تعرض
الإسلام من قديم الزمان لهجوم عنيف من قبل خصومه وأعدائه ، وهؤلاء الأعداء
منهم الظاهر الواضح في عدائه ، ومنهم المستتر غير المجاهر ، وبلية الإسلام
بهؤلاء أشد وأنكى ، لأنهم يظهرون بمظهر الناصح المشفق ، في الوقت الذي
يضمرون فيه الكيد ، ويبطنون له العداء ، وينسجون حوله خيوط الافتراءات
والأكاذيب ، متبعين في ذلك وسائل وأساليب خفية لتحقيق ما يرمون إليه من
أغراض ومقاصد خبيثة ، فتارة عن طريق التشكيك في السنة ، ومصادرها ، ورجالها
بدعوى الانتصار لآل البيت وإظهار الحب والتودد لهم ، وتارة عن طريق اختلاق
الروايات ، ووضع الأحاديث ، وتحريف النصوص الشرعية ، بما يتفق مع بدعهم
وأهوائهم .
وإذا
كنا قد قدَّمنا في الجزء الأول من هذا الموضوع ما يتعلق بالرد على بعض
الانتقادات التي وجهت إلى الصحيحين من قديم الزمان ، فسنقف في هذا الجزء مع
أبرز الأمور التي اتكأ عليها وأثارها صاحب كتاب " أضواء على الصحيحين "
وزعم بأنها أدلة كافية بزعمه توجب ضعف الصحيحين والتشكيك فيهما .
هل مات البخاري قبل أن يبيض صحيحه؟!
فمن الشبه التي استدل بها على ضعف أحاديث البخاري وعدم الاعتماد عليهما ، أن البخاري رحمه الله مات قبل أن يبيض صحيحه ، فكان إتمامه على يد غيره ، مستشهداً بكلام المستملي أحد رواة البخاري - والذي نقله عنه الحافظ بن حجر في ( مقدمة الفتح صـ11) - أنه قال : " انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري ، فرأيت فيه أشياء لم تتم ، وأشياء مبيضة ، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً ، ومنها أحاديث لم يترجم لها ، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض .
قال أبو الوليد الباجي : ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي زيد المروزي
مختلفة بالتقديم والتأخير ، مع أنهم انتسخوا من أصل احد ، وإنما ذلك بحسب
ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه
إليه ، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين أو أكثر من ذلك متصلة ليس بينهما أحاديث
)) .
وهذه الشبهة ليست من كيسه فقد رددها قبله " أبو رية " ، والغرض من هذا الكلام إيهام القارئ أن الإمام البخاري ترك
كتابه مسودة ، ومن شأن المسودات أنها لم تنقح ، ومن شأن عدم التنقيح أن
يأتي الكتاب على غير ما يرام ، كل ذلك ليخلصوا إلى ما يريدون من التشكيك في
منزلة أحاديث الصحيحين .
وليس في كلام المستملي و الباجي ما يشهد لذلك إطلاقاً ، فإن البخاري رحمه الله لم يمت إلا بعد أن نقح كتابه وهذبه غاية التهذيب ، وهذا النقل الذي ذكره الحافظ ، إنما هو في شأن التراجم التي بيضها البخاري أي ذكرها ، ولم يذكر فيها حديثاً ، أو الأحاديث التي ذكرها ولم يذكر لها باباً ، بل إن هذا النقل يدل على أن صحيح البخاري كان مدوناً في أصل محرر .
وهذه المواضع على ثلاثة أنواع كما ذكر ذلك المعلمي رحمه الله في ( الأنوار الكاشفة 257) :
الأول
: أن يثبت الترجمة وحديثاً أو أكثر ، ثم يترك بياضاً لحديث كان يفكر في
زيادته ، وإنما أخَّر ذلك لسبب ما ، ككونه كان يحب إثباته كما هو في أصله ،
ولم يتيسر له الظفر به حينئذ .
الثاني : أن يكون في ذهنه حديث يرى إفراده بترجمة ، فيثبت الترجمة ويؤخر إثبات الحديث على لما سبق .
الثالث
: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضاً للترجمة ، لأنه يُعْنى جداً بالتراجم ،
ويضمنها اختياره ، وينبه فيها على معنى خفي في الحديث ، أو حَمْلِه على
معنىً خاص أو نحو ذلك ، فإذا كان متردداً ترك بياضاً ليتمه حين يستقر رأيه ،
وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل فيما أثبته في كتابه .
