أولًا: الخطبة للعباسيين وقطعها
لقد شكَّل قيام الإمارة الأموية في الأندلس (138هـ=755م) انفصال هذا الجزء عن الخلافة العباسية سياسيًّا، لقد وردت أخبارٌ كثيرةٌ ومختلفة عن علاقة الأمويين (والداخل بالذات) بالخلافة العباسية؛ فقد جاءت رواية أكَّدت أنَّ الأمراء الأمويِّين كانوا يدعون ويخطبون للعباسيِّين بدءًا من الداخل، إلى أن جاء الناصر فأبطل ذلك؛ حيث "تسمَّى الخليفة أمير المؤمنين وخطب لنفسه، وكان مَنْ تقدَّمَهُ من آبائه يخطبون لبني العباس". إلَّا أنَّ هذه الرواية لا نستطيع التسليم بها؛ إذ لم تُعاضدها روايات أخرى من مصادر أندلسيَّة أو غير أندلسيَّة، فهذه الرواية ليس لها ما يدعمها تاريخيًّا.
في حين يذكر ابن عذاري أنَّ عبد الرحمن الداخل لم يخطب للعباسيين نهائيًّا؛ إذ "خرج عبد الرحمن طالبًا الفهري والصميل وأعطاهم الأمان، واستوثق الأمر للأمير عبد الرحمن وأمر بلعن المسودة وقطع الدعاء لأبي جعفر المنصور". وهذه الرواية -أيضًا- لم نستطع التسليم بها؛ إذ إنَّها جاءت متفرِّدة، بالإضافة إلى كونها جاءت بأخبار غريبة؛ إذ ليس هناك ما يدلُّ على أنَّ عبد الرحمن لعن أو أمر بلعن العباسيين، فتخلو هذه الرواية من الدقَّة ممَّا يجعلنا نستضعفها.
وقد مال بعض الباحثين المحدثين إلى الرواية القائلة: "إنَّ عبد الرحمن لم يخطب للعباسيين نهائيًّا مستبعدين اللعن". مستدلِّين على ذلك بالمذابح التي رآها عبد الرحمن تجاه أفراد البيت الأموي من قِبَل العباسيين، خصوصًا وأنَّ أخاه الصغير قُتِلَ أمامه، بالإضافة إلى المضايقات التي واجهها الداخل منذ هروبه حتى دخوله الأندلس، وتذكر روايةٌ أخرى أنَّ الداخل خطب دون السَّنَة للعباسيين: "يُقال إنَّه أقام أشهرًا دون السنة يدعو إلى أبي جعفر المنصور". ويُورد المقري وابن خلدون أسبابًا دعت عبد الرحمن إلى قطع الخطبة للعباسيين، منها: "وفد عليه جماعةٌ من أهل بيته من الشرق، فقطع دعوته".
ويُحدِّد صاحب (الكامل في التاريخ) وصول "عبد الملك بن عمر بن مروان الذي سبب قطع الدعوة العباسية" عندما ذكره بعمل العباسيين تجاه أهله وأقربائه من بني أمية، وعندما امتنع عبد الرحمن عن ذلك، قال له عبد الملك: "إن لم تقطع الخطبة عنهم قتلت نفسي". ولكن الواضح من دراسة النصوص أنَّ عبد الرحمن الداخل قطع الخطبة قبل وصول عبد الملك بن عمر إلى الأندلس؛ إذ إنَّها ذكرت أنَّ الداخل خطب للعباسيين دون السنة؛ أي منذ دخوله قرطبة (ذو الحجة 138هـ=755م)، فمعنى هذا أنَّه قطع الخطبة في بداية (139هـ=756م)، والمصادر تذكر صراحةً أنَّ عبد الملك المذكور دخل الأندلس في (140هـ=757م و758م)، ممَّا يجعلنا نستبعد ونضعف الرأي القائل: إنَّ دخول عبد الملك دفع الداخل إلى قطع الخطبة للعباسيين.
وأُرجِّح الروايات التي تذكر أنَّ الداخل خطب للعباسيين فترةً قصيرةً (دون السنة) ثم قطع خطبته لهم، وأميل -أيضًا- إلى السبب الذي ذكره ابن خلدون؛ حيث ذكر دافع الداخل إلى قطع الخطبة للعباسيين وهو "أنَّه كان يدعو للمنصور، ثم قطعها لمـَّا تمَّ له الملك بالأندلس ومهَّد أمرها". وأستند في ترجيحي المذكور إلى ما يأتي: أنَّ الأمير عبد الرحمن الداخل سياسيٌّ بارع؛ بدليل شهادة شيخ مؤرِّخي الأندلس ابن حيان صاحب كتاب (المقتبس من أبناء أهل الأندلس): "كان عبد الرحمن راجح الحلم، فاسح العلم، ثابت الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة".
