أخبر القرآن الكريم عن آل فرعون، بأنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة، جاء ذلك الإخبار في قوله تعالى: { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }
(غافر:46)؛ وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن المصورين أشد
الناس عذابًا يوم القيامة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون ) متفق عليه .
والمتأمل
في الآية والحديث، قد يبدو له شيء من التعارض بينهما؛ وقد أثار بعض أهل
العلم هذا الإشكال بين الآية والحديث، ووفق بينهما بأحد وجوه ثلاثة:
أولها: أن لفظ الحديث قد جاء في رواية ثانية، فيها زيادة ( من )، ونص الحديث: ( إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذابًا المصورون ) رواه مسلم .
ومعنى الحديث على الرواية الثانية: إن من يفعل فعل التصوير، يكون من أشد
الناس عذابًا يوم القيامة؛ ولا يقتضي هذا أن يكون أشد من آل فرعون عذابًا، بل يقتضي أنه مشارك له في شدة العذاب؛ فيكون كل واحد من هؤلاء مشترك مع الآخر في شدة العذاب .
يرشد لهذا التوجيه للحديث أمران؛ أحدهما: أنه ليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب، بل غاية ما فيها، أن آل فرعون سينالهم أشد العذاب، وهذا لا ينفي أن يشاركهم غيرهم في هذه الشدة. ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: ( أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين ) رواه أحمد ؛
ووجه دلالة الحديث هنا، أن شدة العذاب شملت أنواعًا مختلفة من الناس،
كالذي يقتل نبيًا من الأنبياء، أو من يقتله نبي، وكالإمام الضال، ونحو ذلك.
فدل ذلك على أن شدة العذاب ليست محصورة، بآل فرعون فحسب،
وإنما قد يشاركهم بها غيرهم، ممن شاركهم في جنس فعلهم. وعلى هذا الوجه
الأول، يكون قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى: ( إن أشد الناس عذابًا )، محمولاً على قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: ( إن من أشد )، بمعنى أن إطلاق الرواية الأولى، مقيد بتقييد الرواية الثانية، وهذا التقييد لا يقتضي أن يكون المصورون أشد عذابًا من فرعون يوم القيامة .
ثانيها:
إن الوعيد المخبر عنه في حق المصورين؛ إن ورد في حق كافر، فلا إشكال فيه؛
لأنه يكون مشتركًا في ذلك مع آل فرعون، ويكون فيه دلالة على عظم كفر من
يفعل ذلك. وإن ورد الوعيد في حق عاصٍ، فيكون أشد عذابًا من غيره من العصاة،
ويكون ذلك دالاً على عظم معصيته .
ثالثها: أن ( الناس ) الذين أضيف إليهم لفظ ( أشد )، لا يراد بهم كل الناس، بل بعضهم، وهم الذين يشاركون فرعون في المعنى المتوعد عليه بالعذاب؛ ف فرعون
أشد الناس الذين ادعوا الألوهية عذابًا، ومن يقتدي به في ضلالة كفره، أشد
عذابًا ممن يقتدي به في ضلالة فسقه؛ فمن يصور صورة ذات روح بقصد العبادة،
أشد عذابًا ممن يصورها لغير قصد العبادة .
هذا، وقد نقل ابن بطال في شرحه على ( صحيح البخاري ) جوابًا للإمام الطبري في
الجمع بين الآية والحديث، حاصله: أنه ليس في خبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم خلاف لما في خبر القرآن، بل هو له مصدق؛ وذلك أن المصور الذي أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم عنه أن له أشد العذاب، هو الذي وصفه صلى الله
عليه وسلم، بقوله: ( أشد الناس عذابًا يوم القيامة، الذين يضاهون بخلق الله ) متفق عليه؛ أي: يشبهون ما يصنعونه بما يخلقه الله؛ و فرعون من هؤلاء، حيث أخبر قومه بقوله: { أنا ربكم الأعلى } (النازعات:24)، بل تجرأ على الله أكثر من ذلك حين قال: { ما علمت لكم من إله غيري } (القصص:38)؛ وعلى هذا، يكون المصور بهذا القصد، مشاركًا لـ فرعون ومن تبعه في شدة العذاب، من جهة أن كل واحد منهما ادعى التشبه بالخالق، والتشبيه بما يخلق .
هذا
حاصل ما ذكره أهل العلم، في الجمع بين الآية والحديث. ونحن نقول وراء ذلك:
إن لفظ ( أشد ) - وهو من صيغ المفاضلة - يمكن أن لا يراد به حقيقته
اللغوية، بل يراد منه عظم العذاب وشدته، دون أن يعني ذلك، أنه لا يكون ثمة
عذاب آخر أشد منه أو مساويًا له. وحمل صيغ ( المفاضلة ) على غير حقيقتها
اللغوية، أمر له أمثلة من القرآن، كقوله تعالى: { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } (الزمر:55)، فقوله سبحانه: { أحسن }
اسم تفضيل، مستعمل في معنى: كامل الحسن، وليس في معنى تفضيل بعضه على بعض؛
لأن جميع ما في القرآن حسن. وأهل اللغة يعبرون عن هذا بقولهم: وصيغة
المفاضلة هنا ليست على بابها، أي: لا يراد منها ما وضعت له لغة . نخلص
مما تقدم، أن لا تعارض حقيقي بين الآية والحديث، بل هما متفقان تمام
الاتفاق، ومتوافقان غاية الوفاق؛ فالآية تخبرنا بعظم العذاب الذي سيلحق
بفرعون ومن تبعه يوم القيامة، والحديث يخبرنا بأن من فعل فعلاً يشابه به
خلق الله له عذاب شديد .