وأما
التقديم والتأخير فالاستقراء يبين أنه لم يقع إلا في الأبواب والتراجم ،
يتقدم أحد البابين في نسخة ويتأخر في أخرى ، وتقع الترجمة قبل هذا الحديث
في نسخة ، وتتأخر عنه في أخرى فيلتحق بالترجمة السابقة ، ولم يقع من ذلك ما
يمس سياق الأحاديث بضرر ، ولذا قال الحافظ رحمه الله في المقدمة بعد
إيراده للعبارة السابقة : " قلت وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه
الجمع بين الترجمة والحديث ، وهي مواضع قليلة جداً " .
وليس أدل على أن البخاري لم يمت إلا بعد أن حرَّر كتابه ، وعرضه على أئمة الحديث مما قاله أبو جعفر محمود بن عمر العقيلي : " لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل و يحي بن معين و علي بن المديني وغيرهم ، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة وروى عنه الفربري قوله : " ما كتبت في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين " ، وذلك كي يجتمع له الاطمئنان القلبي مع البحث العلمي .
ومما يدل كذلك على ما بذله البخاري رحمه الله من جهد وتنقيح ، وغربلة للأحاديث حتى جاء كتابه في غاية التحرير قوله : " جمعت كتابي هذا من ستمائة ألف حديث " .
وقد استفاض واشتهر أن البخاري لم
يمت إلا بعد أن حدَّث بتلك النسخة طلابه ، وسمع الناس منه من هذه النسخة ،
وأخذوا لأنفسهم نسخاً في حياته ، وتسابقوا في كتابة أصله ، مما يثبت أنه
كان مطمئناً إلى جميع ما أثبته فيها .
تقطيع البخاري للحديث
ومما ذكره أيضاً كدليل على عدم الوثوق والطمأنينة بما ورد من حديث في صحيح البخاري تقطيعه للحديث واختصاره والتصرف فيه ، حيث اعتبر هذا العمل تدليساً وخيانة في أمانة نقل الرواية كما زعم .
مع
أن مسألة تقطيع الحديث الواحد وتفريقه في الأبواب مما اختلف فيها
المتقدمون ، فمنهم من أجاز ذلك إذا كان الحديث مشتملاً على عدة أحكام ، كل
حكم منها مستقل غير مرتبط بغيره كحديث جابر الطويل في الحج ونحوه ، أو كان ما قطع من الحديث لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقاً يفضي إلى فساد المعنى ، ومن أولئك الإمام البخاري رحمه الله ، ومنهم من منعه واختار إيراد الحديث كاملا كما سمعه .
وكما هو معلوم أن الإمام مسلم اختص بجمع طرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة ، بخلاف البخاري فإنه قطعها في الأبواب بسبب استنباطه منها ، وأورد كثيراً منها في مظانِّه .
والإمام البخاري
رحمه الله لم يكن يعجزه أن يسرد الأحاديث والطرق كلها في باب واحد فذاك
أمر يسهل عليه ، ولكنه سلك هذا المسلك لجملة من الأغراض الحديثية والفقهية
ذكرها أهل العلم ، فهي في الحقيقة مزية للبخاري وليست منقصة ، ولذا قال الحافظ رحمه الله ( مقدمة الفتح 13) : " وإذا امتاز مسلم بهذا فللبخاري في مقابلته من الفضل ما ضمَّنه في أبوابه من التراجم التي حيرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار "
فالبخاري رحمه
الله يذكر الحديث في كتابه في مواضع ، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر ،
ويستخرج بحسن استنباطه ، وغزارة فقهه معنىً يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه ،
وقلَّما يورد حديثاً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد ، وإنما يورده من
طريق أخرى لمعان وأغراض تشهد بإمامته وجلالته ورسوخ قدمه في هذا الفن :
ومن
ذلك أنه قد يكون المتن قصيرا أو مرتبطاً بعضه ببعض ، وقد اشتمل على حكمين
فصاعداً ، فيعيده بحسب ذلك مراعياً مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية ،
وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك ، فتستفيد بذلك
تكثير الطرق لذلك الحديث .
وربما
ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا طريق واحدة فيتصرف حينئذ فيه ،
فيورده في موضع موصولاً وفي موضع معلقاً ، ويورده تارة تاماً وتارة مقتصراً
على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب .
فإن
كان المتن مشتملاً على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى فإنه يخرج كل
جملة منها في باب مستقل فراراً من التطويل ، وربما نشط فساقه بتمامه .
وأما
اقتصاره على بعض المتن وعدم ذكر الباقي في موضع آخر ، فإنه لا يقع له ذلك
في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفاً على الصحابي ، وفيه شيء قد يحكم
برفعه ، فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع ، ويحذف الباقي لأنه لا
تعلق له بموضوع كتابه ، كما وقع له في حديث هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي
الله تعالى عنه قال : " إن أهل الإسلام لا يسيِّبون ، وإن أهل الجاهلية
كانوا يسيبون " ، هكذا أورده وهو مختصر من حديث موقوف ، أوله : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال إني أعتقت عبداً لي سائبة فمات وترك مالاً ولم يدع وارثاً ، فقال عبد الله
: " إن أهل الإسلام لا يسيبون ، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون ، فأنت ولي
نعمته فلك ميراثه ، فإن تأثَّمتَ وتحرجتَ في شيء ، فنحن نقبله منك ،
ونجعله في بيت المال " فاقتصر البخاري على ما
يعطي حكم الرفع من هذا الحديث الموقوف ، وهو قوله : " إن أهل الإسلام لا
يسيبون " ، لأن مما ليس للرأي فيه مدخل ، واختصر الباقي لأنه ليس من موضوع
كتابه .
فتبين أن البخاري
رحمه الله لا يعيد الحديث إلا لفائده ، لكن تارة تكون في المتن ، وتارة في
الإسناد وتارة فيهما ، وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده بصورته بل يتصرف
فيه ، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقا ، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد .
البخاري والنقل بالمعنى
وزعم أيضاً أن مما يسلب الاطمئنان والاعتماد على صحيح البخاري
ويوجب عدم الوثوق به ، أن قسماً من أحاديثه قد رويت بالمعنى ، ولم ينقلها
مؤلف الصحيح بنفس اللفظ حسب ما سمعها من ناقليها ، مستشهداً بما نقله
الخطيب في تاريخه والحافظ في مقدمته على الفتح وغيرهم عن البخاري نفسه
وهو قوله : " رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام
كتبته بمصر ، قيل له : يا أبا عبد الله بكماله ، قال : فسكت ، وقول الحافظ
عند الكلام على حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الفتح(
10/227) : " وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تاماً بإسناد واحد بلفظين " .
فأما
الكلام على الرواية بالمعنى وجوازها وضوابطها ، فقد تقدم الكلام عنه في
موضوع مستقل بعنوان " رواية الأحاديث بالمعنى هل أدخلت ضرراً على الدين "
يمكن للقارئ مراجعته ، ومع أن البخاري رحمه
الله كان ممن يرى جواز الرواية بالمعنى ، ولكن ليس في تلك العبارة أي دلالة
أبداً على موضوع الرواية بالمعنى ، بل كل ما فيها أنه كان يسمع الشيء ولا
يكتبه حتى إذا وجد له مناسبة أو ترجمة لائقة به كتبه ، وسكوته لا يدل على
أنه رواه بالمعنى ، وغاية ما يدلٌّ عليه جواز الاختصار في الحديث بذكر بعضه
دون بعض كما هو شأنه في كتابه ، يقطع الحديث الواحد في عدة أبواب مقتصراً
في كل باب على ما يليق به كما تقدم .
وأما
ما نقله عن الحافظ فهو أبعد ما يكون الرواية بالمعنى ، ولم يسقه الحافظ
رحمه الله لهذا الغرض ، وإنما ساقه في معرض الكلام عن حديث سحر النبي - صلى
الله عليه وسلم - وأن البخاري رواه مرَّة عن شيخه إبراهيم بن موسى
بلفظ الجزم : " حتى إذا كان ذات يوم " من غير شك ، ورواه هنا بالشك ولفظه :
" حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة " ، وقد ظن الحافظ أولاً أن الشك من البخاري ، ثم ظهر له أن الشك من شيخ شيخه عيسى بن يونس ، وإليك كلام الحافظ ابن حجر حيث قال بعد أن ذكر الروايتين وتحقيق أن الشك ليس من البخاري : " فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدَّثه به تارة بالجزم ، وتارة بالشك ، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه ، ثم قال : وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاماً بإسناد واحد بلفظين " ، وهكذا يتبين لنا الافتراء على البخاري ، وعلى الحافظ ، وخطف الكلام من غير تثبت وتحر .
البخاري ومسلم والإفراط في الطائفية
ومما
ذكر على أنه من الأدلة التي تدل على عدم الوثوق بالصحيحين وعدم اعتبار صحة
جميع ما ورد فيهما ، ما أسماه بالتطرف الطائفي المفرط ، والتعصب الشديد
عند مؤلفيهما ، ومن شواهد ذلك كما يزعمون إخفاء كثير من المناقب والفضائل
للإمام علي رضي الله عنه ، والتي ورد ذكرها في
كتب السنة الأخرى ، وعدم الاحتجاج بأئمّة أهل البيت ، في مقابل الاحتجاج
بمن عرف بعدائه لهم كالخوارج وغيرهم .
