لعل السمة العامة البارزة لآخر الزمان هو الخروج عن المألوف، ومخالفة المعهود الذي اعتاد الناس حصوله واعتبروه نمطاً من أنماط الحياة، ويمكن إدراك هذه المخالفة حين تُراجع النصوص النبويّة التي تصف أحداث المستقبل، وهذا الاختلاف الحاصل هو أمرٌ حتمي تتطلّبه طبيعة آخر الزمان، فالتغيّرات الحاصلة فيه هي التي ستشكّل العلامة على قرب نهاية الدنيا وقيام الساعة.
وبنظرةً سريعةٍ إلى كلّ ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من علامات الساعة وأشراطها، سنجد من بينها الكثير من الأمور والأحداث التي تشكّل علامةً فارقةً تدلّ على الاضطراب والاختلال، كمثل الحديث عن كثرة الزلازل وانتشار الفتن بأنواعها، وشيوع القتل والهرج، وتقارب الأسواق، ووقوع التناكر بين الناس، وقل مثل ذلك عن انتفاخ الأهلّة، وضياع الأمانة، وظهور الجهل، وقلّة العمل.
ولن يختلف الحال هنا عند الحديث عن أحد تلك الاضطرابات والاختلالات الاجتماعيّة في المجال الأسري، والذي جاءت الإشارة إليه في حديث جبريل عليه السلام، ونصّه كما جاء في صحيح مسلم: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه....-ثم سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان- ثم قال: فأخبرني عن الساعة، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أمارتها، قال عليه الصلاة والسلام: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، قال: ثم انطلق فلبثت مليّاً، ثم قال لي: (يا عمر أتدري من السائل؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
(أن تلد الأمة ربتها) هذا هو محور حديثنا هنا، ودواعي البحث والبيان تقتضي ذكر جميع الروايات التي تطرّقت إلى ذكر هذه المسألة، وهي: (إذا ولدت الأمة ربها) كما جاء في صحيح البخاري، و(إذا ولدت الأمة بعلها) في صحيح مسلم.
أما الأمة فهي المرأة المملوكة خلاف الحرة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ربّها) فهو سيدها ومالكها، والرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، وعلى هذا يكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ربّتها) سيدتها أو المنعمة عليها، وأما (بعلها) فالبعل هو الزوج، ومنه قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا} (النساء: 128).
إذا كان الأمر كذلك، وعرفنا المعنى اللغوي لتلك المفردات الواردة في الروايات المختلفة، فما معنى قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أن تلد الأمة ربتها)؟
في الواقع لقد ذكر علماء العقيدة وشرّاح الحديث عدّة معانٍ يمكن تلخيصها فيما يلي:
القول الأوّل: وهو ما ذكره الخطابي والنووي وغيرهما، أن المقصود هو اتساع رقعة الإسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربِّها –أي مالكها- لأنه ولد سيّدها، وملك الأب راجع في التقدير إلى الولد.
وعلى الرغم من كون هذا القول هو قول الأكثرين إلا أن الإمام ابن حجر قد تعقّب هذا القول، معلّلاً ذلك بقوله: " لكن في كونه المراد نظر لأن استيلاد الإماء كان موجودا حين المقالة والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة".
القول الثاني: أن تبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد أو الاستهانة بالأحكام الشرعية.
القول الثالث: أن تلد الأمة من غير سيّدها، ولكن على نحوٍ لا تُصبح فيه أمّ ولد، ثم يكون ولدها حرّاً، وضربوا لذلك عدّة صورٍ معروفةٍ في كتب الفقه، وهي: وطء الشبهة، ونكاح الرقيق، اولإتيان بالولد عن طريق الزنا، وبعد ذلك كلّه: تُباع تلك الأمة بيعاً صحيحاً، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها الذي كان حرّاً من قبلها، فتتحقّق صورة أن الأمة قد ولدت سيّدها أو سيّدتها.
القول الرابع: أن تلد الأمة ولداً يُعتق بعدها، ثم يصير هذا الولد ملكاً من الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية، والملك سيّداً لرعيّته، وهذا هو قول إبراهيم الحربي، وقد علّله بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالباً من وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر بعد ذلك، وقد تعقّب الحافظ ابن حجر هذا القول بأن رواية: (ربّتها) بتاء التأنيث قد لا تساعد على هذا المعنى.
