دروس من سورة الضحى الإمام ابن عثيمين |
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالاً َّ كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا.) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.) ألا وإنَّ أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أما بعد قال تعالى : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) [الضحى: 9 ، 10] . الـشـرح ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ساقه من الآيات الكريمة في باب الحنو على الفقراء واليتامى والمساكين وما أشبههم ،قال : وقول الله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) [الضحى: 6 ،11] ، الخطاب في قوله : ( أَلَمْ يَجِدْكَ ) للنبي صلى الله عليه وسلم . يقرر الله تعالى في هذه الآيات أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتيماً ، فإنه عليه الصلاة والسلام عاش من غير أم ولا أب ، فكفله جده عبد المطلب ، ثم مات هو في السنة الثامنة من عمره صلى الله عليه وسلم ، ثم كفله عمه أبو طالب . فكان يتيماً وكان صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط ، يعني على شيء يسير من الدراهم ؛ لأنه ما من نبي بعثه الله إلا ورعى الغنم ، فكل الأنبياء الذين أرسلوا أول أمرهم كانوا رعاة غنم ، من أجل أن يعرقوا ويتمرنوا على الرعاية وحسن الولاية ، واختار الله لهم أن تكون رعيتهم غنماً ؛ لأن راعي الغنم يكون عليه السكينة والرأفة والرحمة ؛ لأنه يرعى مواشي ضعيفة بخلاف رعاة الإبل ، رعاة الإبل أكثر ما يكون فيهم الجفاء والغلظة ؛ لأن الإبل كذلك غليظة قوية جبارة . فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً ، ثم إن الله سبحانه وتعالى أكرمه فيسر له زوجة صالحة ، وهي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ؛ تزوجها وله خمس وعشرون من العمر ولها أربعون سنة ، وكانت حكيمة عاقلة صالحة ، رزقه الله أولاده كلهم من بنين وبنات إلا إبراهيم فإنه من كان سريته مارية القبطية ، المهم أن الله يسرها له وقامت بشئونه ، ولم يتزوج سواها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت . أكرمه الله عز وجل بالنبوة فكان أول ما بدىء بالوحي أن يرى الرؤيا في المنام ، فإذا رأى الرؤيا في المنام جاءت مثل فلق الصبح في يومها بينة واضحة ؛ لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، فدعا إلى الله وبشر وأنذر وتبعه الناس ، وكان هذا اليتيم الذي يرعى الغنم كان إماماً لأمه هي أعظم الأمم ، وكان راعياً لهم عليه الصلاة والسلام راعياً للبشر ولهذه الأمة العظيمة . قال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) [الضحى:6] ، آواك الله بعد يتمك ، ويسر لك من يقوم بشئونك حتى ترعرعت ، وكبرت ، ومنّ الله عليك بالرسالة العظمى . ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) [الضحى:7] وجدك ضالاً : يعني غير عالم ، كما قال الله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) [العنكبوت: 48] وقال تعالى : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء: 113] ، وقال الله تعالى : ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ ) [الشورى: 52] ، ولكن صار بهذا الكتاب العظيم عالماً كامل الإيمان عليه الصلاة والسلام ، وجدك ضالاً أي غير عالم ولكنه هداك . بماذا هداه ؟ هداه الله بالقرآن . (وَوَجَدَكَ عَائِلاً ) يعني فقيراً ( فَأَغْنَى) أغناك ، وفتح الله عليك الفتوح حتى كان يقسم ويعطي الناس ، وقد أعطى ذات يوم رجلاً غنماً بين جبلين ، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة عليه الصلاة والسلام . ثم تأملوا قوله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) ما قال فآواك بل قال : ( فَآوَى ) (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) ولم يقل فهداك ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ولم يقل فأغناك . لماذا ؟ لمناسبتين ؛ إحداهما لفظية ، والثانية معنوية . أما اللفظية : فلأجل تناسب رؤوس الآيات كقوله تعالى: ( وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) [الضحى:1 ـ5] كل آخر الآيات ألفات، فقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى:6] ، لو قال فآواك اختلف اللفظ ، ووجدك ضالاً فهداك اختلف اللفظ ، ووجدك عائلاً فأغناك اختلف اللفظ ، لكن جعل الآيات كلها على فواصل حرف واحد . المناسبة الثانية معنوية : وهي أعظم ، ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) هل آواه الله وحده أو آواه وآوى أمته ؟ والجواب : الثاني ، آواه الله وآوى على يديه أمما لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ووجدك ضالاً فهدى .هل هداه وحده ؟ لا ؛ هدى به أمما عظيمة إلى يوم القيامة ، ووجدك عائلاً فأغنى . هل أغناه الله وحده ؟ لا ؛ أغناه الله وأغنى به . كم حصل للأمة الإسلامية من الفتوحات العظيمة. ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) [الفتح: 20]، فأغناهم الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم . إذاً ألم يجدك يتيماً فآواك وآوى بك ، ووجدك ضالاً فهداك وهدى بك ووجدك عائلاً فأغناك وأغنى بك ، هكذا حال الرسول عليه الصلاة والسلام . ثم قال : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) اذكر نفسك حين كنت يتيماً ، فلا تقهر اليتيم ، بل سهل أمره ؛ إذا صاح فسكته ، إذا غضب فأرضه ، إذا تعب فخفف عليه ، وهكذا . ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) السائل : يظهر من سياق الآيات أنه سائل المال الذي يقول أعطني مالاً ، فلا تنهره لأنه قال : ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ، فلما أغناك لا تنهر السائل . تذكر حالك حينما كنت فقيراً ، فلا تنهر السائل . ويحتمل أن يُراد بالسائل سائل المال وسائل العلم ، حتى الذي يسأل العلم لا تنهره . بل الذي يسأل العلم القه بانشراح صدر ؛ لأنه لولا أنه محتاج ولولا أن عنده خوف الله عز وجل ما جاء يسأل ، فلا تنهر اللهم إلا من تعنت فهذا لا حرج أن تنهره . لو كنت تخبره ثم يقول لكل شيء : لماذا هذا حرام ؟ ولماذا هذا حلال ؟ لماذا حرم الله الربا وأحل البيع ؟ لماذا حرم الله الأم من الرضاع ؟ وأشياء كثيرة من قبيل هذا . فهذا الذي يتعنت انهره ولا حرج أن تغضب عليه . كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام حين تشاجر رجل من الأنصار والزبير بن العوام ، في الوادي حيث يأتي السيل ، وكان الزبير رضي الله عنه حائطه قبل حائط الأنصاري فتنازعا ؛ الأنصاري يقول للزبير : لا تحبس الماء عني والزبير يقول : أنا أعلى فأنا أحق ، فتشاجرا وتخاصما عند الرسول عليه الصلاة والسلام ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اسق يا زبير ثم أرسله إلى جارك )) ، وهذا حكم . فقال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ! كلمة لكن الغضب حمله عليها والعياذ بالله ، والزبير بن العوام بن صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول عليه الصلاة والسلام . قال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : (( اسق يا زبير حتى يصل إلى الجدر ثم أرسله إلى جارك )) (48) فالحاصل أن السائل للعلم لا تنهره ، بل تلقه بصدر رحب وعلّمه حتى يفهم ، خصوصاً في وقتنا الآن ، فكثير من الناس الآن يسألك وقلبه ليس معك . تجيبه بالسؤال ثم يفهمه خطأ ثم يذهب يقول للناس : أفتاني العالم الفلاني بكذا وكذا ، ولهذا ينبغي ألا تطلق الإنسان الذي يسألك حتى تعرف أنه عرف . ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) نعمة الله عليك حدث بها ، قل الحمد لله ؛ رزقني الله علماً رزقني الله مالاً ، ورزقني الله ولداً وما أشبه ذلك . والتحدث بنعمة الله نوعان : تحديث باللسان ، وتحديث بالأركان . تحديث باللسان : كأن تقول : أنعم الله علي ؛ كنت فقيراً فأغناي الله ، كنت جاهلاً فعلمني الله ، وما أشبه ذلك. والتحديث بالأركان : أن ترى أثر نعمة الله عليك ، فإن كنت غنياً فلا تلبس ثياب الفقراء بل البس ثياباً تليق بك ، وكذلك في المنزل ، وكذلك في المركوب ، في كل شيء دع الناس يعرفون نعمة الله عليك ، فإن هذا من التحديث بنعمة الله عز وجل ، ومن التحديث بنعمة الله عز وجل إذا كنت قد أعطاك الله علماً أن تحدث الناس به تعلم الناس ؛ لأن الناس محتاجون . وفقني الله والمسلمين لما يحب ويرضى . من شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالي ـ لجمل كبيرة من الأحاديث الواردة في كتاب : (( رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين)) للإمام النووي ـ رحمه الله تعالي ـ . |