناء ، تشبيهًا باستعار النار . وقال الزركشي في البرهان :« كل شيء في القرآن من ذكر السعير فهو النار والوقود ؛ إلا قوله عز وجل :﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ ، فإنه العناد » .
ثانيًا- نعود إلى الجواب عن السؤال الذي ابتدأنا به ، وكان الغرض ممَّا تقدَّم أن نبين أن الضلالة خلاف الاهتداء ، وأنها لا تأتي بمعنى : العذاب ، خلافًا للمعتزلة ومن يقول بقولهم ، فنقول بعد هذا : قال ابن قيِّم الجوزيَّة :« فإن قيل : فما الفرق بين قوله :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾(النحل: 36) ، وبين قوله :﴿ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾(الأعراف: 30) ؟ قيل : الفرق من وجهين : لفظي ومعنوي.
أما اللفظي فهو أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل في قوله :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ أكثر منها في قوله :﴿ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ ﴾ ، وقد تقدم أن الحذف مع كثرة الحواجز أحسن .
وأما المعنوي فإن ( مَنْ ) في قوله :﴿ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾ واقعة على الأمة والجماعة ، وهي مؤنثة لفظًا ؛ ألا تراه يقول :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ﴾(النحل: 36) ، ثم قال :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾ . أي : من تلك الأمم أمم حقَّت عليهم الضلالة . ولو قال بدل ذلك :( ضَلَّتْ ) ، لتعينت التاء ، ومعنى الكلامين واحد . وإذا كان معنى الكلامين واحدًا ، كان إثبات التاء أحسن من تركها ؛ لأنها ثابتة فيما هو في معنى الكلام الآخر .
وأما ﴿ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ فـ( الفريق ) مذكَّر ، ولو قال :( فريقًا ضلُّوا ) ، لكان بغير تاء ، وقولهم :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ في معناه ، فجاء بغير تاء . وهذا أسلوب لطيف من أساليب العربية ، تدع العرب حكم اللفظ الواجب له في قياس لغتها ، إذا كان في معنى كلمة لا يجب لها ذلك الحكم ، تراهم يقولون : هو أحسن الفتيان وأجمله ؛ لأنه في معنى : هو أحسن فتى وأجمله » .
ثالثًا- وهنا أدعو عبَّاد الأوثان إلى النظر في جواب ابن قيِّم الجوزيَّة وتدبُّره ، إن كانوا يحسنون النظر والتدبر ؛ ليقارنوه بجواب العالم الكبير والمبدع الذي لا حدود لإبداعه ، وكان الدكتور السامرائي قد تحدث عن سبب تذكير الفعل وتأنيثه في هاتين الآيتين ، فقال :« تذكير الفاعل المؤنث له أكثر من سبب وأكثر من خط في القرآن الكريم ، فإذا قصدنا باللفظ المؤنّث معنى المذكّر جاز تذكيره ، وهو ما يُعرف بالحمل على المعنى ، وقد جاء في قوله تعالى عن الضلالة :( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ (30) الأعراف) ، وقوله تعالى :( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ (36) النحل) .
ونرى أنه في كل مرة يذكر فيها الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب ؛ لأن الكلام في الآخرة :( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الأعراف) ، وليس في الآخرة ضلالة بمعناها ؛ لأن الأمور كلها تنكشف في الآخرة ، وعندما تكون الضلالة بالتأنيث يكون الكلام في الدنيا . فلمّا كانت الضلالة بمعناها هي ، يؤنّث الفعل » .
هذا ما أجاب به السامرائي ، ولا يخفى ما بينه ، وبين جواب ابن قيِّم الجوزية من مفارقة عجيبة ، ولو أنه اقتدى به لكان أفضل له وأحسن ، وتعقيبًا على هذا الجواب ، إن جاز أن نسمِّيه جوابًا ، نقول :
1- أما قوله :« تذكير الفاعل المؤنث له أكثر من سبب وأكثر من خط في القرآن الكريم » فالفاعل المؤنث لا يذكَّر ، وإنما الذي يجوز فيه التذكير والتأنيث هو الفعل المسند إلى الفاعل إن توفرت فيه الشروط المعروفة ، فلا يقال : هذا ضلالة ، وهذا صيحة ، وهذا رجفة ؛ وإنما يقال : حقَّ عليه ضلالة ، وأخذ الظالم صيحة ورجفة . وأما قوله :« له أكثر من سبب وأكثر من خط في القرآن الكريم » فهو ادعاء باطل ، وما سمَّاه خطوطًا هنا ، وفي موضع آخر : خطوطًا تعبيرية ، هو خطوط وهمية لا حقيقة لها ، وقد رددنا عليه قوله هذا في أكثر من مقال .
2- وأما قوله :« فإذا قصدنا باللفظ المؤنّث معنى المذكّر جاز تذكيره ، وهو ما يُعرف بالحمل على المعنى » فآخره صحيح ، وأوله كقوله السابق ؛ فاللفظ المؤنث ، وإن قصد به معنى المذكَّر ، فلا يجوز تذكيره ؛ وإنما الذي يجوز تذكيره- كما قلنا- هو الفعل المسند إليه إن توفرت فيه الشروط المتفق عليها بين النحاة .
