من السنن الاجتماعية التي قررها القرآن الكريم ما جاء في قوله تعالى: { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير }
(الأنفال:73)، فقد قررت هذه الآية الكريمة، أن المسلمين إذا لم يعاون
بعضهم بعضاً، ويؤزار بعضهم بعضاً، فإن الفتنة تحل بينهم، وتجر معها فساداًَ
كبيراً، يعم البلاد والعباد، وبالتالي يكون تجازوها والقضاء عليها ليس
بالأمر اليسير.
نتجه
في السطور التالية إلى إلقاء بعض التأملات حول هذه الآية، ذاكرين بداية
معنى (الفتنة)، ومبينين تالياً حاصل ما قاله المفسرون في المراد من هذه
الآية، ثم واقفين نهاية على أهم الفوائد والعبر المستفادة من هذه الآية.
أما
لفظ (الفتنة) فهو لفظ يجمع معنى مرج أحوال الناس واضطرابها وتشتتها،
والخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام. وقد يخصص ويعمم
بحسب ما يضاف إليه، أو بحسب المقام. يقال: فتنة المال، وفتنة النساء، وفتنة
الدين، ونحو ذلك.
ولما
كانت (الفتنة) يختلف ثبات الناس فيها، بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم
ومقدرتهم على حسن الخروج منها، كان من لوازمها الابتلاء والاختبار. فكان
ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيراً؛ ولذلك تسامح بعض علماء
اللغة، ففسر (الفتنة) بالابتلاء.
هذا
معنى (الفتنة) من حيث الأصل اللغوي. أما المقصود منها في الآية، فقد قال
المفسرون: الفتنة في الأرض: قوة الكفر. والفساد الكبير: ضعف الإسلام؛ لأن
المسلمين إذا لم يكونوا يداً واحدة على الكفر، كان الكفر ظاهراً، والفساد
منتشراً.
وقد ذكر المفسرون في المراد بالآية رأيين:
أحدهما: أن الآية خطاب للمؤمنين، تبين لهم أن أصل التوارث بينهم ينبغي أن يقوم على أساس الإيمان فحسب، وليس على أساس القرابة والنسب.
ثانيهما:
أن الآية خطاب للمؤمنين بغية التعاون والتناصر والتآزر فيما بينهم؛ كي لا
يتسلط عليهم الأعداء، فيفرقوا جمعهم، ويوقعوا الفساد بينهم. وقد رجح الطبري هذا القول، واستدل بهذه الآية على حرمة مُقام المسلم في ديار الكفر، ووجوب الهجرة إلى ديار الإسلام.
واستقراء نصوص الشرع ومقاصده، ترجح أن يكون المراد من الآية ما اختاره الطبري ؛
وذلك أن سياق الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية تتحدث عن موضوع الموالاة
والنصرة بين المؤمنين؛ وعليه يكون معنى الآية الكريمة - كما قال الزمخشري -:
إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين، وتولي بعضهم بعضاً، تفضيلاً
لنسبة الإسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار،
ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، وتفوت
مقاصد الشرع والدين.
وبيان هذه (الفتنة) و(الفساد) - كما قال الرازي - يكون من وجوه:
أولاً:
أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم، وزمان
قوة الكفار وكثرة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم
بالكفار.
ثانياً: أن المسلمين لو كانوا متفرقين، تشتت قوتهم، وضعف أمرهم، فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم.
ثالثاً:
أنه إذا كان جمع المسلمين كل يوم في ازياد في العدد والعُدة، صار ذلك
سبباً لمزيد رغبتهم فيما هم فيه، ورغبة المخالف في الالتحاق بهم.
والمتأمل
في تاريخ المسلمين القديم منه والحديث، يجد أن الفتنة والفساد الكبير قد
وقعا في معظم هذا التاريخ؛ وما ذلك إلا لعدم أخذ المسلمين بهذه السُّنَّة
القرآنية، وذلك بتركهم الولاية بينهم، وتخاذلهم وتولي بعضهم لمن نهاهم الله
عن ولايتهم. فسقوط الخلافة الأموية، والعباسية، والأندلسية، والعثمانية
أكبر شاهد على مصداقية هذه السُّنَّة القرآنية.
وواقع
المسلمين اليوم ليس ببعيد عما قررته هذه الآية الكريمة؛ إذ إن (الفتنة)
اشرأبت في العديد من أقطار المسلمين، جراء موالاة الكافرين، وترك موالاة
المسلمين، وظهر الفساد الكبير في عموم ديار المسلمين؛ لتركهم ما أمر الله
به من شرع ودين.
وعلى
المستوى الإنساني العام، فيمكن القول أيضاً: إن الوضع الديني والخلقي
والاجتماعي والسياسي المزري الذي يعيشه العالم اليوم، بل الانهيار
الإنساني، والاحتضار المعنوي الذي يعانيه عصر العولمة كله تفسير لقوله
تعالى: { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير }.
والحق،
فإننا لم نؤدِ واجبنا، ولم نقم بدرونا في أن نكون شهداء على الناس، وفي أن
نقيم المجتمع الإسلامي المؤمن القوي النقي، فكانت فتنة في الأرض وفساد
كبير، وفاقد الشيء لا يعطيه، والمريض لا يعالج المريض، والمجتمع الذي فقد
حصانته الخلقية، وقوته الروحية، وتماسكه الخلقي، وتمرده على الشهوات
والسفالات، وصموده أمام المغريات النفسية، والمالية، والسياسية، ولم يحمل
دعوة يعتز بها، ويتحمس في القيام بشرحها ونشرها، لا يستطيع أن يحافظ على
كيانه وشخصيته حتى بقائه واستمراره، فضلاً عن عملية إنقاذ العالم المعاصر،
والمجتمع الحاضر، من التدهور والانهيار، وما يرغب فيه ويسعى إليه من
الانتحار. { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } (القصص:50).