المزاح والمداعبة شئ محبب إلى النفوس ، فهو يبعث على
النشاط والإقبال على الأعمال بجد وطاقة ، ولا حرج فيه ما دام منضبطا بضوابط
الشرع ، ولا يترتب عليه ضرر ، بل هو مطلوب ومرغوب ، وذلك لأن النفس
يعتريها السآمة والملل ، فلا بد من فترات راحة ، وليس أدل على أهمية المزاح
والحاجة إليه ، مما كان عليه سيد الخلق وخاتم الرسل ، فقد كان صلى الله
عليه وسلم ، يمازح أصحابه ، ويداعب أهله ، وكان يعتني بصغار السن ويجعل لهم
جزءاً من وقته ، ويعاملهم بما يطيقون ويفهمون .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا ذا الأذنين) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
وأتى رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله احملني قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا حاملوك على ولد ناقة ، قال : وما أصنع بولد الناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبل إلا النوق) . رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني .
وعن أنس قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، وكان لي أخ يقال له أبو عمير ، وكان إذا جاء قال : يا أبا عمير ما فعل النغير ) رواه البخاري ومسلم . والنغير هو طائر صغير كان يلعب به .
وطعن صلى الله عليه وسلم مرة أحد أصحابه بقضيب في يده مداعبة له ، فعن أسيد بن حضير قال : (بينما
هو - يعني أسيد - يحدث القوم ، وكان فيه مزاح ، يضحكهم ، فطعنه النبي صلى
الله عليه وسلم في خاصرته بعود ، فقال : أصبرني - أي اجعلني اقتص منك - ،
فقال : اصطبر ، قال : إن عليك قميصا ، وليس علي قميص ، فرفع النبي صلى الله
عليه وسلم عن قميصه ، فاحتضنه ، وجعل يقبل كشحه - ما بين الخاصرة والضلع -
، قال إنما أردت هذا يا رسول الله) رواه أبو داود ، وصححه الألباني.
وكان يبتسم صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه ، ويسمعهم الكلام الطيب ، ويتقبل شكواهم بصدر رحب وأدب جم ، فعن جرير رضي الله عنه ، قال : (ما
حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ،
ولقد شكوت إليه إني لا أثبت على الخيل ، فضرب بيده في صدري وقال اللهم ثبته
، واجعله هاديا مهديا) . رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أقاربه ، فيأتي علياً ابن عمه وزوج ابنته ، وهو مضطجع في المسجد، بعد أن سأل عنه فاطمة رضي الله عنها ، فقالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ، فيقول له : (قم أبا التراب قم أبا التراب) . رواه البخاري ومسلم .
أما مزاحه مع أهله ، ومداعبته لزوجاته ، وبناته ، فكان لهم نصيب وافر من خلقه العظيم في هذا الجانب المهم ، فكان يسابق عائشة رضي الله عنها ، ويقر لعبها مع صواحبها فعنها رضي الله عنها قالت : (كنت
ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي) . رواه البخاري.
أما بالنسبة للصغار ، واعتنائه صلى الله عليه وسلم بهم، ومداعبته لهم ، فيظهر واضحاً جلياً فيما ورد مع الحسن والحسين رضي الله عنهما ، فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : (خرج
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء ، وهو حامل حسنا
أو حسينا ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ، ثم كبر للصلاة
فصلى ، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها ، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا
الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد ، فرجعت إلى سجودي ،
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس : يا رسول الله
إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر ، أو أنه
يوحى إليك ، قال : كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى
يقضي حاجته) . رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
ومن خلال ذلك يتبين مجال الفسحة في ديننا العظيم ، وأنه
لا تعارض بين الجد والمرح أحياناً ، وكما أن في ديننا الإسلامي غذاء
للقلوب والأرواح ، وتوجيهات لما يصلح الأجساد ، ففيه أيضاً ما يروح عن
النفوس ، ويبعث فيها الفرح والسرور.