3- وأما قوله :« ونرى أنه في كل مرة يذكر فيها الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب » فالضلالة لا تُذكِر بالتذكير ، ولا تكون بمعنى العذاب ، وقد سبق أن بينا ذلك في الفقرة الأولى ، ونضيف هنا أولاً : قال الله تعالى :﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾(البقرة: 175) ، فجمع بين الضلالة والعذاب . فلو كانت الضلالة بمعنى العذاب ، لما صحت المغايرة بينهما . وأما ثانيًا : فإن لفظ ( الضلالة ) ورد بالتعريف في ثماني آيات ، وورد بالتنكير في آية واحدة وقع فيها اسمًا لليس ، وهي قوله :﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾(الأعراف: 61) ، وجاء مسندًا إلى ضمير الغائبين ﴿ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ في آيتين ، وجاء مسندًا إلى الفعل في آيتين ، ذكِّر في الأولى ، وأُنِّث في الثانية ؛ وهما الآيتان اللتان نحن بصدد الحديث عنهما :﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ ، ﴿ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ ﴾ ، وهذا ينقض قوله السابق الذي زعم فيه أنه يرى في كل مرة يذكر فيها الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب .
4- وأما قوله :« لأن الكلام في الآخرة :( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الأعراف) ، وليس في الآخرة ضلالة بمعناها ؛ لأن الأمور كلها تنكشف في الآخرة . وعندما تكون الضلالة بالتأنيث يكون الكلام في الدنيا ، فلمّا كانت الضلالة بمعناها هي يؤنّث الفعل » فهو ادعاء باطل أيضًا ، يدل على عدم فهم لكلام الله عز وجل ، وجهل فاضح بما ينطوي عليه من أسرار البيان . هذا مع أن معنى الآية أوضح من أن يخفى عن المبتدئين ؛ فالله تعالى يقول : كما بدأكم في الدنيا فريقين : فريق مهتد وفريق ضال ؛ كذلك يعيدكم يوم البعث فريقين : فريق مهتد وفريق ضال . فمن كتب عليه أنه من أهل السعادة والإيمان في الدنيا فهو كذلك في الآخرة ، ومن كتب عليه أنه من أهل الشقاوة والكفر في الدنيا فهو كذلك في الآخرة ، لا يتبدل شيء مما أحكمه الله عز وجل ودبَّره ، وهذا مذهب جمهور المفسرين .
وقال ابن عاشور :« ومعنى ﴿ فَرِيقاً هَدَى ﴾ : أن فريقًا هداهم الله في الدنيا ، و:﴿ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ ﴾ . أي : في الدنيا ؛ كما دل عليه التعليل بقوله :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾(الأعراف: 30) » ، فحصر الضلالة في الدنيا ، وقد مرَّ بنا قول نوح عليه السلام لقومه :﴿ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾(الأعراف: 61) بتذكير ( ليس ) مع الضلالة ، وهي في الدنيا ، وليست بمعنى العذاب وأنها في الآخرة ؛ كما زعم السامرائي . وأما سبب تذكيرها هنا فهو وجود الفاصل بينها ، وبين الضلالة ، وأن المراد بالضلالة النوع . أي ليس بي نوع من أنواع الضلال ، وهذا هو الحمل على المعنى .
رابعًا- من يقرأ جواب ابن قيم الجوزية يفهم منه كل شيء ، ومن يقرأ كلام العالم الكبير المبدع لا يفهم منه أي شيء ، والقول الوحيد الذي ذكره صوابًا في جوابه كله هو قوله :« وهو ما يُعرف بالحمل على المعنى » ، ولم يحسن تطبيقه . وأما ما عدا ذلك فكل ما ذكر في هذا الجواب هو خطأ ، لا يخفى إلا على من طمس الله على بصره ، وختم على قلبه ، فليس عجيبًا بعد هذا أن ترى أحدهم يكتب مقالاً بحت عنوان ( الدكتور فاضل السامرائي- إبداع بلا حدود ) ، وليس غريبًا أن تسمع السيدة سمر الأناؤوط تعلق على هذا المقال بقولها :
« بارك الله بالدكتور الفاضل ، وهو بحق إبداع بلا حدود ، وصدق فيه قوله تعالى :( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (23) الأحزاب ) ، صدق اللهَ في دعائه له بأن يفتح عليه من علمه الواسع بالقرآن وتعلق بأستار الكعبة داعيًا ربه متضرعًا إليه راجيًا ، فصدقَه اللهُ تعالى ، وزاده من علمه ، وفتح عليه فتوح العارفين » . وأضافت هذه السيدة التي اعترفت أكثر من مرة بأنها لا تفهم شيئًا مما يقول السامرائي ، فمهمتها مقتصرة فقط على نقل وجمع ما ينطق به عالمها المبدع الذي لا حدود لإبداعه من درر وجواهر ، أضافت قائلة :« وتقديرًا لجهوده وحرصًا على نشر علمه ، كانت فكرة موقعي إسلاميات الذي بدأ بحلقات هذا العالم الفاضل ، ثم توسع ليشمل علماء آخرين ، لكن يبقى برنامج لمسات بيانية أساس هذا الموقع وقلبه النابض بالعلم بكتاب الله تعالى » .
وشتان ما بين شهادة هؤلاء الشهود له ، وشهادة تلك اللمسات التي تنطق بنفسها دون أن يستنطقها أحد بجهل ما له حدود بكلام الله عز وجل ، أفلم ينظروا فيها ، ( فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) ؟ ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ، صدق الله العظيم !