فعمد منذ دخوله قرطبة ونجاحه في إقامة الإمارة الأموية إلى مراعاة شعور الناس والرأي العام، "خاصَّةً في مسألة الخطبة للعباسيين وعدم تلقُّبه بلقب أمير المؤمنين؛ بل لُقِّب بالأمير وابن الخلائف". خصوصًا وأنَّ الظروف المحيطة به كانت متوتِّرة، حيث:
1- إنَّ قيام الخلافة العباسية كانت قد وصلت إلى مسامع الأندلسيين، فلم يرغب أن يقوم بعملٍ لا يعلم عواقبه؛ حيث لم يعتد الناس على الانفصال عن الخلافة ولم يشع ذلك بينهم.
2- كان رجلًا غريبًا عن الأندلس ولم يعرف بعد طبيعة تفكير أهلها.
3- كانت الأندلس عند دخوله تموج بالفتن والاضطرابات، فلم يرغب بمواجهة العباسيين حتى يستقرَّ على ملكه، فجعل جلَّ اهتمامه نحو الاضطرابات محاولًا تهدئتها والقضاء عليها، وبالفعل حقَّق الاستقرار النسبي وبفترةٍ وجيزة؛ حيث "استسلم الثوار عليه عن كثرتهم في النواحي". فقضى على معظم الاضطرابات فيها، وليس هناك أدلُّ من هذا على براعته السياسيَّة.
فعزم الداخل على قطع صلة الأندلس الرسميَّة بالخلافة العباسيَّة، "فدعا الداخل لنفسه عند استغلاظ أمره واستقرار ملكه، ورغب في أن يُخلِّد لبني مروان السلطان بها، وجدَّد ما طُمِسَ لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها". فمن هنا نستطيع القول: إنَّ الأمير عبد الرحمن الداخل لم يعترف بسلطان العباسيين منذ تأسيس إمارته إلَّا لفترةٍ قصيرةٍ اضطرته الظروف السياسيَّة إلى ذلك. وبالمقابل كان الخليفة العباسي يعتبر الأمير عبد الرحمن خارجًا عن طاعته، والملاحظ أنَّ قطع الخطبة للعباسيين قطع اتصالات الأندلس بالخلافة سياسيًّا وإداريًّا، ولكنَّها لم تنقطع عنها في مجالات الحياة الأخرى، مثل: طلب العلم، الحج، التجارة، وغيرها؛ بسبب قيام واستمرار العلاقة الوضَّاءة الفريدة بينهم، وهي رابطة العقيدة الإسلامية.
ثانيًا: إعلان الخلافة الأموية في الأندلس (316هـ=929م)
إنَّ عبد الرحمن الداخل ومنذ نجاحه في إقامة الإمارة الأموية في الأندلس لم يتلقَّب بلقب أمير المؤمنين؛ وإنَّما لُقِّب بـ "الأمير"، وكذلك بـ "ابن الخلائف". وعلى هذا سار بنوه من بعده إلى أن جاء عبد الرحمن الناصر الذي استمرَّ يتلقَّب بالأمير للفترة من 300 إلى 316هـ، وبعد ذلك لُقِّب أمير المؤمنين، وأعلن الخلافة الأموية في الأندلس.
نستطيع أن نعرج على الظروف التي أحاطت بالأمير الداخل وخلفائه إلى عهد الناصر وحالت دون إعلانهم الخلافة، ومنها:
1- عدم رغبة الداخل وخلفائه من بعده إلى عهد الناصر القيام بعملٍ يُثير عليهم بشكلٍ مباشر الخلافةَ العباسية التي كانت في أوج قوتها، وربَّما لم يكن هذا اللقب ضمن طموحات الداخل وخلفائه قطعًا، بالإضافة إلى خشيتهم من تقسيم العالم الإسلامي.
2- إنَّ ظروف العالم الإسلامي كانت تشهد قيام إمارات متعدِّدة منفصلة أو متَّصلة بالخلافة العباسية، ولكنَّها إلى ذلك الوقت لم تشهد ظهور خلافة إسلامية ثانية، وظلَّت الخلافة العباسية تُحافظ على سلطانها على العالم الإسلامي.
3- عدم استعداد المسلمين في هذه المرحلة لتقبُّل قيام أكثر من خلافة إلى جانب الخلافة العباسية القوية؛ والداخل على الرغم من حزمه وطموحه، كان يميل إلى مراعاة شعور الناس الذين كانوا ينظرون بأحقيَّة الخلافة إلى من بيده الحرمان الشريفان (مكة والمدينة)، فلم يقدم الداخل على إعلان الخلافة؛ "تأدُّبًا مع الخلافة بمقرِّ الإسلام ومنتدى العرب".
إعلان عبد الرحمن الناصر الخلافة بالأندلس
ولكن في عهد الناصر استجدَّت ظروف سمحت له بالتلقُّب بأمير المؤمنين وإعلان الخلافة الأموية، وقد أصدر كتابًا للأمَّة يُبيِّن فيه أحقيَّته بالخلافة، وبرَّر فيه أسباب تلقُّبه بأمير المؤمنين، ويُمكن إجمال أسباب إعلان الناصر الخلافة الأموية سنة 316هـ بما يأتي:
1- ما بلغته الأندلس في عهده (300-350هـ=913-961م) من قوَّةٍ وازدهارٍ وتماسك؛ حيث كان لعبد الرحمن بن محمد بن عبد الله (الناصر) دورٌ كبيرٌ في ما وصلت إليه الأندلس، وبما يملكه من قدرةٍ إداريَّةٍ وبراعةٍ سياسيَّة، فنجح في القضاء على الفتن والاضطرابات، وقضى على المتمرِّدين الخارجين على سلطان الإمارة، ووضع حدًّا لتحرُّشات الدول الإسبانيَّة على الأندلس، وتأكيدًا لقوَّة الأندلس هذه على الصعيدين الداخلي والخارجي رأى من المناسب إعلان الخلافة.
2- كانت ظروف العالم الإسلامي تسمح له بمثل هذا العمل؛ إذ لم تعد تلك النظرة المقدَّسة للخلافة العباسية من قِبَلِ الناس، خصوصًا بعد ضعفها وقلَّة هيبتها لكثرة الإمارات المنفصلة عن الخلافة في المشرق والمغرب؛ إذ لم يعد للخليفة العباسي سلطانًا كاملًا حتى على المناطق القريبة من بغداد، وممَّا قلَّل هيبة الخلافة أكثر بالإضافة إلى ضعفها، هيمنة العنصر الأجنبي المتمثِّل بالأتراك على مقدَّرات الخلافة؛ فإنَّه "عندما التاب أمر الخلافة بالمشرق، واستبدَّ موالي الترك على بني العباس، وبلغه أنَّ المقتدر قتله مؤنس المظفَّر مولاه سنة 317هـ، فتلقَّب بألقاب الخلافة".
3- ظهور الدولة الفاطمية التي أعلنت الخلافة على الرغم من مجيئها بعد الدولة الأموية في الأندلس، وانتشر لها دعاةٌ في المغرب محاولين جعل المغرب الإسلامي خاضعًا بأكمله لهم، الأمر الذي أقلق الناصر فعزم على التصدِّي لهم على محورين: الأول عسكري؛ من خلال إرساله أسطولًا بحريًّا إلى سبتة فاستولى عليها، فدفع أمراء البربر من الأدارسة وزناتة إلى مهادنته وطاعته، فامتدَّ نفوذه إلى فاس. والمحور الثاني كان على الصعيد السياسي؛ حيث تلقَّب بأمير المؤمنين معلنًا الخلافة الأمويَّة في الأندلس.
4- استهدف عبد الرحمن الناصر إعطاء قرطبة دورًا أكثر مركزيَّة، بحيث تشتدُّ قبضتها على أطراف الدولة، وإعطائها سعةً أكبر خصوصًا بعد استقرارها في عهده، وبلوغها درجةً عاليةً من الازدهار الفكري والعلمي والمعماري والسياسي.
5- طموح عبد الرحمن الناصر الشخصي في بعث الخلافة الأمويَّة مجدَّدًا، بالإضافة إلى كونه "أعظم بني أميَّة بالمغرب سلطانًا، وأفهمهم في القديم والحديث شأنًا" .
خلاصة
لقد توصلنا في بحثنا إلى جملةٍ من الاستنتاجات يُمكن إجمالها بما يأتي:
1- نجاح الأمير عبد الرحمن الداخل في هروبه من العباسيين على أثر سقوط الدولة الأموية في بلاد الشام، وتحمُّله الصعاب والمشاق في هروبه، وتمكُّنه أخيرًا من النجاح بإقامة إمارة أموية بالأندلس- كل ذلك يعكس الجرأة والشجاعة والقدرة على التحمُّل والصبر الذي يتمتَّع به عبد الرحمن الداخل.
2- كان لظروف الأندلس وأحوالها قبيل وصول الداخل دورًا في نجاحه، ويظهر استقرار أوضاع الأندلس في ظلِّ الإمارة الأموية دورُ هذه الإمارة في الحفاظ على الوجود العربي الإسلامي في الأندلس وإعادة وحدتها وتماسكها.
3- كان الداخل سياسيًّا بارعًا؛ فبعد نجاحه في إقامة الإمارة الأموية في الأندلس، أقدم على الخطبة للعباسيِّين ريثما تستقرُّ أوضاع الأندلس ويستقرُّ ملكه، ومِنْ ثَمَّ قَطَعَ خطبته للعباسيين بعد ذلك.
4- كان قيام الخلافة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر سنة (316 هـ=928م) معلنًا عن خلافةٍ عربيَّةٍ إسلاميَّةٍ ثالثة في العالم العربي الإسلامي بعد الخلافة العباسيَّة في العراق والخلافة الفاطميَّة في مصر، وكان إعلان الخلافة الأموية يعني انفصال الأندلس كليًّا عن الخلافة العباسية.
5- ظلَّ الترابط بين الأندلس والعالم الإسلامي مستمرًا، على الرغم من توتر العلاقات السياسية، فظلت رحلات الحج وطلب العلم، واستمرَّت العلاقات التجاريَّة قائمة، وكان هذا الاستمرار في الترابط بفعل العقيدة الإسلامية التي ينعم بها العالم الإسلامي.
_____________
المصدر: العلاقة بين أمويِّي الأندلس والخلافة العباسية، الدكتور خالد إسماعيل نايف الحمداني، كلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي، مجلة التاريخ العربي.
قصة الإسلام
لقد شكَّل قيام الإمارة الأموية في الأندلس (138هـ=755م) انفصال هذا الجزء عن الخلافة العباسية سياسيًّا، لقد وردت أخبارٌ كثيرةٌ ومختلفة عن علاقة الأمويين (والداخل بالذات) بالخلافة العباسية؛ فقد جاءت رواية أكَّدت أنَّ الأمراء الأمويِّين كانوا يدعون ويخطبون للعباسيِّين بدءًا من الداخل، إلى أن جاء الناصر فأبطل ذلك؛ حيث "تسمَّى الخليفة أمير المؤمنين وخطب لنفسه، وكان مَنْ تقدَّمَهُ من آبائه يخطبون لبني العباس". إلَّا أنَّ هذه الرواية لا نستطيع التسليم بها؛ إذ لم تُعاضدها روايات أخرى من مصادر أندلسيَّة أو غير أندلسيَّة، فهذه الرواية ليس لها ما يدعمها تاريخيًّا.
في حين يذكر ابن عذاري أنَّ عبد الرحمن الداخل لم يخطب للعباسيين نهائيًّا؛ إذ "خرج عبد الرحمن طالبًا الفهري والصميل وأعطاهم الأمان، واستوثق الأمر للأمير عبد الرحمن وأمر بلعن المسودة وقطع الدعاء لأبي جعفر المنصور". وهذه الرواية -أيضًا- لم نستطع التسليم بها؛ إذ إنَّها جاءت متفرِّدة، بالإضافة إلى كونها جاءت بأخبار غريبة؛ إذ ليس هناك ما يدلُّ على أنَّ عبد الرحمن لعن أو أمر بلعن العباسيين، فتخلو هذه الرواية من الدقَّة ممَّا يجعلنا نستضعفها.
