التوبة وظيفة العمر
التوبة وظيفة العمر الحمدلله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم
عليه وعلى آله والأصحاب.
أما بعد:
فإن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية، وأوسطها، وآخرها.
وحاجتنا إلى التوبة
ماسة، بل إن ضرورتنا إليها مُلِحَّة؛ فنحن نذنب كثيراً، ونفرط في جنب الله
ليلاً ونهاراً؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من رين الذنوب.
ثم إن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون؛ فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
ولقد جرت سنة الله أنه كلما دعت الحاجة إلى أمرٍ ما_يسره الله، وأعان عليه بلطفه وجوده وكرمه.
ولقد يسر الله أمر التوبة، وفتح
أبوابها لمن أرادها؛ فهو_عز وجل_يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط
يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وباب التوبة مفتوح للكفار، والمشركين، والمرتدين، والمنافقين، والظالمين، والعصاة، والمقصرين.
والناظر في باب التوبة بادىء الرأي قد يظن أنه محصور في عدة أمور، فلا يتعداها ولا يتجاوزها.
والحقيقة أن الحديث عن التوبة ذو شجون، والكلام عليها متشعب طويل؛ فللتوبة فضائل وأسرار، ولها مسائل وأحكام، وهناك أخطاء تقع في مفهومها، وهناك أسباب تعين عليها.
ثم إن الحديث عن التوبة يشمل كافة الناس، ويخاطب جميع الطبقات، ويُحتاج إليه في جميع مراحل العمر.
ومع عظم شأن التوبة، وشدة الضرورة إليها_إلا أن هناك تقصيراً في شأنها، وخللاً كبيراً في مفهومها، وغفلة مستحكمة عن المبادرة إليها.
وفيما يلي من صفحات بيانٌ لشيء من ذلك،
التوبة وظيفة العمر
.
وهي تدور حول معاني الرجوع، والعودة، والإنابة، والندم.
قال ابن فارس في مادة توبالتاء، والواو، والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع
يقال: تاب من ذنبه: أي رجع عنه، يتوب إلى الله توبةً، ومتاباً فهو تائب.
والتوب: التوبة، قال الله تعالى [قَابِلِ التَّوْبِ] غافر: 3+([1]).
وقال ابن منظوروتاب إلى الله يتوب توباً، وتوبة، ومتاباً: أناب، ورجع عن المعصية إلى الطاعة
والتوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عُدِّيت بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عديت بإلى.
قال الله تعالى [إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] النساء:17.
وقال عز وجل [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] النور:31.
وقال: [وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً] الفرقان: 71.
قال ابن منظور وتاب الله عليه: وفقه([2]) لها، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده
وقال: وقال أبو منصور: أصل تاب: عاد إلى الله، ورجع، وأناب، وتاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة
ثانياً تعريف التوبة في الشرع: عرفت التوبة إلى الله في الشرع بعدة تعريفات، والمدلول الشرعي للتوبة قريب من المدلول اللغوي، فمما عرفت به التوبة في الشرع مايلي:
1_ قال أبو حامد الغزالي قيل في حد التوبة أنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ
ثم علق على هذا الحد فقال: فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل:
2_ هو نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب
3_ وقال: وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة: إنه خلع لباس الجفاء، ونشر بساط الوفاء
4_ وقال: ومن معانيها([3]):ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال
5_ وقال ابن القيم في تعريف التوبة: فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل
6_ وقال_أيضاً_: حقيقة التوبة
الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره؛ فهي رجوع من مكروه إلى
محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر
7_ وقال: التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً
8_ وقال ابن حجر والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه.
وفي الشرع: ترك الذنب؛ لقبحه،
والندم على فعله، والعزم على عدم العود، وردُّ المظلمة إن كانت، أو طلب
البراءة من صاحبها، وهي أبلغ وجوه الاعتذار
9_ ويمكن أن تعرف التوبة
بأنها: ترك الذنب علماً بقبحه، وندماً على فعله، وعزماً على ألا يعود إليه
إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءً لما ضيع من
الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل
الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها.
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن التوبة لابد أن يجتمع فيها الأمور التالية:
1_ الإقلاع عن الذنب.
2_ الندم على ما فات، والحد الأدنى من ذلك وجود أصل الندم، وأما قوة الندم وضعفه فبحسب قوة التوبة، وضعفها.
3_ العلم بقبح الذنب.
4_ العزم على ألا يعود.
5_ تدارك ما يمكن تداركه من رد المظالم ونحو ذلك
6_ أن تكون خالصة لله_عز وجل_قال_تعالى_: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] البينة: 5.
7_ أن تكون قبل الغرغرة، لما جاء عن ابن عمر_رضي الله عنهما عن النبي"قال: إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
قال الشيخ حافظ الحكمي
وتقبل التوبة قبل الغرغره
كما أتى في الشرعة المطهرة([4])
والغرغرة هي حشرجة الروح في الصدر، والمراد بذلك الاحتضار عندما يرى الملائكة، ويبدأ به السياق في الموت.كما أتى في الشرعة المطهرة([4])
8_ أن تكون قبل طلوع الشمس من
مغربها لما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي": من تاب قبل أن
تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه
([1]) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/357.
([2]) وهذا من التفسير باللازم.
([3]) يعني التوبة.
([4]) معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 2/301.