قصة إبراهيم خليل الرحمن
يروى أن ابراهيم عليه السلام ولد
ببابل و تزوج سارة و كانت عاقراً لا
تلد ثم ارتحل هو و وزجته سارة و ابن
أخيه لوط قاصدين أرض الكنعانيين، وهي
بلاد بيت المقدس، فأقاموا بحران
وكانوا يعبدون الكواكب السبعة.
والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على
هذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي،
ويعبدون الكواكب ولهذا كان على كل باب
من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل
بكوكب منها، ويعملون لها أعياداً
وقرابين.
وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب
والأصنام، وكل من كان على وجه الأرض
كانوا كفاراً، سوى إبراهيم الخليل،
وامرأته، وابن أخيه لوط عليهم السلام،
وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال
الله به تلك الشرور، وأبطل به ذاك
الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى أتاه
رشده في صغره، وابتعثه رسولاً، واتخذه
خليلاً في كبره قال تعالى:
{وَلَقَدْ
آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ
قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}
أي كان أهلاً لذلك.
وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن
يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص
النصيحة له، كما قال تعالى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً
نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا
يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا
يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً }.
فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من
المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه
إلى الحق بألطف عبارة، و بيـَّن له
بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان
التي لا تسمع دعاء عابدها، ولا تبصر
مكانه، فكيف تغني عنه شيئاً، أو تفعل
به خيراً من رزق أو نصر؟
ثم قال منبهاً على ما أعطاه الله من
الهدى، والعلم النافع، وإن كان أصغر
سناً من أبيه:
{يَاأَبَتِ
إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ
مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي
أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}
أي: مستقيماً، واضحاً، سهلاً، حنيفاً،
يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك،
فلما عرض هذا الرشد عليه، وأهدى هذه
النصيحة إليه، لم يقبلها منه ولا
أخذها عنه، بل تهدده وتوعده.
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ
آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}
{وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}
أي: واقطعني وأطل هجراني.
فعندها قال له إبراهيم:
{سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}
أي: لا يصلك مني مكروه، ولا ينالك مني
أذىً، بل أنت سالم من ناحيتي، وزاده
خيراً بأنى سأستغفر لك ربى الذى هداني
لعبادته والإخلاص له.
ولهذا قال:
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي
عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ
رَبِّي شَقِيّاً}
وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام
كما وعده في أدعيته، فلما تبين له أنه
عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى:
{وَمَا
كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.
ثم قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ
رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ
لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ
مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً
قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ }.
وهذه مناظرة لقومه، وبيان لهم أن هذه
الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة
لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع
الله عز وجل لأنها مخلوقة مربوبة،
مصنوعة مدبرة، مسخرة، تطلع تارة،
وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم،
والرب تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا
تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي
بلا زوال، لا إله إلا هو، ولا رب سواه
فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب.،
ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ
منها وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى
الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة
ضياءً وسناءً وبهاءً، فبين أنها
مسخرة، مسيرة مقدرة مربوبة.
والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب
لأهل حران، فإنهم كان يعبدونهاوأما
أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم
الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها
عليهم، وأهانها وبين بطلانها، كما قال
تعالى:
{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ
بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ}
وقال في سورة الأنبياء:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ
رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ
عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ
الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }
يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله
عليه السلام، أنه أنكر على قومه عبادة
الأوثان، وحقرها عندهم وصغرها
وتنقصها، فقال:
{مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي
أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
أي: معتكفون عندها وخاضعون لها.
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا
عَابِدِينَ}
ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء
والأجداد، وما كانوا عليه من عبادة
الأنداد.
وقال لهم:
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ
تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ
أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ
وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ} سلموا له أنها لا
تسمع داعياً، ولا تنفع ولا تضر شيئاً،
وإنما الحامل لهم على عبادتها
الاقتداء بأسلافهم، ومن هو مثلهم في
الضلال من الآباء الجهال.
