النفاذ من
أقطار السموات والأرض
قال الله عز وجل :﴿ يَا مَعْشَرَ الجِنِّ
وَالإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ
مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ ﴾(الرحمن: 33- 35) .
أولاً- كتب الدكتور زغلول النجار تحت
عنوان ( الدلالة العلمية لقول الحق
تبارك وتعالى ) في هذه الآيات ما يأتي :
هذه الآيات الثلاث التي تحدَّى
القرآن الكريم فيها كلًّا من الجن والإنس تحدِّيًا صريحًا ، بعجزهم عن النفاذ من
أقطار السماوات والأرض , وهو تحدٍّ يظهر ضآلة قدراتهما مجتمعين أمام طلاقة
القدرة الإلهية في إبداع الكون , لضخامة أبعاده , ولقصر عمر المخلوقات ,
وحتمية فنائها , والآيات بالإضافة إلى ذلك تحوي عددًا من الحقائق الكونية
المبهرة التي لم يستطع الإنسان إدراكها إلا في العقود القليلة المتأخرة من القرن
العشرين , والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية :
أولا - بالنسبة للنفاذ من
أقطار الأرض :
إذا كان المقصود من هذه الآيات
الكريمة إشعار كل من الجن والإنس بعجزهما عن النفاذ من أقطار كل من الأرض على حدة
, والسماوات على حدة , فإن المعارف الحديثة تؤكد ذلك ؛ لأن أقطار الأرض
تتراوح بين ( 12756 ) كيلو مترًا بالنسبة إلى متوسط قطرها الاستوائي , و( 12713
) كيلو مترًا بالنسبة إلى متوسط قطرها القطبي ؛ وذلك لأن الأرض ليست تامة
الاستدارة لانبعاجها قليلاً عند خط الاستواء , وتفلطحها قليلاً عند القطبين .
ويستحيل على الإنسان اختراق الأرض
من أقطارها لارتفاع كل من الضغط والحرارة باستمرار في اتجاه المركز ، مما لا تطيقه
القدرة البشرية , ولا التقنيات المتقدمة التي حققها إنسان هذا العصر , فعلى
الرغم من التطور المذهل في تقنيات حفر الآبار العميقة التي طورها الإنسان بحثا عن
النفط والغاز الطبيعي ، فإن هذه الأجهزة العملاقة لم تستطع حتى اليوم تجاوز عمق (
14 ) كيلو مترًا من الغلاف الصخري للأرض , وهذا يمثل ( 0,2% ) تقريبًا من
طول نصف قطر الأرض الاستوائي , وعند هذا العمق تعجز أدوات الحفر عن الاستمرار في
عملها لتزايد الضغط وللارتفاع الكبير في درجات الحرارة إلى درجة قد تؤدي إلى صهر
تلك الأدوات .. فمن الثابت علميًّا أن درجة الحرارة تزداد باستمرار من سطح الأرض
في اتجاه مركزها حتى تصل إلى ما يقرب من درجة حرارة سطح الشمس المقدرة بستة آلاف
درجة مئوية حسب بعض التقديرات , ومن هنا كان عجز الإنسان عن الوصول إلى تلك
المناطق الفائقة الحرارة والضغط , وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى مخاطبا
الإنسان :﴿
وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ
الجِبَالَ طُولاً ﴾(الإسراء:37) .
ولو أن الجن عالم غيبي بالنسبة لنا , إلا أن ما ينطبق على الإنس من عجز تام عن النفاذ من
أقطار السماوات والأرض ، ينطبق عليهم . والآيات الكريمة قد جاءت في مقام التشبيه
بأن كلًّا من الجن والإنس لا يستطيع الهروب من قدر الله أو الفرار من قضائه
بالهروب إلى خارج الكون عبر أقطار السماوات والأرض ، حيث لا يدري أحد ماذا بعد ذلك
؛ إلا أن العلوم المكتسبة قد أثبتت بالفعل عجز الإنسان عجزًا كاملاً عن ذلك .
والقرآن الكريم يؤكد لنا اعتراف الجن بعجزهم الكامل عن ذلك أيضًا - كما جاء في
قول الحق تبارك وتعالى على لسان الجن :﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي
الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ﴾(الجن: 12) ؛ وذلك بعد أن قالوا :﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ﴾(الجن: .
ثانيا- بالنسبة للنفاذ من أقطار
السماوات :
تبلغ أبعاد الجزء المدرك من
السماء الدنيا من الضخامة ما لا يمكن أن تطويها قدرات كل من الإنس والجن , مما
يشعر كلاً منهما بضآلته أمام أبعاد الكون , وبعجزه التام عن مجرد التفكير في
الهروب منه ، أو النفاذ إلى المجهول من بعده !!!
فمجرتنا ( سكة التبانة )
يقدر قطرها الأكبر بمائة ألف سنة ضوئية (100.000*9.5 ) مليون مليون كيلو متر
تقريبًا , ويقدر قطرها الأصغر بعشرة آلاف سنة ضوئية (10.000*9.5 ) مليون مليون
كيلو متر تقريبًا . ومعنى ذلك أن الإنسان لكي يتمكن من الخروج من مجرتنا عبر
قطرها الأصغر يحتاج إلى وسيلة تحركه بسرعة الضوء ( وهذا مستحيل ) ؛ ليستخدمها
في حركة مستمرة لمدة تصل إلى عشرة آلاف سنة من سنيننا , وبطاقة انفلات خيالية ؛
لتخرجه من نطاق جاذبية الأجرام التي يمر بها من مكونات تلك المجرة , وهذه كلها من المستحيلات بالنسبة
للإنسان الذي لا يتجاوز عمره في المتوسط خمسين سنة , ولم تتجاوز حركته في السماء
ثانية ضوئية واحدة وربع الثانية فقط , وهي المسافة بين الأرض والقمر , على الرغم من التقدم
التقني المذهل الذي حققه في ريادة السماء .
ومجموعتنا الشمسية تقع من
مجرتنا على بعد ( ثلاثين ألفًا ) من السنين الضوئية من مركزها ,
و( عشرين
ألفًا ) من
السنين الضوئية من أقرب أطرافها . فإذا حاول الإنسان الخروج من أقرب الأقطار إلى
الأرض ، فإنه يحتاج إلى عشرين ألف سنة ، وهو يتحرك بسرعة
الضوء ؛ لكي يخرج من أقطار مجرتنا . وهل يطيق الإنسان ذلك ؟ أو هل يمكن أن يحيا
إنسان لمثل تلك المدد المتطاولة ؟ وهل يستطيع الإنسان أن
يتحرك بسرعة الضوء ؟ كل هذه حواجز تحول دون إمكان ذلك بالنسبة للإنسان , وما
ينطبق عليه ينطبق على عالم الجن !!!
ومجرتنا جزء من مجموعة من المجرات تعرف باسم المجموعة المحلية ، يقدر قطرها بنحو
ثلاثة ملايين وربع المليون من السنين الضوئية (3.261.500 ) سنة ضوئية , وهذه
بدورها تشكل جزءًا من حشد مجري ، يقدر قطره بأكثر من ستة ملايين ونصف المليون من
السنين الضوئية (6.523.000 ) سنة ضوئية . وهذا الحشد
المجري يكون جزءًا من الحشد المجري الأعظم ، ويقدر قطره
الأكبر بمائة مليون من السنين الضوئية ، وسمكه بعشرة ملايين من السنين الضوئية .
وتبدو الحشود المجرية العظمى على هيئة كروية تدرس في شرائح
مقطعية ، تقدر أبعادها في حدود ( 150*100*15 ) سنة ضوئية , وأكبر تلك الشرائح
، ويسميها الفلكيون مجازًا باسم الحائط العظيم ، يزيد طولها على مائتين وخمسين
مليونًا من السنين الضوئية .وقد تم أخيرًا اكتشاف نحو مائة من الحشود المجرية
العظمى ، تكون تجمعًا أعظم على هيئة قرص ، يبلغ قطره الأكبر بليونين من السنين
الضوئية .
والجزء المدرك من الكون ، وهو
يمثل جزءًا يسيرًا من السماء الدنيا التي زينها ربنا تبارك وتعالى بالنجوم ، قال
عز من قائل :﴿
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا
لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾(الملك: 5) .. هذا الجزء المدرك من السماء
الدنيا يزيد قطره على ( العشرين بليون ) سنة ضوئية , وهي حقائق تجعل الإنسان بكل إنجازاته
العلمية يتضاءل تضاؤلا شديدًا أمام أبعاد الكون المذهلة , وكذلك الجان ,
وكلاهما أقل من مجرد التفكير في إمكان الهروب من ملك الله الذي لا ملجأ ولا منجي
منه إلا إليه !!!
ثالثا - بالنسبة للنفاذ من
أقطار السماوات والأرض معًا :
تشير الآيات الكريمة إلى أن
التحدي الذي تجابه به الجن والإنس هو النفاذ من أقطار السماوات والأرض معًا ، إن استطاعوا , وثبت عجزهما عن النفاذ من أقطار أي
منهما , وعجزهما أشد ، إذا كانت المطالبة بالنفاذ من أقطارهما معًا . إذا كان
هذا هو مقصود الآيات الكريمة , فإنه يمكن أن يشير إلى معنى في غاية الأهمية ،
ألا وهو توسط الأرض للكون ، وهو معنى لا تستطيع علوم الفلك إثباته ، لعجز
الإنسان عن الإحاطة بأبعاد الكون ؛ ولكن يدعم هذا الاستنتاج ما رواه كل من قتادة
والسدِّي أن رسول الله قال يومًا لأصحابه : هل تدرون ما البيت المعمور ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة ، لو خر
لخر عليها , يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما
عليهم .
وتوسط الأرض للكون معنى حارت
فيه عقول العلماء والمفكرين عبر التاريخ ، وعجزت
العلوم المكتسبة والتقنيات الفائقة عن إثباته ؛ ولكن ما جاء في هذه الآيات
الكريمة , وفي هذا الحديث النبوي الشريف يشير إليه ,
ويجعل المنطق السوي يقبله .
رابعًا - بالنسبة إلى إرسال شواظ من
نار ونحاس على كل من يحاول النفاذ من أقطار السماوات والأرض بغير سلطان من الله
تعالي :
في الآية رقم ( 35 ) من سورة
الرحمن يخاطب ربنا تبارك وتعالى كلًّا من الجن والإنس
بقوله عز من قائل :﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ
فَلا تَنتَصِرَانِ ﴾ ، وقد أجمع قدامى المفسرين ومحدثوهم على أن لفظة ( شواظ ) هنا تعني اللهب الذي لا دخان
له . وكلمة ( نحاس ) تعني الدخان الذي لا لهب فيه . أو تعني فلز النحاس الذي نعرفه جميعًا ، وهو فلز معروف بدرجة انصهاره العالية ( 1083م ) ،
ودرجة غليانه الأعلى ( 2567م ) .
ومن الثابت علميًّا أن العناصر
المعروفة لنا تتخلق في داخل النجوم بعملية الاندماج النووي لنوي ذرات الهيدروجين ، فينتج عن ذلك نوي ذرات العناصر الأثقل بالتدريج
حتى يتحول لب النجم إلى حديد .
والتفاعل النووي قبل تكوُّن
ذرات الحديد هو تفاعل منتج للحرارة التي تصل إلى بلايين الدرجات المئوية ؛ ولكن
عملية الاندماج النووي المنتجة للحديد عملية مستهلكة للحرارة ، وبالتالي لطاقة
النجم حتى تضطره إلى الانفجار مما يؤدي إلى تناثر العناصر التي تكونت بداخله ، بما
فيها الحديد في صفحة السماء ؛ لتدخل هذه العناصر في مجال جاذبية أجرام تحتاج إليها
بتقدير من الله تعالى . أما العناصر ذات النوي الأثقل من ذرة الحديد فتتخلق
بإضافة اللبنات الأولية للمادة إلى نوي ذرات الحديد السابحة في صفحة السماء ، حتى
تتكون بقية المائة وخمسة من العناصر المعروفة لنا . وهذه أيضًا تنزل إلى جميع أجرام السماء بقدر معلوم . ولما كان عنصر
النحاس أعلى من الحديد في كل من وزنه وعدده الذري ( الوزن الذري لنظائر الحديد
57,56,54 ، والوزن الذري للنحاس63.546
، والعدد الذري للحديد26 ، بينما العدد الذري للنحاس29 ) , وبناء على
ذلك ، فإن عنصر النحاس يتخلق في صفحة السماء الدنيا باندماج نوي ذرات الحديد مع
بعض اللبنات الأولية للمادة , وهذا يجعل صفحة السماء الدنيا زاخرة بذرات العناصر
الثقيلة ، ومنها النحاس .
هذه الملاحظة تشير إلى أن لفظة
( نحاس ) في الآية الكريمة تعني ( فلز النحاس ) ؛ لأن التأويل هنا لا داعي
له على الإطلاق ، فالنحاس ، وهو منصهر وتغلي قطراته في صفحة السماء ، يعد عقابًا
رادعًا لكل محاولة ( إنسية أو جنية ) لاختراق أقطار السماوات والأرض .
وقد اتصل بي أخ كريم هو الدكتور
عبد الله الشهابي ، وأخبرني بأنه زار معرض الفضاء والطيران في مدينة واشنطن ( دي
سي ) الذي يعرض نماذج الطائرات من بداياتها الأولى إلى أحدثها ؛ كما يعرض نماذج
لمركبات الفضاء , وفي المعرض شاهد قطاعًا عرضيًّا في كبسولة ( أبو للو ) ، وأذهله أن يرى على سطحها
خطوطًا طولية عديدة غائرة في جسم الكبسولة ، ومليئة بكربونات النحاس ( جنزار
النحاس ) , وقد لفتت هذه الملاحظة نظره ، فذهب إلى المسئول العلمي عن تلك الصالة
وسأله : هل السبيكة التي صنعت منها الكبسولة يدخل فيها عنصر النحاس ؟ فنفى ذلك
نفيا قاطعًا, فأشار إلى جنزار النحاس على جسم الكبسولة وسأله : من أين جاء هذا
؟ فقال له : من نوي ذرات النحاس المنتشرة في صفحة
السماء التي تضرب جسم الكبسولة طوال حركتها صعودًا وهبوطًا من السماء . وحينما
تعود إلى الأرض وتمر بطبقات بها الرطوبة وثاني أكسيد الكربون ، فإن هذه الذرات
النحاسية التي لصقت بجسم الكبسولة تتحول بالتدريج إلى جنزار النحاس . ويقول
الدكتور الشهابي : إنه على الفور تراءت أمام أنظاره الآية القرآنية الكريمة التي
يقول فيها ربنا تبارك وتعالى :﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ
فَلا تَنتَصِرَانِ ﴾ .
هذه الملاحظة أكدت لي ما ناديت
به طويلاً بأن لفظة ( نحاس ) في الآية تعني ( فلز النحاس ) ،
ولا تحتاج إلى أدنى تأويل . فسبحان الذي أنزل هذه الآيات الكريمة من قبل (
1400 ) من السنين ، وحفظها لنا في كتابه الكريم على مدي ( 14 ) قرنًا أو يزيد ؛
لتظهر في زماننا زمان رحلات الفضاء برهانًا ماديًّا ملموسًا على أن هذا القرآن
الكريم هو كلام الله الخالق ، وأن النبي الخاتم الذي تلقاه كان موصولاً بالوحي ،
ومعلمًا من قبل خالق السماوات والأرض .