ولتجلية
هذا الأمر ينبغي أن يُعْلم أن القضية عند صاحبي الصحيح لم تكن قضية طائفية
ولا تعصب ، ولا مداراة ومداهنة ، ولكنها قضية شروط اشترطها كل منهم في
كتابه ، وفي الرجال الذين يخرج لهم ، ولذلك التزموا بها ، ولم يحيدوا عنها ،
بخلاف غيرهم ممن لم يلتزم الصحة كأصحاب السنن والمسانيد ، فربما تساهلوا
بعض الشيء ولا سيما في الفضائل ، وهذا هو السرُّ في أن الإمام أحمد رحمه الله خرَّج في فضائل علي أكثر مما خرَّجه البخاري و مسلم في صحيحيهما ، كما أن صاحبا الصحيح لم يلتزما بإخراج كل حديث صحيح ، ولا إخراج أحاديث كل الثقات حتى يُلزَما بذلك .
ومما يدفع هذه الفرية عن الإمامين أنهما أخرجا أحاديث كثيرة في فضائل علي وآل البيت رضي الله عنهم تعتبر من أصح الأحاديث في هذا الباب ، فقد ذكر كل منهما في صحيحه باباً لفضائل عليٍّ ، وبابـًا لفضائل الحسن و الحسين .
وذلك كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - في حصار خيبر : ( لأُعطين الرَّاية غدًا رجلاً يُحبه الله ورسوله ، أو يحب الله ورسوله ) ، ثم بعد ذلك أعطاها لعلي ففتح الله عليه ، ومثل ما رواه البخاري في قصة بنت حمزة ، واختصام علي وجعفر وزيد بن حارثة فيها ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي : ( أنت منِّي وأنا منك ) ، ومثل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عليٍّ نفسه قال : " والذي فلق الحبةَ وبرأ النَّسمة إنه لعهدُ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أن لا يحبَّك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق ) ، وله شاهد من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - عند الإمام أحمد .
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداةً وعليه مُرْطٌ مرَحَّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة ، فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } .
كما أخرجا أحاديث كثيرة من رواية أئمة آل البيت كرواية البخاري لحديث ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئا ) ، في قصة صفية رضي الله عنها من طريق علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وحديث علي رضي
الله عنه في قصة الشارفين ، في كتاب فرض الخمس قال : " كانت لي شارف من
نصيبي من المغنم يوم بدر ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني
شارفاً من الخمس .... " الحديث ، وهو من طريق علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه رضي الله عنه .
وأخرج له مسلم أيضاً في باب فضائل فاطمة رضي الله عنها ، كما أخرج أحاديث عديدة من طريق جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر ، ومنها حديث جابر في وصف حجة النبي عليه الصلاة والسلام ، ولو كانت المسألة طائفية لما رويا شيئاً من ذلك .
وأما إخراجهم لبعض أهل البدع كعمران بن حطان وغيره
ممن عرف برأي الخوارج ، فقد تقدم الكلام عن ذلك في الجزء الأول من هذا
الموضوع بما يغني عن إعادته هنا ، والمقصود بيان أن المسألة مبناها عندهم
على الصدق والضبط ، وإلا لما أخرجا في الصحيح لجماعة من الرواة ممن رموا
بالتشيع ، بعد أن ثبت عندهما صدقهم وضبطهم وتحرزهم عن الكذب كعبد الرزاق بن همام الصنعاني ، و علي بن الجعد ، وأبو نعيم الفضل بن دكين ، وإسماعيل بن أبان ، و جرير بن عبد الحميد ، و خالد بن مخلد القطواني وغيرهم كثير ويمكن مراجعة ( مقدمة الفتح 646) .
فتبين
أن الأمر لم يكن أمر تعصب وطائفية ، وإنما الأمر أمر شروط الشيخين
اشترطاها والتزما بها ، ومن ثم لم يخرجا إلا ما صح عندهما وكان على شرطهما ،
بخلاف غيرهما كالإمام أحمد وغيره فإن شروطهم
دون ذلك ، وقد روي عنه رحمه الله أنه كان يقول : " نحن إذا روينا في
الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا " .
عبارات قيلت في الصحيحين
ولما
لم تسعفه الحجة العلمية ، والبحث الموضوعي ، ذهب يتصيد هنا وهناك ليبحث عن
عبارات وأقوال ، تسقط مكانة الصحيحين في الأمة ، فخرج لنا بطائفة من
الأقوال المحرفة المبتورة ، التي أساء فهمها وحرفها عن مواضعها عن تعمد
وسوء قصد .
فزعم
أنه في مقابل الإفراط إلى حد التعسف والغلو في الثناء على الصحيحين وحفظ
مقامهما وشأنهما ، إلا أن هناك طائفة من علماء أهل السنة أنفسهم نظروا إلى
الصحيحين نظرة الباحث الناقد ، وصدرت منهم عبارات تشكك من هذه القداسة
والهالة التي نسجت حولهما .
بين البخاري والذهلي
ومن ذلك كلام الإمام الذهلي على البخاري
وما جرى بينهما في مسألة اللفظ في القصة المعروفة المشهورة في كتب السير
والتراجم ، ولسنا في صدد مناقشة وتفصيل ما جرى بين الإمامين ، بل بيان موقف
أهل العلم من العبارة التي صدرت من الإمام الذهلي وغيره من العلماء ، وكيف تعاملوا معها .
فمن المعلوم أن البخاري رحمه الله عندما قدم نيسابور كان الذهلي نفسه
يحث تلاميذه وطلابه على حضور مجلسه ، فلما أقبل الناس على الإمام وذاع
صيته ، دخل في نفسه ما لا يسلم منه بشر ، فقال عبارته تلك ، قال الحاكم أبو عبد الله سمعت محمد بن حامد البزاز قال سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول : سمعت محمد بن يحيى قال لنا لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور : " اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح ، فاسمعوا منه فذهب الناس إليه ، وأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى فحسده بعد ذلك وتكلم فيه " .
وقال أبو أحمد بن عدي ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما
ورد نيسابور اجتمع الناس عليه ، فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ
نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه ، واجتماعهم عليه ، فقال لأصحاب الحديث :
" إن محمد بن إسماعيل يقول : ( اللفظ بالقرآن مخلوق ) ، فامتحِنوه في المجلس ، فلما حضر الناس مجلس البخاري ، قام إليه رجل فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ، فقال الرجل : يا أبا عبد الله ، فأعاد عليه القول ، فأعرض عنه ، ثم قال في الثالثة : فالتفت إليه البخاري وقال : " القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأفعال العباد مخلوقة ، والامتحان بدعة ، فشغب الرجل ، وشغب الناس ، وتفرقوا عنه وقعد البخاري في منزله .
وقد أنكر البخاري رحمه الله نسبة هذا القول إليه ، وقال - كما نقل عنه محمد بن نصر المروزي -
: " من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب ، فإني لم أقله ، إلا أني
قلت أفعال العباد مخلوقة " ، فنقلها عنه بعض الحساد والمغرضين ، وأشاعوا
عنه أنه يقول باللفظ ، وحملوا عبارته ما لا يحتمل .
ولذا
لم يلتفت العلماء وأئمة الجرح والتعديل إلى ذلك بل عدوه من كلام الأقران
بعضهم في بعض ، وأصلوا قاعدتهم المعروفة وهي أن " كلام الأقران يطوى ولا
يروى " ، ولذا قال الذهبي رحمه الله في ( السير 12/456 ) بعد أن ذكر أن بعضهم ترك حديث البخاري لما بلغه أنه يقول باللفظ : " قلت إن تركا حديثه أو لم يتركاه البخاري ثقة مأمون محتج به في العالم " .
وقد تكلم كثير من العلماء الثقات في بعض ، ولم يكن ذلك موجباً لإسقاط ثقتهم وعدالتهم فتلكم أبن أبي ذئب في الإمام مالك ، وتكلم سلمة بن دينار في الزهري ، وتكلم عمرو بن علي الفلاس في علي بن المديني والعكس ، وتكلم أحمد بن أبي الحواري في هشام بن عمار ، وتكلم أبو نعيم في أبي عبد الله بن مندة ، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة ، ولم يسقطوا عدالتهم إلا ببرهان ثابت وجرح مفسر يتابعه غيره عليه ، قال الحافظ رحمه الله
في ( لسان الميزان 1/201 ) : " قلت كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ،
ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم
الله ، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى النبيين
والصديقين ، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس ، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا
للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم " .
موقف أبي زرعة من الصحيحين
واستدل أيضاً بعبارة لأبي زرعة ينتقد فيها لصاحبي الصحيح لإخراجهم لبعض الرواة كأحمد بن عيسى المصري ، والتي نقلها عنه الخطيب في تاريخه ، و الذهبي في ميزان الاعتدال ، وأنه اعتبرهم متظاهرين بالحديث ، أرادوا التصدر وصرف وجوه الناس إليهم .