{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي
فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ}
بل إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا
هو ربكم ورب كل شيء، فاطر السماوات
والأرض، الخالق لهما على غير مثال
سبق، فهو المستحق للعبادة وحده لا
شريك له، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
ابراهيم عليه السلام يلقى فى النار
وقوله:
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا
مُدْبِرِينَ}
أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي
يعبدونها، بعد أن تولوا مدبرين إلى
عيدهم.
قيل:
إنه قال هذا خفية في نفسه، وقال ابن
مسعود: سمعه بعضهم. وكان لهم عيد
يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر
البلد، فدعاه أبوه ليحضره فقال: إني
سقيم.
كما قال تعالى:
{فَنَظَرَ
نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ
إِنِّي سَقِيمٌ}
فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو في
بلدهم، راغ إلى آلهتهم، أي: ذهب إليها
مسرعاً مستخفياً، فوجدها في بهو عظيم،
وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من
الأطعمة قرباناً إليها.
فقال لها على سبيل التهكم والازدراء:
{أَلَا
تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا
تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ} فكسرها
بقدوم في يده كما قال تعالى:
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي:
حطاماً، كسرها كلها.
{إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}
قيل: إنه وضع القدوم في يد الكبير،
إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه
الصغار. فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا
ما حل بمعبودهم
{قَالُوا
مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا
يعقلون، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا
يعبدونها، فلو كانت آلهة لدفعت عن
أنفسها من أرادها بسوء، لكنهم قالوا
من جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة ضلالهم
وخبالهم:
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا
بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ
الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا
فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ
إِبْرَاهِيمُ} أي: يذكرها
بالعيب والتنقص لها والإزدارء بها،
فهو المقيم عليها والكاسر لها.
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى
أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَشْهَدُونَ}
أي: في الملأ الأكبر على رؤوس
الأشهاد، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون
كلامه، ويعاينون ما يحل به من
الاقتصاص منه.
وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه
السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على
جميع عبّاد الأصنام الحجة على بطلان
ما هم عليه
فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا،
{قَالُوا
أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا
يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا..}
قيل معناه: هو الحامل لي على تكسيرها،
وإنما عرض لهم في القول:
{فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا
يَنْطِقُونَ}
وإنما أراد بقوله هذا، أن يبادروا إلى
القول بأن هذه لا تنطق، فيعترفوا
بأنها جماد كسائر الجمادات.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ
فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ
الظَّالِمُونَ}
أي: فعادوا على أنفسهم بالملامة
فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، أي: في
تركها لا حافظ لها، ولا حارس عندها.
وقال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء،
أي: فأطرقوا ثم قالوا:
{لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}
أي: لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا
تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ فعند ذلك
قال لهم الخليل عليه السلام:
{قَالَ
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا
يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً
فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ *
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}
عدلوا عن الجدال والمناظرة لما
انقطعوا وغلبوا، ولم تبقَ لهم حجة ولا
شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم،
لينصروا ما هم عليه من سفههم
وطغيانهم، فكادهم الرب جل جلاله وأعلى
كلمته، ودينه وبرهانه كما قال تعالى:
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا
آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
* قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً
وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ *
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}.
وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع
ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة
يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت
إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً
لحريق إبراهيم، ثم عمدوا إلى جوبة
عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأطلقوا
فيه النار، فاضطربت وتأججت والتهبت
وعلاها شرر لم ير مثله قط.
ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة
منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال
له هزن، وكان أول من صنع المجانيق
فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها
إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدونه
ويكتفونه وهو يقول:
لا إله إلا
أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك، لا
شريك لك، فلما وضع الخليل عليه
السلام في كفة المنجنيق مقيداً
مكتوفاً، ثم ألقوه منه إلى النار قال:
حسبنا الله
ونعم الوكيل.
ابن عباس أنه قال:
حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها
إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها
محمد حين قيل له:
{إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}
عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه
وسلم:
((لما ألقي إبراهيم في النار قال:
اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في
الأرض واحد أعبدك)).
وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في
الهواء فقال: ألك حاجة؟
فقال: أما إليك فلا.
ويروى عن ابن عباس، أنه قال:
جعل ملك المطر يقول: متى أومر فأرسل
المطر؟ فكان أمر الله أسرع.
{قُلْنَا
يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً
عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
قال ابن عباس وأبو العالية:
لولا أن الله قال:
{وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
لأذى إبراهيم بردها.
وقال كعب الأحبار:
لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم
يحرق منه سوى وثاقه.
وقال الضحاك:
يروى أن جبريل عليه السلام كان معه
يمسح العرق عن وجهه، لم يصبه منها شيء
غيره.
وقال السدي:
كان معه أيضاً ملك الظل، وصار إبراهيم
عليه السلام في ميل الجوبة حوله
النار، وهو في روضة خضراء، والناس
ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول
إليه، ولا هو يخرج إليهم، فعن أبي
هريرة أنه قال: أحسن كلمة قالها أبو
إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك
الحال: نعم الرب ربك يا إبراهيم.
وعن المنهال بن عمرو أنه قال:
أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين
وإما خمسين يوماً، وأنه قال: ما كنت
أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت
فيها، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل
إذ كنت فيها، صلوات الله وسلامه عليه.
مناظرة إبراهيم الخليل مع النمرود
هذه هى مناظرة إبراهيم الخليل مع من
أراد أن ينازع العظيم الجليل في
العظمة ورداء الكبرياء فادعى
الربوبية، وهوَ أحدُ العبيد الضعفاء
قال الله تعالى:
{أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ}.
يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك
الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه
الربوبية، فأبطل الخليل عليه دليله،
وبين كثرة جهله، وقلة عقله، وألجمه
الحجة، وأوضح له طريق المحجة.
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب
والأخبار، وهذا الملك هو ملك بابل،
واسمه النمرود بن كنعان وذكروا أن
نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة
سنة، وكان طغى وبغى، وتجبر وعتا، وآثر
الحياة الدنيا.
ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة
الله وحده لا شريك له حمله الجهل
والضلال على إنكار وجود الله تعالى،
فحاجّ إبراهيم الخليل في ذلك وادعى
لنفسه الربوبية.
فلما قال الخليل: (ربي الذي يحي ويميت
قال: أنا أحي وأميت).
يعني أنه إذا آتى بالرجلين قد تحتم
قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا
عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات
الآخر.
قَال:
{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ
مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ
الْمَغْرِبِ} أي هذه الشمس
مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما
سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها. وهو
الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء. فإن
كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت
فأت بهذه الشمس من المغرب فإنّ الذي
يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا
يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء،
ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم
فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما
زعمت، وأنت تعلم وكل أحد، أنك لا تقدر
على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من
أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها.
فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه،
وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة
قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به
بل انقطع وسكت. ولهذا قال:
{فَبُهِتَ
الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
قال زيد بن أسلم:
وبعث الله إلى ذلك الملك الجبّار
ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبى
عليه. ثم دعاه الثانية فأبى عليه. ثم
دعاه الثالثة فأبى عليه.
وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي.
فجمع النمرود جيشه وجنوده، وقت طلوع
الشمس فأرسل الله عليه ذباباً بحيث لم
يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم،
فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاماً
باديةً، ودخلت واحدةٌ منها في منْخَر
الملكِ فمكثت في منخره أربعمائة سنة،
عذبه الله تعالى بها فكان يُضْرَبُ
رأسُه بالمرِازب في هذه المدة كلها
حتى أهلكه الله عز وجل بها.
هجرة الخليل عليه السلام إلى بلاد
الشام، ودخوله مصر
قال الله:
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي
مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ
الصَّالِحِينَ}.
لما هجر قومه في الله وهاجر من بين
أظهرهم وكانت امرأته عاقراً لا يولد
لها، ولم يكن له من الولد أحد بل معه
ابن أخيه لوط ، وهبه الله تعالى بعد
ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته
النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو
من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على
نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد
نسله وعقبه، كرامة له من الله، حين
ترك بلاده وأهله وأقرباءه، وهاجر إلى
بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل،
ودعوة الخلق إليه.
والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام،
وهي التي قال الله عز وجل:
{إِلَى
الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
لِلْعَالَمِينَ}.
وقوله في الحديث "هي
أختي"، أي في دين الله،
وقوله لها: إنه ليس على وجه الأرض
مؤمن غيري وغيرك يعني زوجين مؤمنين
غيري وغيرك
وقوله لها لما رجعت إليه:
مَهْيَمْ؟
معناه ما الخبر؟ فقالت: إن الله رد
كيد الكافرين. وفي رواية الفاجر. وهو
الملك، وأخدم جارية.
وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب
بها إلى الملك قام يصلي لله عز وجل
ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس
هذا الذي أراد أهله بسوء، وهكذا فعلت
هي أيضاً، فلما أراد عدو الله، أن
ينالَ منها أمراً قامت إلى وضوئها
وصلاتها، ودعت الله عز وجل بما تقدم
من الدعاء العظيم، ولهذا قال تعالى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ} فعصمها الله
وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه
وخليله إبراهيم عليه السلام.
ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد
مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض
المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام
وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر
المصرية.
ثم إن لوطاً عليه السلام نزح بماله من
الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في
ذلك إلى أرض الغور، المعروف بغور زغر
فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد
في ذلك الزمان، وكان أهلها أشراراً
كفاراً فجاراً.
مولد إسماعيل عليه السلام مِنْ هاجر
قال أهل الكتاب: إن إبراهيم عليه
السلام سأل الله ذرية طيبة، وان الله
بشَّره بذلك، وأنه لما كان لإبراهيم
ببلاد المقدس عشرون سنة، قالت سارة
لإبراهيم عليه السلام، إن الرب قد
حرمني الولد، فادخل على أمتي هذه، لعل
الله يرزقني منها ولداً.
فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه
السلام، فحين دخل بها حملت منه،
قالوا: فلما حملت ارتفعت نفسها،
وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة
قالوا: وولدت هاجر اسماعيل ولإبراهيم
من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد
إسحاق بثلاث عشرة سنة.
غير أن هاجر عليها السلام لما ولد لها
إسماعيل واشتدت غيرة سارة منها، طلبت
من الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب
بها وبولدها فسارَ بهما حتى وضعهما
حيث مكة اليوم.
مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه
هاجر إلى أرض مكّة
عن ابن عباس قال:
"أول ما
اتخذ النساء المنطق من قبل أم
إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفى أثرها
على سارة".
ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل
وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند
دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس
بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما
هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر،
وسقاء فيه ماء.
ثم قفّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم
إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب
وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس
ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً؛ وجعل
لا يلتفت إليها،
فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت: إذا لا يضيعنا. ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند
الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه
البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع
يديه فقال:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ
مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ}.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب
من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في
السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر
إليه يتلوى،أو يتلبط، فانطلقت كراهية
أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في
الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت
الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر
أحداً ..
فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن
الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي
الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي،
ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل
ترى أحداً؟ فلم تر أحداً ففعلت ذلك
سبع مرات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم
"فلذلك سعى الناس بينهما".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً
فقالت: صه، تريد نفسها.
ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد
أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي
بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو
قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت
تحوضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف
من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما
تغرف.
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه
وسلم "يرحم
الله أم إسماعيل لو تركت زمزم".
أو قال:
"لو لم
تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً
مَعِيْناً".
فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك:
لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيتاً لله
يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا
يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً من الأرض
كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن
يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت
بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من
جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في
أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً،
فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على
الماء،لعهدنا بهذا الوادي وما فيه
ماء، فأرسلوا جريا أو جرييّن فإذا هم
بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء،
فأقبلوا.
قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا:
أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم
ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا.
قالوا: نعم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى
ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس،
فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا
معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم.