سبق أن أشرنا في أكثر من موضع من محور القرآن إلى أن التعارض بين آيات
الكتاب الكريم بمعناه اللغوي والحقيقي أمر غير وارد، بل غير مقبول عقلاً
ولا شرعًا؛ لكن بالمقابل لا يمكن نفي وجود تعارض بين بعض الآيات القرآنية
من حيث الظاهر فحسب، ونقصد بذلك، التعارض الذي قد يبدو لقارئ كتاب الله بين
بعض آيات الكتاب العزيز، وخاصة للقارئ غير المتخصص، وغير المتمكن من علوم
الشريعة عمومًا، وعلم التفسير على وجه أخص .
وبين يدينا اليوم، مثال واضح على هذا النوع من التعارض، بل هو من أبرز الأمثلة لبيان ما نريد بيانه، وتفصيل ما أجملنا القول فيه .
في القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } (البقرة:256) ونحو ذلك من الآيات المشابهة؛ وفي المقابل نقرأ قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } (التوبة:29) وقوله سبحانه: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } (التوبة:123) ونحو ذلك من الآيات الحاثة على الجهاد .
والتعارض
بين آية البقرة وآيتي التوبة ظاهر بأدنى تأمل؛ فآية البقرة وما شاكلها،
تفيد منع الإكراه على الدين بحال؛ وآياتا التوبة ونحوهما تفيدان محاربة
ومقاتلة الكافرين؛ فما السبيل الأسلم للتوفيق بين أمثال هذه الآيات،
وما الطريق الأوفق لرفع ما يبدو من تعارض بينها .
بالعودة إلى ما ذكره المفسرون، حول الآيات موضوع الحديث، نقف على أقوال عديدة للعلماء، حاصلها قولان:
الأول: أن آية { لا إكراه } منسوخة بقوله تعالى: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين }
(التوبة:73) إلا أن القول بالنسخ يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ
الجزية من بعض الكفار مقابل الكف عنهم، وهذا ما يُضعف القول بالنسخ، كما أن
النسخ لا يصار إليه، ويقال به إلا بعد العجز عن الجمع بين الدليلين .
الثاني: أن آية { لا إكراه }
محكمة، ولكنها خاصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا
أدُّوا الجزية، وكانوا تحت حكم المسلمين؛ أما غيرهم فيجبرون عليه؛ وهذا
القول الثاني هو ما عليه أكثر أهل العلم، وقد استدلوا لما ذهبوا إليه، بما
رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ( نزلت
في الأنصار، قال: كانت المرأة منهم إذا كانت نزرة أو مقلاة - الذي لا يعيش
لها ولد - تنذر لئن ولدت ولدًا لتجعلنه في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه،
فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله،
أبناؤنا وإخواننا فيهم، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: { لا إكراه في الدين } رواه البيهقي . وهذا الذي اختاره شيخ المفسرين الطبري وصوَّبه،
وحمل عليه معنى الآية، فقال: ( وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال:
نزلت هذه الآية في خاصِّ من الناس ) ثم قال: عنى بقوله تعالى ذكره: { لا إكراه في الدين } أهل الكتابين والمجوس، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه ) .
هذا
حاصل أقوال المتقدمين في الجمع بين هذه الآيات؛ والواقع فإن الناظر في كتب
التفسير المتقدمة عمومًا، يجد أن المفسرين لم يخرجوا عن هذين القولين، في
الأغلب، ورجَّح أكثرهم القول بأن آية البقرة خاصة بأهل الكتاب ومن شاكلهم .
وإن
كان ثمة من ملاحظة نبديها على هذا المسلك، فهي أن نقول: إن القول بالتخصيص
هنا لا يرفع التعارض الواقع بين الآيات موضوع الحديث، ناهيك على أن
القاعدة التفسيرية تقرر: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب .
أما عن أقوال المتأخرين، فإننا نكتفي بالوقوف عند قولين منها:
القول الأول: قول سيد قطب "
في ظلال القرآن " إذ رأى - رحمه الله - أن الإكراه على العقيدة والدين أمر
ينافي حقيقة دعوة الإسلام، فينبغي أن يترك الناس - كأفراد - وما يختارونه
من دين ومعتقد، لكن ينبغي أن تزال من طريقهم تلك العوائق التي تمنعهم من
إبصار حقيقة هذا الدين، وتصدهم عن دين الإسلام؛ ونص عبارته: إن ( الإسلام
بوصفه دين الحق، الوحيد القائم في الأرض، لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق
المادية من جهة؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق، على أن يدع
لكل فرد حرية الاختيار، بلا إكراه منه، ولا من تلك العوائق المادية كذلك )
ويوضح هذه الحقيقة بقوله: ( { لا إكراه في الدين } أي: لا إكراه على اعتناق العقيدة، بعد الخروج من سلطان العبيد، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله؛ أو أن { الدين كله لله } بهذا الاعتبار ) .
فآية: { لا إكراه } وما شاكلها - حسب رأي سيد - موضوعها الأفراد؛ وآية: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } وما وافقها، فموضوعها تلك العوائق المادية والمعنوية، التي تصد الناس عن معرفة دين الحق، وتمنعهم من الانضواء تحت لوائه .
وظاهر من كلام سيد -
رحمه الله - أنه وفَّق بين الآيات توفيقًا متَّجهًا، تؤيده الأدلة ولا
تأباه، وأعمل كل دليل وَفْق ظرفه، وحسب حاله، وهذا أمر معهود، وطريق مقبول
عند العلماء، للتوفيق بين الأدلة .
أما القول الثاني، فهو قول الشيخ ابن عاشور وقد ذكره في تفسيره " التحرير والتنوير " وحاصل ما قال بهذا الصدد: إن آية { لا إكراه في الدين }
ناسخة لآيات القتال، وأن هذه الآية - وأيضًا حسب رأي ابن عاشور - نزلت بعد
فتح مكة، واستخلاص بلاد العرب، فنسخت حكم القتال على قبول الإسلام، ودلت
على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام، وهو المعبَّر عنه بالذمة،
ووضَّح هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، ودخول الناس في دين
الله أفواجًا ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .
وكلام ابن عاشور صريح، أو على الأقل ما يُفهم منه، أن آية: { لا إكراه في الدين } ناسخة لآيات القتال، وحاكمة عليها؛ ولنا على ما ذهب إليه الشيخ ابن عاشور بضع ملاحظات:
-
أن القول بالنسخ لا يصار إليه - كما هو مقرر أصوليًا - إلا عند عدم
إمكانية الجمع بين الأدلة، والجمع هنا ممكن، وبالتالي فلا مجال للقول
بالنسخ هنا .
- أن ما ذهب إليه ابن عاشور مخالف لما عليه أكثر أهل العلم، في توجيه هذه الآية، وقد عرفنا مذهب الجمهور آنفًا، وأن آية { لا إكراه } خاصة بأهل الكتاب .
- ثم إنا نقول: إن المتتبع لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، يجد أن سيرته على خلاف ما قرره ابن عاشور ،
بخصوص تشريع آيات الجهاد؛ وذلك أن مجاهدة الكافرين كانت ثابتة في سيرته
صلى الله عليه وسلم، إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام، يرشد لهذا أمره
بتجهيز جيش أسامة لقتال الروم قبل وفاته بمدة قصيرة .
-
على أن من المعلوم من تاريخ نزول الآيات، أن سورة براءة - وفيها آيات
الجهاد - هي من أواخر ما نزل من القرآن، فإذا كان لا بد من القول بالنسخ،
فالأصوب أن يقال: إن آيات الجهاد - الواردة في سورة براءة - هي الناسخة
لآية البقرة وليس العكس، وهذا مذهب بعض أهل العلم .
إذا تبين هذا،
فالذي يقتضيه النظر بين الأدلة، وما تقتضيه قواعد الأصول، أن نقول: إن
إمكانية الجمع هنا ممكنة، وبالتالي فلا وجه للقول بالنسخ هنا، والأصوب أن
يقال: يُعمل بهاتين الآيتين، كل في موضعه، وكل بحسب ظرفه؛ فآية البقرة: { لا إكراه في الدين } يُعمل بها على مستوى الأفراد، فلا يُكره أحدٌ على اعتناق الإسلام والدخول فيه .
أما
آيات الجهاد والقتال، فيُعمل بها عندما يُواجَه هذا الدين من قِبَل
أعدائه، أو يُمنع من تبليغ رسالة رب العالمين، إذ هي الهدف الأساس من دعوة
الإسلام، ليكون { الدين كله لله } (الأنفال:39) وبذلك تلتئم الأدلة وتتفق، ويُحمل كل دليل بحسب ظرفه وسياقه .
على أن من المفيد الإشارة هنا إلى أن ابن القيم رحمه الله تكلم كلامًا جيدًا في هذا السياق، يمكن الرجوع إليه في كتابيه ( زاد المعاد ) و ( هداية الحيارى ) .
الكتاب الكريم بمعناه اللغوي والحقيقي أمر غير وارد، بل غير مقبول عقلاً
ولا شرعًا؛ لكن بالمقابل لا يمكن نفي وجود تعارض بين بعض الآيات القرآنية
من حيث الظاهر فحسب، ونقصد بذلك، التعارض الذي قد يبدو لقارئ كتاب الله بين
بعض آيات الكتاب العزيز، وخاصة للقارئ غير المتخصص، وغير المتمكن من علوم
الشريعة عمومًا، وعلم التفسير على وجه أخص .
وبين يدينا اليوم، مثال واضح على هذا النوع من التعارض، بل هو من أبرز الأمثلة لبيان ما نريد بيانه، وتفصيل ما أجملنا القول فيه .
في القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } (البقرة:256) ونحو ذلك من الآيات المشابهة؛ وفي المقابل نقرأ قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } (التوبة:29) وقوله سبحانه: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } (التوبة:123) ونحو ذلك من الآيات الحاثة على الجهاد .
والتعارض
بين آية البقرة وآيتي التوبة ظاهر بأدنى تأمل؛ فآية البقرة وما شاكلها،
تفيد منع الإكراه على الدين بحال؛ وآياتا التوبة ونحوهما تفيدان محاربة
ومقاتلة الكافرين؛ فما السبيل الأسلم للتوفيق بين أمثال هذه الآيات،
وما الطريق الأوفق لرفع ما يبدو من تعارض بينها .
بالعودة إلى ما ذكره المفسرون، حول الآيات موضوع الحديث، نقف على أقوال عديدة للعلماء، حاصلها قولان:
الأول: أن آية { لا إكراه } منسوخة بقوله تعالى: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين }
(التوبة:73) إلا أن القول بالنسخ يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ
الجزية من بعض الكفار مقابل الكف عنهم، وهذا ما يُضعف القول بالنسخ، كما أن
النسخ لا يصار إليه، ويقال به إلا بعد العجز عن الجمع بين الدليلين .
الثاني: أن آية { لا إكراه }
محكمة، ولكنها خاصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا
أدُّوا الجزية، وكانوا تحت حكم المسلمين؛ أما غيرهم فيجبرون عليه؛ وهذا
القول الثاني هو ما عليه أكثر أهل العلم، وقد استدلوا لما ذهبوا إليه، بما
رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ( نزلت
في الأنصار، قال: كانت المرأة منهم إذا كانت نزرة أو مقلاة - الذي لا يعيش
لها ولد - تنذر لئن ولدت ولدًا لتجعلنه في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه،
فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله،
أبناؤنا وإخواننا فيهم، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: { لا إكراه في الدين } رواه البيهقي . وهذا الذي اختاره شيخ المفسرين الطبري وصوَّبه،
وحمل عليه معنى الآية، فقال: ( وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال:
نزلت هذه الآية في خاصِّ من الناس ) ثم قال: عنى بقوله تعالى ذكره: { لا إكراه في الدين } أهل الكتابين والمجوس، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه ) .
هذا
حاصل أقوال المتقدمين في الجمع بين هذه الآيات؛ والواقع فإن الناظر في كتب
التفسير المتقدمة عمومًا، يجد أن المفسرين لم يخرجوا عن هذين القولين، في
الأغلب، ورجَّح أكثرهم القول بأن آية البقرة خاصة بأهل الكتاب ومن شاكلهم .
وإن
كان ثمة من ملاحظة نبديها على هذا المسلك، فهي أن نقول: إن القول بالتخصيص
هنا لا يرفع التعارض الواقع بين الآيات موضوع الحديث، ناهيك على أن
القاعدة التفسيرية تقرر: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب .
أما عن أقوال المتأخرين، فإننا نكتفي بالوقوف عند قولين منها:
القول الأول: قول سيد قطب "
في ظلال القرآن " إذ رأى - رحمه الله - أن الإكراه على العقيدة والدين أمر
ينافي حقيقة دعوة الإسلام، فينبغي أن يترك الناس - كأفراد - وما يختارونه
من دين ومعتقد، لكن ينبغي أن تزال من طريقهم تلك العوائق التي تمنعهم من
إبصار حقيقة هذا الدين، وتصدهم عن دين الإسلام؛ ونص عبارته: إن ( الإسلام
بوصفه دين الحق، الوحيد القائم في الأرض، لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق
المادية من جهة؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق، على أن يدع
لكل فرد حرية الاختيار، بلا إكراه منه، ولا من تلك العوائق المادية كذلك )
ويوضح هذه الحقيقة بقوله: ( { لا إكراه في الدين } أي: لا إكراه على اعتناق العقيدة، بعد الخروج من سلطان العبيد، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله؛ أو أن { الدين كله لله } بهذا الاعتبار ) .
فآية: { لا إكراه } وما شاكلها - حسب رأي سيد - موضوعها الأفراد؛ وآية: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } وما وافقها، فموضوعها تلك العوائق المادية والمعنوية، التي تصد الناس عن معرفة دين الحق، وتمنعهم من الانضواء تحت لوائه .
وظاهر من كلام سيد -
رحمه الله - أنه وفَّق بين الآيات توفيقًا متَّجهًا، تؤيده الأدلة ولا
تأباه، وأعمل كل دليل وَفْق ظرفه، وحسب حاله، وهذا أمر معهود، وطريق مقبول
عند العلماء، للتوفيق بين الأدلة .
أما القول الثاني، فهو قول الشيخ ابن عاشور وقد ذكره في تفسيره " التحرير والتنوير " وحاصل ما قال بهذا الصدد: إن آية { لا إكراه في الدين }
ناسخة لآيات القتال، وأن هذه الآية - وأيضًا حسب رأي ابن عاشور - نزلت بعد
فتح مكة، واستخلاص بلاد العرب، فنسخت حكم القتال على قبول الإسلام، ودلت
على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام، وهو المعبَّر عنه بالذمة،
ووضَّح هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، ودخول الناس في دين
الله أفواجًا ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .
وكلام ابن عاشور صريح، أو على الأقل ما يُفهم منه، أن آية: { لا إكراه في الدين } ناسخة لآيات القتال، وحاكمة عليها؛ ولنا على ما ذهب إليه الشيخ ابن عاشور بضع ملاحظات:
-
أن القول بالنسخ لا يصار إليه - كما هو مقرر أصوليًا - إلا عند عدم
إمكانية الجمع بين الأدلة، والجمع هنا ممكن، وبالتالي فلا مجال للقول
بالنسخ هنا .
- أن ما ذهب إليه ابن عاشور مخالف لما عليه أكثر أهل العلم، في توجيه هذه الآية، وقد عرفنا مذهب الجمهور آنفًا، وأن آية { لا إكراه } خاصة بأهل الكتاب .
- ثم إنا نقول: إن المتتبع لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، يجد أن سيرته على خلاف ما قرره ابن عاشور ،
بخصوص تشريع آيات الجهاد؛ وذلك أن مجاهدة الكافرين كانت ثابتة في سيرته
صلى الله عليه وسلم، إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام، يرشد لهذا أمره
بتجهيز جيش أسامة لقتال الروم قبل وفاته بمدة قصيرة .
-
على أن من المعلوم من تاريخ نزول الآيات، أن سورة براءة - وفيها آيات
الجهاد - هي من أواخر ما نزل من القرآن، فإذا كان لا بد من القول بالنسخ،
فالأصوب أن يقال: إن آيات الجهاد - الواردة في سورة براءة - هي الناسخة
لآية البقرة وليس العكس، وهذا مذهب بعض أهل العلم .
إذا تبين هذا،
فالذي يقتضيه النظر بين الأدلة، وما تقتضيه قواعد الأصول، أن نقول: إن
إمكانية الجمع هنا ممكنة، وبالتالي فلا وجه للقول بالنسخ هنا، والأصوب أن
يقال: يُعمل بهاتين الآيتين، كل في موضعه، وكل بحسب ظرفه؛ فآية البقرة: { لا إكراه في الدين } يُعمل بها على مستوى الأفراد، فلا يُكره أحدٌ على اعتناق الإسلام والدخول فيه .
أما
آيات الجهاد والقتال، فيُعمل بها عندما يُواجَه هذا الدين من قِبَل
أعدائه، أو يُمنع من تبليغ رسالة رب العالمين، إذ هي الهدف الأساس من دعوة
الإسلام، ليكون { الدين كله لله } (الأنفال:39) وبذلك تلتئم الأدلة وتتفق، ويُحمل كل دليل بحسب ظرفه وسياقه .
على أن من المفيد الإشارة هنا إلى أن ابن القيم رحمه الله تكلم كلامًا جيدًا في هذا السياق، يمكن الرجوع إليه في كتابيه ( زاد المعاد ) و ( هداية الحيارى ) .