فقد نقل الخطيب البغدادي في ( تاريخ بغداد 4/227) عن سعيد بن عمرو ، قال شهدت أبا زرعة يعنى الرازي ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج ، ثم الصائغ على مثاله - يعني البخاري فقال لي أبو زرعة
: " هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه ، فعملوا شيئا يتشوفون به ، ألفوا
كتاباً لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها " ، وأتاه ذات يوم
وأنا شاهد رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم ، فجعل ينظر فيه ، فإذا حديث عن أسباط بن نصر ، فقال أبو زرعة ، ما أبعد هذا من الصحيح ، يدخل في كتابه أسباط بن نصر ، ثم رأى في كتابه قطن بن نسير ، فقال لي : وهذا أطم من الأول " .
والجواب أن يقال : إن هذا الجرح من أبي زرعة مفسر ، فسره هو بنفسه ، وبين سبب إيراده ، وهو إخراجه لبعض هؤلاء الرواة المنتقدين الذين ذكر بعضهم ، وقد ذكر مسلم تبرير ذلك والرد عليه بعد هذا الكلام ، ولهذا لم ينقله المحرف لأنه لا يتفق مع هواه وما أراد .
وهو أحد الوجوه التي ذكرها الإمام ابن الصلاح في كتابه " صيانة صحيح مسلم (1/96) ، ونقلها عنه النووي في شرحه ( 1/24) والتي وجَّه فيها إخراج الإمام مسلم لبعض الضعاف أو المتوسطين .
وهو
أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل ، فيقتصر على
العالي ، ولا يطول بإضافة النازل إليه ، مكتفياً بمعرفه أهل الشأن في ذلك ،
وهذا العذر قد روي عن مسلم تنصيصاً ، حيث قال عندما ذكر له إنكار أبي زرعة : " إنما أدخلت من حديث أسباط و قطن و أحمد
، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم ، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع ،
ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول فأقتصر على ذلك ، وأصل الحديث معروف
من رواية الثقات " .
ولا أدل من أن الصواب كان مع الإمام مسلم أن الخطيب نفسه ، الذي نقل هذه العبارة : " وثَّق أحمد بن عيسى ، ولم يلتفت إلى قول من تكلم فيه ، فكان مع الإمام مسلم ، فلماذا لم يورد الكاتب كلام الخطيب الذي يقول فيه بعد ذلك : " قلت : " وما رأيت لمن تكلم في أحمد بن عيسى حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه " ، وعبارة الذهبي في الميزان بعد إيراده لكلام أبي زرعة نفسه : " قلت احتج به أرباب الصحاح ، ولم أر له حديثا منكرا فأورده " .
والثابت عن مسلم رحمه الله قوله : " عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي ، فكلّ ما أشار أنّ له علّة تركته ، وكلّ ما قال أنّه صحيح وليس له علّة أخرجته " .
بين البخاري وابن المديني
ثم نقل عبارة أوردها الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ليرد عليها ، ويبين بطلانها ، مستدلاً بها على خيانة البخاري
، وعدم أمانته العلمية ، وسرقته لجهود الآخرين ، ورغبته في التصدر والشهرة
على حساب غيره ، وحتى يعطوا العبارة قيمة علمية نسبوها إلى الحافظ في (
تهذيب التهذيب 9/46) وتم بتر الرد ، وتعقيب الحافظ عليها ، وإغفال الكلام
الذي قبله في ثناء العلماء والمحدثين على الإمام البخاري ، والدفاع عنه ، وبطلان ما نسب إليه .
والعبارة هي قول مسلمة : وألّف علي بن المديني كتاب العلل ، وكان ضنياً به فغاب يوماً في بعض ضياعه ، فجاء البخاري إلى بعض بنية ورغبه بالمال ، على أن يرى الكتاب يوماً واحداً ، فأعطاه له فدفعه إلى النساخ فكتبوه له ، ورده إليه ، فلما حضر علي تكلم بشيء ، فأجابه البخاري بنص كلامه مراراً ، ففهم القضية ، واغتنم لذلك ، فلم يزل مغموماً حتى مات بعد يسير ، واستغني البخاري عنه بذلك الكتاب ، وخرج إلى خراسان ، ووضع كتابه الصحيح فعظم شأنه وعلا ذكره " .
قال الحافظ رحمه الله بعد أن أورد هذا لكلام : " قلت إنما أوردت كلام مسلمة هذا لأبين فساده ... وأما القصة التي حكاها فيما يتعلق بالعلل لابن المديني ، فإنها غنية عن الردِّ لظهور فسادها ، وحسبك أنها بلا إسناد ، وأن البخاري لما مات علي كان مقيماً ببلاده ، وأن العلل لابن المديني قد سمعها منه غير واحد غير البخاري ، فلو كان ضنيناً بها لم يخرجها ، إلى غير ذلك من وجوه البطلان لهذه الأخلوقة والله الموفق .
فانظر أخي القارئ إلى هذا التلبيس والتحريف المتعمد ، وبتر الكلام لتشويه صورة هذا الإمام الجليل .
النووي وصحيح مسلم
ومما ادعاه أيضاً أن الإمام النووي نفسه شكك في موارد مختلفة في صحة بعض الأحاديث التي خرجها مسلم ، بل وصرح ببطلان البعض الآخر ، مستدلاً بعبارته في شرحه لمقدمة مسلم على الصحيح : " وأما قول مسلم رحمه
الله في صحيحه في باب صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وآله - : " ليس
كل شيء صحيح عندي وضعته هنا ـ يعني في كتابه هذا الصحيح ـ وإنما وضعت ههنا
ما أجمعوا عليه " فمشكل ، فقد وضع فيه أحاديث كثيرة مختلفاً في صحتها ،
لكونها من حديث من ذكرناه ، ومن لم نذكره ، ممن اختلفوا في صحة حديثه " (
شرح النووي 1/16) .
وعبارته في شرحه لحديث أبي سلمة
في " باب بدء الوحي " ، الذي يتضمن أن أول سورة نزلت على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - هي سورة المدثر ، حيث ادعى أن النووي صرح بأن هذا الحديث
ضعيف ، بل باطل ، لأن أول سورة نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
هي " اقرأ باسم ربك " .
مع أن هذا الاستشكال في الموضع الأول إنما هو في توجيه عبارة الإمام مسلم ، مع ما علم من وجود بعض الأحاديث والرجال المنتقدين - كما سبق - ، وليس فيه أبداً ما يدل على تشكيك النووي رحمه الله في أحاديث الصحيح ، أو اتخاذ موقف منها كما أراد هذا الملبس أن يصوره .
والإمام النووي رحمه الله لم يكتف بإيراد الإشكال فحسب ، بل أعقبه بما يرده ، فذكر توجيه الأئمة لعبارة الإمام مسلم ، والتي حذفها المغرض لأنها لا تخدمه كما فعل مع سابقاتها حيث ذكر بعد الكلام السابق توجيه الإمام ابن الصلاح في كتابه " صيانة صحيح مسلم " فقال : " قال الشيخ - يعني ابن الصلاح وجوابه من وجهين :
أحدهما : أن مراده أنه لم يضع فيه إلا ما وجد عنده فيه شروط الصحيح المجمع عليه ، وإن لم يظهر اجتماعها في بعض الأحاديث عند بعضهم .
والثاني
: أنه أراد أنه لم يضع فيه ما اختلفت الثقات فيه في نفس الحديث متناً أو
إسنادا ، وليس ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته ، كما هو ظاهر
كلامه ، فإنه ذكر ذلك لما سئل عن حديث أبي هريرة ( فإذا قرأ فأنصتوا ) هل هو صحيح ؟ فقال : " هو عندي صحيح ، فقيل لم لم تضعه ها هنا ؟ ، فأجاب بالكلام المذكور .
وفي موضع آخر عند الكلام على الحديث في باب صفة الصلاة ساق عبارة مسلم وأجاب عنها بقوله : " ثم قد ينكر هذا الكلام ، ويقال : قد وضع أحاديث كثيرة غير مجمع عليها ، وجوابه أنها عند مسلم بصفة المجمع عليه ، ولا يلزم تقليد غيره في ذلك ، وقد ذكرنا في مقدمة هذا الشرح هذا السؤال وجوابه " .
وأما ادعاؤه بأن النووي حكم بالبطلان على حديث جابر في صحيح مسلم
لأن فيه التصريح بأن أول سورة أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
" يا أيها المدثر " فهو من التلبيس وتحريف الكلام الذي عودنا عليه ،
وعبارة النووي في الشرح هي كالتالي : " قوله
(( أن أول ما أنزل قوله تعالى : يا أيها المدثر )) ضعيف بل باطل ، والصواب
أن أول ما أنزل على الاطلاق : اقرأ باسم ربك " .