القول الخامس: أن تلد الأمة زوجها، ووجه ذلك: أن السبي إذا كثر فقد يُسبى الولد أولاً وهو صغير، ثم يُعتق ويكبر ويصير رئيساً بل ملكاً، ثم تُسبى أمه فيما بعد، فيشتريها وهو لا يشعر أنها أمّه، فيستخدمها أو يتّخذها موطوءة، أو يعتقها ويتزوجها، دون أن يعلم أنها أمّه، وقد تُعقّب هذا القول بأن المراد بالبعل: المالك، وهو أولى لتتفق الروايات، واللغة تشهد بصحّة الإطلاق، فإنهم يذكرون أن بعض العرب قد ضلت ناقته، فجعل ينادي بالناس: "من رأى ناقةً أنا بعلها" أي صاحبها ومالكها.
القول السادس: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربّها مجازاً، لذلك أو المراد بالرب: المربي فيكون حقيقة.
يقول الحافظ: "وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالةً تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة، ومحصّله: الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير المربَّى مُربّياً، والسافل عالياً".
وعلى أية حال فالصور السابقة جميعها قد حدثت وإن كانت قليلة، ومجرّد حدوثها دالّةٌ على صدق من أخبر بها، وفي زماننا هذا رأينا مصداق القول الذي انتصر له الحافظ رحمه الله، فعقوق الأمهات قد انتشر على نحوٍ مثيرٍ للأسى، واستطالة الأبناء على أمهاتهم وتعاملهم معها تعامل المخدوم مع خادمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن اللافت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في سياق هذه العلامة قد عبّر بقوله: (ربّها أو ربّتها)، ولعل البعض يستشكل ذلك في ضوء النهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي) متفق عليه، والجواب أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى والذي جاء النهي عنها في الحديث إنما كان لأجل الإضافة إلى ضمير المخاطب، بما يوهم معنى فاسداً بالنسبة لكلمة رب، بخلاف الإضافة إلى ضمير الغائب كما هو في حديث جبريل عليه السلام.
ونذيّل المقال بفائدة ذكرها الإمام النووي في معرض شرحه للحديث، حيث قال: "ليس في الحديث دليلٌ على تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا على جوازه! وقد غلط من استدل به لكلٍ من الأمرين؛ لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة".
وبنظرةً سريعةٍ إلى كلّ ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من علامات الساعة وأشراطها، سنجد من بينها الكثير من الأمور والأحداث التي تشكّل علامةً فارقةً تدلّ على الاضطراب والاختلال، كمثل الحديث عن كثرة الزلازل وانتشار الفتن بأنواعها، وشيوع القتل والهرج، وتقارب الأسواق، ووقوع التناكر بين الناس، وقل مثل ذلك عن انتفاخ الأهلّة، وضياع الأمانة، وظهور الجهل، وقلّة العمل.
ولن يختلف الحال هنا عند الحديث عن أحد تلك الاضطرابات والاختلالات الاجتماعيّة في المجال الأسري، والذي جاءت الإشارة إليه في حديث جبريل عليه السلام، ونصّه كما جاء في صحيح مسلم: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه....-ثم سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان- ثم قال: فأخبرني عن الساعة، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أمارتها، قال عليه الصلاة والسلام: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، قال: ثم انطلق فلبثت مليّاً، ثم قال لي: (يا عمر أتدري من السائل؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
(أن تلد الأمة ربتها) هذا هو محور حديثنا هنا، ودواعي البحث والبيان تقتضي ذكر جميع الروايات التي تطرّقت إلى ذكر هذه المسألة، وهي: (إذا ولدت الأمة ربها) كما جاء في صحيح البخاري، و(إذا ولدت الأمة بعلها) في صحيح مسلم.
أما الأمة فهي المرأة المملوكة خلاف الحرة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ربّها) فهو سيدها ومالكها، والرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، وعلى هذا يكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ربّتها) سيدتها أو المنعمة عليها، وأما (بعلها) فالبعل هو الزوج، ومنه قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا} (النساء: 128).
إذا كان الأمر كذلك، وعرفنا المعنى اللغوي لتلك المفردات الواردة في الروايات المختلفة، فما معنى قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أن تلد الأمة ربتها)؟
في الواقع لقد ذكر علماء العقيدة وشرّاح الحديث عدّة معانٍ يمكن تلخيصها فيما يلي:
القول الأوّل: وهو ما ذكره الخطابي والنووي وغيرهما، أن المقصود هو اتساع رقعة الإسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربِّها –أي مالكها- لأنه ولد سيّدها، وملك الأب راجع في التقدير إلى الولد.
وعلى الرغم من كون هذا القول هو قول الأكثرين إلا أن الإمام ابن حجر قد تعقّب هذا القول، معلّلاً ذلك بقوله: " لكن في كونه المراد نظر لأن استيلاد الإماء كان موجودا حين المقالة والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة".
القول الثاني: أن تبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد أو الاستهانة بالأحكام الشرعية.
القول الثالث: أن تلد الأمة من غير سيّدها، ولكن على نحوٍ لا تُصبح فيه أمّ ولد، ثم يكون ولدها حرّاً، وضربوا لذلك عدّة صورٍ معروفةٍ في كتب الفقه، وهي: وطء الشبهة، ونكاح الرقيق، اولإتيان بالولد عن طريق الزنا، وبعد ذلك كلّه: تُباع تلك الأمة بيعاً صحيحاً، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها الذي كان حرّاً من قبلها، فتتحقّق صورة أن الأمة قد ولدت سيّدها أو سيّدتها.
القول الرابع: أن تلد الأمة ولداً يُعتق بعدها، ثم يصير هذا الولد ملكاً من الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية، والملك سيّداً لرعيّته، وهذا هو قول إبراهيم الحربي، وقد علّله بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالباً من وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر بعد ذلك، وقد تعقّب الحافظ ابن حجر هذا القول بأن رواية: (ربّتها) بتاء التأنيث قد لا تساعد على هذا المعنى.
القول الخامس: أن تلد الأمة زوجها، ووجه ذلك: أن السبي إذا كثر فقد يُسبى الولد أولاً وهو صغير، ثم يُعتق ويكبر ويصير رئيساً بل ملكاً، ثم تُسبى أمه فيما بعد، فيشتريها وهو لا يشعر أنها أمّه، فيستخدمها أو يتّخذها موطوءة، أو يعتقها ويتزوجها، دون أن يعلم أنها أمّه، وقد تُعقّب هذا القول بأن المراد بالبعل: المالك، وهو أولى لتتفق الروايات، واللغة تشهد بصحّة الإطلاق، فإنهم يذكرون أن بعض العرب قد ضلت ناقته، فجعل ينادي بالناس: "من رأى ناقةً أنا بعلها" أي صاحبها ومالكها.
القول السادس: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربّها مجازاً، لذلك أو المراد بالرب: المربي فيكون حقيقة.
يقول الحافظ: "وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالةً تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة، ومحصّله: الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير المربَّى مُربّياً، والسافل عالياً".
وعلى أية حال فالصور السابقة جميعها قد حدثت وإن كانت قليلة، ومجرّد حدوثها دالّةٌ على صدق من أخبر بها، وفي زماننا هذا رأينا مصداق القول الذي انتصر له الحافظ رحمه الله، فعقوق الأمهات قد انتشر على نحوٍ مثيرٍ للأسى، واستطالة الأبناء على أمهاتهم وتعاملهم معها تعامل المخدوم مع خادمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن اللافت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في سياق هذه العلامة قد عبّر بقوله: (ربّها أو ربّتها)، ولعل البعض يستشكل ذلك في ضوء النهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي) متفق عليه، والجواب أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى والذي جاء النهي عنها في الحديث إنما كان لأجل الإضافة إلى ضمير المخاطب، بما يوهم معنى فاسداً بالنسبة لكلمة رب، بخلاف الإضافة إلى ضمير الغائب كما هو في حديث جبريل عليه السلام.
ونذيّل المقال بفائدة ذكرها الإمام النووي في معرض شرحه للحديث، حيث قال: "ليس في الحديث دليلٌ على تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا على جوازه! وقد غلط من استدل به لكلٍ من الأمرين؛ لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة".