اتخذ
الطعن في السنة أشكالاً متعددة ، وطرقاً متنوعة ، فتارة عن طريق الطعن في
حجيتها ومكانتها ، وتارة عن طريق الطعن في الأسانيد والتقليل من شأنها ،
وتارة عن طريق الطعن في منهج المحدثين في النقد والجرح والتعديل ، وتارة عن
طريق الطعن في المرويات بالتشكيك فيها وادعاء التناقض والتعارض بينها ،
إلى غير ذلك من مطاعن سبق الحديث عنها في مواضيع سابقة .
ومن
تلك الوسائل التي اتخذها أعداء الإسلام للطعن في السنة وإسقاط الثقة بها ،
الطعن في حَملة الأحاديث ورواة السنن من صحابة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ، حتى شككوا في عدالة الصحابة عموماً ، وكالوا التهم والافتراءات
لبعضهم على وجه الخصوص ، وغرضهم من ذلك تقويض صرح الإسلام ، وزعزعة الثقة
بأصوله ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين أبلغونا هذا الدين ، وإذا
زالت الثقة عنهم أصبح كل الذي بين أيدينا مشكوكاً فيه ، ورحم الله الإمام أبا زرعة الرازي
حين قال : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا
الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، , وهم الزنادقة " أهـ .
فقد
نسب المستشرقون الوضع في الأحاديث إلى رجال الإسلام القدامى ، ويعنون بذلك
جيل الصحابة ، يقول المستشرق اليهودي " جولد زيهر " : " ولا نستطيع أن
نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها ، بل هناك أحاديث عليها
طابع القدم ، وهذه إما قالها الرسول أو هي من عمل رجال الإسلام القدامى " ،
ثم قال : " وقد اعترف أنس بن مالك الذي صاحب
الرسول عن قرب عشر سنوات ، عندما سئل عما يحدث عن النبي هل حدثه به فعلاً
فقال : " ليس كل ما حدثنا به سمعناه عن النبي ولكننا لا نكذب بعضنا " .
وطالب من تبعهم من المستغربين بعدم تمييز الصحابة عن غيرهم ، ووضعهم في ميزان النقد والجرح والتعديل كما يوضع غيرهم .
فقال
" أبو رية " في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " : إنهم - أي العلماء -
قد جعلوا جرح الرواة وتعديلهم واجباً تطبيقه على كل راوٍ مهما كان قدره -
فإنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة فلم يتجاوزوها ، إذ اعتبروهم جميعاً
عدولاً لا يجوز عليهم نقد ، ولا يتجه إليهم تجريح ، ومن قولهم في ذلك : "
إن بساطهم قد طوي " ، ومن العجيب أنهم يقفون هذا الموقف على حين أن الصحابة
أنفسهم قد انتقد بعضهم بعضاً " .
وقال
أيضاً : " إذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول ، ولم يقبلوا الجرح
والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعاً معصومين من
الخطأ والسهو والنسيان ، فإن هناك كثيراً من المحققين لم يأخذوا بهذه
العدالة المطلقة ، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي : إنها أغلبية لا
عامة ، وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو ، بل
والهوى ، ويؤيدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلا بشر يقع منهم ما يقع من
غيرهم ، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية ، وأن سيدهم الذي اصطفاه الله صلوات
الله عليه - والله أعلم حيث يجعل رسالته - قد قال : ((إنما أنا بشر أصيب
وأخطئ )) ، ويعززون حكمهم بمن كان منهم في عهده صلوات الله عليه من
المنافقين والكاذبين ، وبأن كثيراً منهم قد ارتد عن دينه بعد أن انتقل إلى
الرفيق الأعلى ، بله ما وقع من الحروب والفتن التي أهلكت الحرث والنسل ،
ولا تزال آثارها ولن تزال إلى اليوم وما بعد اليوم ، وكأن الرسول صلوات
الله عليه قد رأى بعيني بصيرته النافذة ما سيقع من أصحابه بعد انتقاله إلى
الرفيق الأعلى ، فقال في حجة الوداع : " (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) ، وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
إنكم تحشرون حفاة عراة ، وإن ناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول :
أصحابي ، أصحابي ، فيقول : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم
، فأقول كما قال العبد الصالح :{وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم }(المائدة 117) .
وقال
" أحمد أمين " في " فجر الإسلام " : " وأكثر هؤلاء النقاد - أي نقاد
الحديث - عدلوا الصحابة كلهم إجمالا وتفصيلاً ، فلم يتعرضوا لأحد منهم بسوء
، ولم ينسبوا لأحد منهم كذباً ، وقليل منهم من أجرى على الصحابة ما أجرى
على غيرهم ...... إلى أن قال : وعلى كلٍّ فالذي جرى عليه العمل من أكثر
نقاد الحديث - وخاصة المتأخرين - على أنهم عدلوا كل صحابي ، ولم يرموا
أحداً منهم بكذب ، ولا وضع ، وإنما جرحوا من بعدهم " ، وقال في موضع آخر : "
ويظهر أن الصحابة أنفسهم في زمنهم كان يضع بعضهم بعضاً موضع النقد ،
وينزلون بعضاً منزلة أسمى من بعض ، فقد رأيت قبل أن منهم من كان إذا روي له
حديث طلب من المحدثين برهاناً " أهـ .
وللجواب
على هذه الشبهة نقول : إن تعديل الصحابة رضي الله عنهم وتنزيههم عن الكذب
والوضع ، هو مما اتفق عليه أئمة الإسلام ونقاد الحديث من أهل السنة
والجماعة ، ولا يعرف من طعن فيهم وشكك في عدالتهم إلا الشذاذ من أصحاب
الأهواء والفرق الضالة المنحرفة ممن لا يلتفت إلى أقوالهم ، ولا يعتد بها
في خلاف ولا وفاق .
كيف وقد عدلهم الله في كتابه ، وأثنى عليهم ومدحهم في غير ما آية فقال جل وعلا : {محمد
رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا
يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود .....الآية }(الفتح 29) ، وقال سبحانه : {والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا
عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز
العظيم }( التوبة 100) ، وقال : { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون }(
التوبة 88) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تزكيهم ، وتشيد بفضلهم
ومآثرهم ، وصدق إيمانهم وإخلاصهم ، وأي تزكية بعد تزكية الله الذي لا تخفى
عليه خافية في الأرض ولا في السماء ؟! .
كما
عدلهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبين منزلتهم ، ودعا إلى حفظ حقهم
وإكرامهم ، وعدم إيذائهم بقول أو فعل ، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في
الصحيحين : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ، وقال : ( لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) أخرجاه في الصحيحين ، وقال أيضاً : (
الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن
أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ،
ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ) ، رواه الترمذي .
وأجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على عدالتهم وفضلهم وشرفهم ، وإليك طرفاً من أقوال أئمة الإسلام وجهابذة النقاد فيهم ، قال ابن عبد البر
رحمه الله كما في الاستيعاب : " قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل
الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول " .
وقال ابن الصلاح في
مقدمته : " ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ، ومن لابس الفتنة
منهم فكذلك ، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع ، إحساناً للظن بهم
، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر ، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح
الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة " أهـ .
وقال الإمام الذهبي
: " فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ..... ، إذ
على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل ، وبه ندين الله تعالى " .
وقال ابن كثير
: " والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة " ثم قال : " وقول
المعتزلة : الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل علياً قول باطل مردود " ، ثم قال
: " وأما طوائف الروافض وجهلهم وقلة عقلهم ، ودعاويهم أن الصحابة كفروا
إلا سبعة عشر صحابياً - وسموهم- فهذا من الهذيان بلا دليل " .
على أنه - كما قال الخطيب في
الكفاية - لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكر لأوجب الحال التي
كانوا عليها - من الهجرة ، وترك الأهل والمال والولد ، والجهاد ونصرة
الإسلام ، وبذل المهج وقتل الآباء والأبناء في سبيل الله - القطع بتعديلهم
واعتقاد نزاهتهم وأمانتهم ، وأنهم كانوا أفضل من كل من جاء بعدهم .
والطعن
في الصحابة رضي الله عنهم طعن في مقام النبوة والرسالة ، فإن كل مسلم يجب
أن يعتقد بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أدى الأمانة وبلغ الرسالة ،
وقام بما أمره الله به ، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم ورباهم على
عينه ، قال عز وجل: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } (الجمعة:2)
، والحكم بعدالتهم من الدين ، ومن الشهادة بأن - الرسول صلى الله عليه
وسلم - قام بما أمره الله به ، والطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم ومربيهم
ومعلمهم صلى الله عليه وسلم ، كما أن الطعن فيهم مدخل للطعن في القرآن
الكريم ، فأين التواتر في تبليغه ؟ وكيف نقطع بذلك إذا كانت عدالة حملته
ونقلته مشكوكاً فيها ؟!.
وأما
الزعم بأن أكثر النقاد عدَّلوا الصحابة مغالطة وتلبيس ، لأن النقاد كلهم
قالوا بتعديل الصحابة وليس أكثرهم ، والذين تكلموا في الصحابة ليسوا من
نقاد الحديث ، بل من أصحاب الميول المعروفة في التاريخ الإسلامي بالتعصب
والهوى والابتداع في الدين ، لتمرير بدعهم وترويج انحرافهم ، حيث لم يجدوا
لذلك سبيلاً إلا بالطعن في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
صحيح
أن الصحابة رضي الله عنه كانوا بشراً ، وليسوا بالمعصومين ، لكنهم كانوا
في القمة ديناً وخلقاً ، وصدقاً وأمانة ، والذين قالوا : إن الصحابة عدول ،
لم يقولوا قط إنهم معصومون من المعاصي ، ولا من الخطأ والسهو والنسيان ،
وإنما أثبتوا لهم حالة من الاستقامة في الدين تمنعهم من تعمد الكذب على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
حتى
الذين أقيم عليهم حدُُّ أو قارفوا ذنباً وتابوا منه ، لا يمكن أن يتعمدوا
الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهؤلاء قلة نادرة لا ينبغي
أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة ، الذين جانبوا
المآثم والمعاصي لا سيما الكبائر منها .
وأما
الذين لابسوا الفتن فكانوا مجتهدين يعتقد كل منهم أن الحق معه ، وعليه أن
يدافع عنه ، والمجتهد مأجور على اجتهاده أخطأ أم أصاب ، ومع ذلك فهم قليل
جداً بالنسبة لأكثر الصحابة الذين اعتزلوا هذه الفتن ، كما قال محمد بن سيرين : " هاجت الفتن وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف فما خف لها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين " .
ولا
يلتفت إلى استشهاد أبي رية بكلام " المقبلي " لأن " المقبلي " نشأ في بيئة
اعتزالية المعتقد ، هادوية الفقه ، شيعية تشيعاً مختلفاً ، يغلظ فيه أناس
ويخف آخرون ، فجاء حكمه متأثراً بتلك الأجواء التي عاشها ، والبيئة التي
تربى فيها ، وقد بين ذلك العلامة المعلمي رحمه الله في الأنوار الكاشفة .
ونحن
حينما نصف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما هم له أهل ، فإنما
نريد صحابته المخلصين الذين أخلصوا دينهم ، وثبتوا على إيمانهم ، ولم
يغمطوا بكذب أو نفاق ، فالمنافقون الذين كشف الله سترهم ، ووقف المسلمون
على حقيقة أمرهم ، والمرتدون الذين ارتدوا في حياة النبي - صلى الله عليه
وسلم - أو بعده ، ولم يتوبوا أو يرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا على ردتهم ،
هؤلاء وأولئك لا يدخلون في هذا الوصف إطلاقاً ، ولا تنطبق عليهم هذه الشروط
أبداً ، وهم بمعزل عن شرف الصحبة ، وبالتالي هم بمعزل عن أن يكونوا من
المرادين بقول العلماء والأئمة : " إنهم عدول " ، وفي تعريف العلماء
للصحابي ما يبين ذلك بجلاء ، حيث عرفوه بأنه من لقي - النبي صلى الله عليه
وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك .
وأما
الزعم بأن الصحابة - أنفسهم في زمنهم - كان يضع بعضهم بعضاً موضع النقد ،
وينزلون بعضاً منزلة أسمى من بعض ، وهو يعني بعض المراجعات التي كانت تدور
بينهم حول بعض الأحاديث ، فلم يكن ذلك عن تكذيب منهم للآخر كما جاء عن أنس
رضي الله عنه : " لم يكن يكذب بعضنا بعضاً " ، بل كانت الثقة متوفرة بينهم ،
ولكنهم بشر لم يخرجوا عن بشريتهم ، فلا يمنع أن يراجع بعضهم بعضاً في بعض
الأمور والأحكام ، إما للتثبت والتأكد ، لأن الإنسان قد ينسى أو يسهو أو
يغلط عن غير قصد ، ومن ذلك ما ثبت من مراجعة الخليفتين أبي بكر و عمر
رضي الله عنهما لبعض الصحابة في بعض مروياتهم ، وطلبهم شاهداً ثانياً ،
فلم يكن ذلك منهم عن تهمة ولا تجريح ، وإنما هو لزيادة اليقين والتثبت في
الرواية ، وليقتدي بهم في ذلك من بعدهم ، وليس أدل على ذلك من قول عمر رضي الله عنه ، لأبي موسى الأشعري
- وقد طلب منه أن يأتي بمن يشهد معه على سماعه عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - : " أما إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - .
وقد
تكون هذه المراجعة لأنه ثبت عند الصحابي ما يخالف الحديث ، أو ما يخصصه أو
يقيده ، أو لأنه رأى مخالفته لظاهر القرآن ، أو لظاهر ما حفظه من سنة إلى
غير ذلك ، وما دار بينهم من مراجعات مدون ومحصور في كتب الحديث ، ومشفوع
بأجوبته ، وهم فيها بين مصيب له أجران ، ومخطئ له أجر واحد .
فليس من الإنصاف إذاً ، أن تُجعل هذه المراجعات دليلاً على اتهام الصحابة بعضهم لبعض ، وتكذيب بعضهم لبعض كما يزعم المرجفون .
إذاً
فتعديل الصحابة رضي الله عنهم أمر متفق عليه بين المسلمين ، ولا يطعن فيهم
إلا من غُمص في دينه وعقيدته ، ورضي بأن يسلم عقله وفكره لأعدائه ، معرضاً
عن كلام الله وكلام رسوله وإجماع أئمة الإسلام .