فالحكم بالضعف أو البطلان إنما وقع على القول بأن أول ما أنزل من القرآن مطلقاً " يا أيها المدثر " ، وليس على رواية جابر
، فالحديث ليس فيه أبداً ما يدل على أن أول ما أنزل على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - " يا أيها المدثر " حتى يحكم بضعفه أو بطلانه ، ولو رجع
إلى كلام النووي نفسه في شرح حديث عائشة
لتبين له ذلك حيث قال : " وهذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن "
اقرأ " ، وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف ، وقيل أوله :
" يا أيها المدثر " وليس بشيء ، وسنذكره بعد هذا في موضعه من هذا الباب إن
شاء الله تعالى .
فالكلام إنما هو على القول لا على الحديث ، فإن كان أبو سلمة رواي الحديث عن جابر ، أو حتى جابر نفسه ممن يرى هذا القول ، فهو قول ضعيف وليس في الروايات أبداً ما يشهد له ، مع أنه قد ثبت عن جابر رضي الله عنه في حديث قبله من رواية الزهري عن أبي سلمة التصريح ، بأنه أول نزول بعد فترة الوحي وأنها أولية نسبية ، فلا منافاة إذاً ، فأين تشكيك النووي رحمه الله في أحاديث الصحيح ؟!
الذهبي وصحيح البخاري
ومما نسبوه إلى الإمام الذهبي أنه قال في بعض أحاديث الصحيح : " ولولا هيبة الصحيح لقلت إنها موضوعة! " ، وهو كذب مفضوح على هذا الإمام .
فإن عبارته كما في ميزان الاعتدال في ترجمة خالد بن مخلد القطواني عندما ذكر أن البخاري رحمه روى له حديث الولي ( من عادى لي ولياً ) قال : " فهذا حديث غريب جداً ، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن خالد ، وذلك لغرابة لفظه ، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا خرجه من عدا البخاري " .
وغاية ما فيها استغرابه للحديث لأنه من طريق خالد بن مخلد وشيخه شريك مع ما علم من الكلام حولهما ، فيقال إن غاية ما في ذلك أنه صحيح عند البخاري
، فيكون من الأحاديث المنتقدة على صاحب الصحيح ، وليس مما وقع الإجماع على
تلقيه بالقبول ، ونحن لا ننكر أن في الصحيح شيئاً من هذا ، وقد سبق بحث
هذه النقطة وما حولها من إشكال .
و الحافظ رحمه الله بين في الفتح (11/341) أن للحديث طرقاً أخرى يدل مجموعها على أن له أصلاً حيث قال وهو يرد على الذهبي إطلاقه
أنه لم يرو إلا بهذا الإسناد : " وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا
الإسناد مردود .... ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أن له أصلاً ثم
ذكر بعض الطرق عن عائشة و أبي أمامة و علي و ابن عباس و معاذ بن جبل و أنس .
كما أن المتأمل في عبارة الذهبي يجد فيها مزيد تدعيم لمكانة الصحيح وليس كما أراد المغرضون ، فإن الذي جعلهم يترددون في عدِّ هذا الحديث من منكرات خالد ( هيبة الصحيح ) ، بمعنى أن هذا الحديث لو كان في غير الصحيح لعدَّ من منكرات خالد بن مخلد
، لما عرف من حاله ، ولكن الذي منعهم من ذلك إخراج صاحب الصحيح له ، لما
علم من علمه وإمامته وشروطه ، وانتقائه للأحاديث ، وغير ذلك من الأغراض
التي ذكرت في الرجال المنتقدين ، فهو مزيد توثيق وتدعيم لموقف صاحب الصحيح ،
وليس فيه أبداً أي غض من مكانته كما أراد المشككون ، فأين حكم الذهبي على الحديث بالوضع ؟! .
أما
بالنسبة لغرابة ألفاظه فهو كغيره من الآيات والأحاديث الكثيرة التي تحتاج
إلى تفسير، وقد فسره أهل العلم ، ويمكن مراجعة كلام الحافظ وغيره في شرح
الحديث ، ولو فتح هذا الباب لردت جملة من الأحاديث الثابتة .
وأخيراً
وبعد هذا التطواف ، أظن أن القارئ الكريم قد عرف مكانة هذين الكتابين ،
ومنزلتهما في العلم والدين ، وأن شبهات المغرضين حولهما هي مجرد فقاعات
وأوهام لا تثبت أمام التحقيق العلمي ، وليس أي سند شرعي ، ولا يزال الله عز
وجل يقيض للسنن والأحاديث في كل عصر من ينفي عنها تحريف الغالين ، وانتحال
المبطلين وتأويل الجاهلين ، تحقيقاً لوعد الله في حفظ دينه وكتابه وسنة
نبيه .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل .