يلحظ الناظر في شبهات المستشرقين ومن تبعهم
سياستهم في قلب الحقائق والنظر إلى الأمور بمنظار قاتم ، يُرى فيه الحق
باطلاً ، والحسن قبيحاً ، والفضيلة رذيلةً ، متوصلين بذلك إلى مأربهم
الدنيء من تشويه صورة هذا الدين وتزييف حقائقه ، وهذه هي طريقتهم المفضّلة
في حربهم على الإسلام .
وسوف نستعرض في مقالنا هذا ، نموذجا لإحدى التشويهات المتعمدة والنظرات الجائرة للتاريخ الإسلامي .
لقد حاول المستشرقون ومن تبعهم إيهام الناس
أن النبي صلى الله عليه وسلّم لجأ إلى السطو على قوافل قريش التي كانت
محمّلة بأثمن البضائع ، رغبةً منه في التوسّع المالي ، وتكديس الثروات ،
متناسين ما وُصف به النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون معه من زهدٍ
وتقشّفٍ طيلة حياتهم ، ويقول أحدهم واصفاً جيوش المؤمنين في العهد المدني
قبل غزوة بدر : " ..وبدأت هذه السرايا باعتراض قوافل قريش والسطو عليها ،
وأخذ ما أمكن من الغنائم منها " .
وللإجابة على هذه الشبهة ، ينبغي لنا أن
نعلم تداعيات الأحداث وسرد تسلسلها التاريخي كي نفهم المناخ الذي ألجأ
المسلمين إلى التعرّض لتلك القوافل ، ولأجل أن يتّضح للقاريء الكريم كيف
تُقلب الحقائق وتُسمّى بغير اسمها .
إن الوضع الذي عاش فيه المسلمون في العهد
المكيّ كان شديداً ، فقد ضُيّق عليهم من قبل صناديد قريش وكبرائها ، فقاموا
بتعذيبهم والتنكيل بهم ، ومارسوا معهم كل أساليب الاضطهاد الديني والتعذيب
الوحشيّ ، حتى فقدوا بعضهم ، وأكلوا أوراق الشجر ، وعاشوا حياةً مليئةً
بالمصاعب والآلام ، فما كان للمسلمين بدّ أن يتخلّوا عن أوطانهم وديارهم ،
فراراً بدينهم ، وطلباً لمكان يعبدون فيه ربّهم ، دون أن يتعرّض لهم أحد،
وصدق الله إذ يقول في كتابه : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ( الحج : 40 ) .
ومما يؤكد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : " كان المؤمنون يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، مخافة أن ُيفتن عليه" رواه البخاري
، وعنها أيضا : " ..وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون
من الخروج – أي : لبيعة العقبة - ، فضيّقوا على أصحابه وتعبّثوا بهم ،
ونالوا منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ؛ فشكا ذلك أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، واستأذنوه في الهجرة " رواه ابن سعد في الطبقات .
وعلى الرغم من ذلك ، لم تقف قريش مكتوفة
الأيدي ، بل قامت بالاستيلاء على جميع ممتلكات المهاجرين، واستباحت ديارهم
وأموالهم ، وليس أدل على ذلك من تجريدهم لأموال صهيب الرومي رضي الله عنه.
حتى إذا تم استقرار المسلمين في المدينة واستتبّ لهم الأمر ، أذن الله تعالى لهم بالقتال لمن ظلمهم وبغى عليهم ، قال الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا }
( الحج : 39 ) ، فأُعلنت الحرب على قُريش ورجالاتها منذ تلك اللحظة ،
ومعلوم أن الحروب تأخذ أشكالا عديدة ، يأتي في مقدّمها ما يُسمى بلغة عصرنا
: " الحرب الاقتصادية " ، فلهذا كان المسلمون يتعرّضون لقوافل قريش ،
ويقطعون طريقها .
يقول اللواء محمد جمال الدين محفوظ
: " والضغط الاقتصادي من الأساليب التي لها آثار استراتيجية في الصراع ،
وبدراسة الأعمال العسكرية التي تمت خلال العامين الأول والثاني للهجرة إلى
ما قبل غزوة بدر ، يتّضح أن هدفها الغالب هو التعرّض لقافلة قريش على طريق
تجارتها من مكة إلى الشام ، مما شكّل ضغطاً اقتصادياً على قريش التي أدركت
أن هذا الطريق أصبح محفوفاً بالمخاطر ، وخاصةً بعد أن عقد الرسول صلّى الله
عليه وسلّم الاتفاقات والمعاهدات مع القبائل العربية ، وأبلغ تعبير عن
آثار هذا الضغط الاقتصادي قول صفوان بن أميّة
لقومه : إن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا ، فما ندري كيف نصنع
بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل ، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه ،
فما ندري أين نسلك ؟ ، وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا ، لم يكن
لها من بقاء ، وإنما حياتنا بمكة على تجارة الشام في الصيف ، وإلى الحبشة
في الشتاء " أ.هـ.
ويؤكّد ما سبق ، ما رواه الإمام الطبراني
في معجمه أن أبا جهل قال في معرض كلامه عن سريّة سيف البحر : " يا معشر
قريش ، إن محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا
، فاحذروا أن تمرّوا طريقه وأن تقاربوه ، فإنه كالأسد الضاري ، إنه حنق
عليكم " ، وهكذا أعادت قريش النظر في صراعها مع المسلمين بعد تلك الضربات
الموجعة .
ولم تكن تلك الضربات هي المعتمد الإقتصادي
لدى المسلمين ، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إنشاء سوق منافسة
لسوق اليهود في المدينة ، وسرعان ما ازدهرت تلك الحركة التجارية لتصبح
مورداً قوياً لتلك الدولة الناشئة .
ثم لو كان المقصود من هذه الغارات الطمع في
التوسّع المادي المجرد من القيم الأخلاقية ، لما روى لنا التاريخ في صدره
الأول أمثلةً راقيةً لذلك الجيل ، تبيّن لنا ما وصلوا إليه من زهدٍ في
الدنيا ، وتقلّلٍ من متاعها ، ولما وجدت في تعاليم النبي صلى الله عليه
وسلّم ذمّا لها أو تحذيرا من الافتتان ببهرجها وزخارفها.
ولما تضافرت النصوص النبوية نهياً عن كل
مظاهر الإسراف والترف ، أو بياناً لعواقب المتكبّرين والمختالين ، أو
ترغيباً بالجود والعطاء ، والكرم والسخاء ، والإيثار بكل صوره .
ثم إن المسلمين قد تحقّق لهم توسعٌ أكبر في
دولتهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وصار لها ثقل اقتصادي ضخم ،
وموارد مالية عديدة ، فما زادهم إلا زهداً في الدنيا وما فيها ، وغدا
الجميع كأسرةٍ واحدة، يحنو بعضهم على بعض ، ويغيث الأخ أخاه ، ويتعاهده في
حضرته وغيبته .
ولم تقتصر هذه المظاهر الإنسانية على أبناء
ملتهم فحسب ، بل امتدّت لتشمل الآخرين من معتنقي الملل الأخرى ، وشواهد
التاريخ أعظم دليلٍ على ذلك .
فخلاصة الأمر : أن التعرض لقوافل قريشٍ كان
نوعاً من الحرب الاقتصادية عليها ، وكسراً لشوكتها ، وما ذلك إلا رغبةً في
رد حقوق المسلمين المسلوبة وأموالهم المنهوبة ، وبهذا يتقرّر لنا أن هذه
الشبهة المثارة ليس لها رصيد من الحقيقة ، ولا تجرّد من قائليها ، بل هي
انحرافٌ ظاهرٌ في تقييم الأمور وتوصيف الأحداث.