وقد مال بعض الباحثين المحدثين إلى الرواية القائلة: "إنَّ عبد الرحمن لم يخطب للعباسيين نهائيًّا مستبعدين اللعن". مستدلِّين على ذلك بالمذابح التي رآها عبد الرحمن تجاه أفراد البيت الأموي من قِبَل العباسيين، خصوصًا وأنَّ أخاه الصغير قُتِلَ أمامه، بالإضافة إلى المضايقات التي واجهها الداخل منذ هروبه حتى دخوله الأندلس، وتذكر روايةٌ أخرى أنَّ الداخل خطب دون السَّنَة للعباسيين: "يُقال إنَّه أقام أشهرًا دون السنة يدعو إلى أبي جعفر المنصور". ويُورد المقري وابن خلدون أسبابًا دعت عبد الرحمن إلى قطع الخطبة للعباسيين، منها: "وفد عليه جماعةٌ من أهل بيته من الشرق، فقطع دعوته".
ويُحدِّد صاحب (الكامل في التاريخ) وصول "عبد الملك بن عمر بن مروان الذي سبب قطع الدعوة العباسية" عندما ذكره بعمل العباسيين تجاه أهله وأقربائه من بني أمية، وعندما امتنع عبد الرحمن عن ذلك، قال له عبد الملك: "إن لم تقطع الخطبة عنهم قتلت نفسي". ولكن الواضح من دراسة النصوص أنَّ عبد الرحمن الداخل قطع الخطبة قبل وصول عبد الملك بن عمر إلى الأندلس؛ إذ إنَّها ذكرت أنَّ الداخل خطب للعباسيين دون السنة؛ أي منذ دخوله قرطبة (ذو الحجة 138هـ=755م)، فمعنى هذا أنَّه قطع الخطبة في بداية (139هـ=756م)، والمصادر تذكر صراحةً أنَّ عبد الملك المذكور دخل الأندلس في (140هـ=757م و758م)، ممَّا يجعلنا نستبعد ونضعف الرأي القائل: إنَّ دخول عبد الملك دفع الداخل إلى قطع الخطبة للعباسيين.
وأُرجِّح الروايات التي تذكر أنَّ الداخل خطب للعباسيين فترةً قصيرةً (دون السنة) ثم قطع خطبته لهم، وأميل -أيضًا- إلى السبب الذي ذكره ابن خلدون؛ حيث ذكر دافع الداخل إلى قطع الخطبة للعباسيين وهو "أنَّه كان يدعو للمنصور، ثم قطعها لمـَّا تمَّ له الملك بالأندلس ومهَّد أمرها". وأستند في ترجيحي المذكور إلى ما يأتي: أنَّ الأمير عبد الرحمن الداخل سياسيٌّ بارع؛ بدليل شهادة شيخ مؤرِّخي الأندلس ابن حيان صاحب كتاب (المقتبس من أبناء أهل الأندلس): "كان عبد الرحمن راجح الحلم، فاسح العلم، ثابت الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة".
فعمد منذ دخوله قرطبة ونجاحه في إقامة الإمارة الأموية إلى مراعاة شعور الناس والرأي العام، "خاصَّةً في مسألة الخطبة للعباسيين وعدم تلقُّبه بلقب أمير المؤمنين؛ بل لُقِّب بالأمير وابن الخلائف". خصوصًا وأنَّ الظروف المحيطة به كانت متوتِّرة، حيث:
1- إنَّ قيام الخلافة العباسية كانت قد وصلت إلى مسامع الأندلسيين، فلم يرغب أن يقوم بعملٍ لا يعلم عواقبه؛ حيث لم يعتد الناس على الانفصال عن الخلافة ولم يشع ذلك بينهم.
2- كان رجلًا غريبًا عن الأندلس ولم يعرف بعد طبيعة تفكير أهلها.
3- كانت الأندلس عند دخوله تموج بالفتن والاضطرابات، فلم يرغب بمواجهة العباسيين حتى يستقرَّ على ملكه، فجعل جلَّ اهتمامه نحو الاضطرابات محاولًا تهدئتها والقضاء عليها، وبالفعل حقَّق الاستقرار النسبي وبفترةٍ وجيزة؛ حيث "استسلم الثوار عليه عن كثرتهم في النواحي". فقضى على معظم الاضطرابات فيها، وليس هناك أدلُّ من هذا على براعته السياسيَّة.
فعزم الداخل على قطع صلة الأندلس الرسميَّة بالخلافة العباسيَّة، "فدعا الداخل لنفسه عند استغلاظ أمره واستقرار ملكه، ورغب في أن يُخلِّد لبني مروان السلطان بها، وجدَّد ما طُمِسَ لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها". فمن هنا نستطيع القول: إنَّ الأمير عبد الرحمن الداخل لم يعترف بسلطان العباسيين منذ تأسيس إمارته إلَّا لفترةٍ قصيرةٍ اضطرته الظروف السياسيَّة إلى ذلك. وبالمقابل كان الخليفة العباسي يعتبر الأمير عبد الرحمن خارجًا عن طاعته، والملاحظ أنَّ قطع الخطبة للعباسيين قطع اتصالات الأندلس بالخلافة سياسيًّا وإداريًّا، ولكنَّها لم تنقطع عنها في مجالات الحياة الأخرى، مثل: طلب العلم، الحج، التجارة، وغيرها؛ بسبب قيام واستمرار العلاقة الوضَّاءة الفريدة بينهم، وهي رابطة العقيدة الإسلامية.
ثانيًا: إعلان الخلافة الأموية في الأندلس (316هـ=929م)
إنَّ عبد الرحمن الداخل ومنذ نجاحه في إقامة الإمارة الأموية في الأندلس لم يتلقَّب بلقب أمير المؤمنين؛ وإنَّما لُقِّب بـ "الأمير"، وكذلك بـ "ابن الخلائف". وعلى هذا سار بنوه من بعده إلى أن جاء عبد الرحمن الناصر الذي استمرَّ يتلقَّب بالأمير للفترة من 300 إلى 316هـ، وبعد ذلك لُقِّب أمير المؤمنين، وأعلن الخلافة الأموية في الأندلس.
نستطيع أن نعرج على الظروف التي أحاطت بالأمير الداخل وخلفائه إلى عهد الناصر وحالت دون إعلانهم الخلافة، ومنها:
1- عدم رغبة الداخل وخلفائه من بعده إلى عهد الناصر القيام بعملٍ يُثير عليهم بشكلٍ مباشر الخلافةَ العباسية التي كانت في أوج قوتها، وربَّما لم يكن هذا اللقب ضمن طموحات الداخل وخلفائه قطعًا، بالإضافة إلى خشيتهم من تقسيم العالم الإسلامي.
2- إنَّ ظروف العالم الإسلامي كانت تشهد قيام إمارات متعدِّدة منفصلة أو متَّصلة بالخلافة العباسية، ولكنَّها إلى ذلك الوقت لم تشهد ظهور خلافة إسلامية ثانية، وظلَّت الخلافة العباسية تُحافظ على سلطانها على العالم الإسلامي.
3- عدم استعداد المسلمين في هذه المرحلة لتقبُّل قيام أكثر من خلافة إلى جانب الخلافة العباسية القوية؛ والداخل على الرغم من حزمه وطموحه، كان يميل إلى مراعاة شعور الناس الذين كانوا ينظرون بأحقيَّة الخلافة إلى من بيده الحرمان الشريفان (مكة والمدينة)، فلم يقدم الداخل على إعلان الخلافة؛ "تأدُّبًا مع الخلافة بمقرِّ الإسلام ومنتدى العرب".
إعلان عبد الرحمن الناصر الخلافة بالأندلس
ولكن في عهد الناصر استجدَّت ظروف سمحت له بالتلقُّب بأمير المؤمنين وإعلان الخلافة الأموية، وقد أصدر كتابًا للأمَّة يُبيِّن فيه أحقيَّته بالخلافة، وبرَّر فيه أسباب تلقُّبه بأمير المؤمنين، ويُمكن إجمال أسباب إعلان الناصر الخلافة الأموية سنة 316هـ بما يأتي:
1- ما بلغته الأندلس في عهده (300-350هـ=913-961م) من قوَّةٍ وازدهارٍ وتماسك؛ حيث كان لعبد الرحمن بن محمد بن عبد الله (الناصر) دورٌ كبيرٌ في ما وصلت إليه الأندلس، وبما يملكه من قدرةٍ إداريَّةٍ وبراعةٍ سياسيَّة، فنجح في القضاء على الفتن والاضطرابات، وقضى على المتمرِّدين الخارجين على سلطان الإمارة، ووضع حدًّا لتحرُّشات الدول الإسبانيَّة على الأندلس، وتأكيدًا لقوَّة الأندلس هذه على الصعيدين الداخلي والخارجي رأى من المناسب إعلان الخلافة.
2- كانت ظروف العالم الإسلامي تسمح له بمثل هذا العمل؛ إذ لم تعد تلك النظرة المقدَّسة للخلافة العباسية من قِبَلِ الناس، خصوصًا بعد ضعفها وقلَّة هيبتها لكثرة الإمارات المنفصلة عن الخلافة في المشرق والمغرب؛ إذ لم يعد للخليفة العباسي سلطانًا كاملًا حتى على المناطق القريبة من بغداد، وممَّا قلَّل هيبة الخلافة أكثر بالإضافة إلى ضعفها، هيمنة العنصر الأجنبي المتمثِّل بالأتراك على مقدَّرات الخلافة؛ فإنَّه "عندما التاب أمر الخلافة بالمشرق، واستبدَّ موالي الترك على بني العباس، وبلغه أنَّ المقتدر قتله مؤنس المظفَّر مولاه سنة 317هـ، فتلقَّب بألقاب الخلافة".
3- ظهور الدولة الفاطمية التي أعلنت الخلافة على الرغم من مجيئها بعد الدولة الأموية في الأندلس، وانتشر لها دعاةٌ في المغرب محاولين جعل المغرب الإسلامي خاضعًا بأكمله لهم، الأمر الذي أقلق الناصر فعزم على التصدِّي لهم على محورين: الأول عسكري؛ من خلال إرساله أسطولًا بحريًّا إلى سبتة فاستولى عليها، فدفع أمراء البربر من الأدارسة وزناتة إلى مهادنته وطاعته، فامتدَّ نفوذه إلى فاس. والمحور الثاني كان على الصعيد السياسي؛ حيث تلقَّب بأمير المؤمنين معلنًا الخلافة الأمويَّة في الأندلس.
4- استهدف عبد الرحمن الناصر إعطاء قرطبة دورًا أكثر مركزيَّة، بحيث تشتدُّ قبضتها على أطراف الدولة، وإعطائها سعةً أكبر خصوصًا بعد استقرارها في عهده، وبلوغها درجةً عاليةً من الازدهار الفكري والعلمي والمعماري والسياسي.
5- طموح عبد الرحمن الناصر الشخصي في بعث الخلافة الأمويَّة مجدَّدًا، بالإضافة إلى كونه "أعظم بني أميَّة بالمغرب سلطانًا، وأفهمهم في القديم والحديث شأنًا" .
خلاصة
لقد توصلنا في بحثنا إلى جملةٍ من الاستنتاجات يُمكن إجمالها بما يأتي:
1- نجاح الأمير عبد الرحمن الداخل في هروبه من العباسيين على أثر سقوط الدولة الأموية في بلاد الشام، وتحمُّله الصعاب والمشاق في هروبه، وتمكُّنه أخيرًا من النجاح بإقامة إمارة أموية بالأندلس- كل ذلك يعكس الجرأة والشجاعة والقدرة على التحمُّل والصبر الذي يتمتَّع به عبد الرحمن الداخل.
2- كان لظروف الأندلس وأحوالها قبيل وصول الداخل دورًا في نجاحه، ويظهر استقرار أوضاع الأندلس في ظلِّ الإمارة الأموية دورُ هذه الإمارة في الحفاظ على الوجود العربي الإسلامي في الأندلس وإعادة وحدتها وتماسكها.
3- كان الداخل سياسيًّا بارعًا؛ فبعد نجاحه في إقامة الإمارة الأموية في الأندلس، أقدم على الخطبة للعباسيِّين ريثما تستقرُّ أوضاع الأندلس ويستقرُّ ملكه، ومِنْ ثَمَّ قَطَعَ خطبته للعباسيين بعد ذلك.
4- كان قيام الخلافة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر سنة (316 هـ=928م) معلنًا عن خلافةٍ عربيَّةٍ إسلاميَّةٍ ثالثة في العالم العربي الإسلامي بعد الخلافة العباسيَّة في العراق والخلافة الفاطميَّة في مصر، وكان إعلان الخلافة الأموية يعني انفصال الأندلس كليًّا عن الخلافة العباسية.
5- ظلَّ الترابط بين الأندلس والعالم الإسلامي مستمرًا، على الرغم من توتر العلاقات السياسية، فظلت رحلات الحج وطلب العلم، واستمرَّت العلاقات التجاريَّة قائمة، وكان هذا الاستمرار في الترابط بفعل العقيدة الإسلامية التي ينعم بها العالم الإسلامي.
_____________
المصدر: العلاقة بين أمويِّي الأندلس والخلافة العباسية، الدكتور خالد إسماعيل نايف الحمداني، كلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي، مجلة التاريخ العربي.
قصة الإسلام