أقدم للجميع حديثاً رائعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية عائشة - رضي الله عنها - وهو حديث :
أم زرع والشرح للشيخ :
أبو إسحاق الحويني والحديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والنسائي
قالت عائشة رضي الله عنها وهي تقص على النبي عليه الصلاة والسلام حكاية :
جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً
قالت الأولى : زوجي لحم جمل غث ، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى .
وقالت الثانية : زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره .
وقالت الثالثة : زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق .
وقالت الرابعة : زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ، ولا مخافة ولا سآمة .
وقالت الخامسة : زوجي إذا دخل فَهِد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد .
وقالت السادسة : زوجي إذا أكل لف ، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف ، ولا يولج الكف ليعلم البث .
وقالت السابعة : زوجي عيايا أو غيايا ، طباقا ، كل داء له داء ، شجك أو فلك أو جمع كلاً لك.
وقالت الثامنة : زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب .
وقالت التاسعة : زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد .
وقالت
العاشرة : زوجي مالك ، وما مالك! مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك
قليلات المسارح ، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك .
وقالت
الحادية عشرة : زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! أناس من حلي أذني ، وملأ من
شحم عضدي ، وبجحني فبجحت إلي نفسي ، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل
صهيل وأطيط ودائس ومنق ، فعنده أقول فلا أقبح ، وأرقد فأتصبح ، وأشرب
فأتقمح .
أم أبي زرع فما أم أبي زرع ! عكومها رداح ، وبيتها فساح .
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع ! مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة .
بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ! طوع أبيها ، وطوع أمها ، وملء كسائها ، وغيظ جارتها .
جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع ! لا تبث حديثنا تبثيثاً ، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً ، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً .
قالت
: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين،
يلعبان من تحت خصرها برمانتين ، فطلقني ونكحها ، فنكحت بعده رجلاً ثرياً ،
ركب سرياً ، وأخذ خطياً ، وأراح علي نعماً ثرياً ، وأعطاني من كل رائحة
زوجاً ، وقال : كلي أم زرع وميري أهلك ، قالت : فلو أني جمعت كل شيء
أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي الله عنها - : كنت لك كـأبي زرع لـأم زرعوفي رواية النسائي قال لها : ( ولكني لا أطلقك )، هذه الزيادة
شرح الحديث :
خبر المرأة الأولى :
بدأت
القصة بامرأة أردت زوجها صريعاً بالضربة القاضية في الجولة الأولى، تقول: (
زوجي لحم جمل غث ) ، الغث : هو الرديء ، تشبهه بأنه لحم جمل رديء ، ومعلوم
أن أغلب الناس ليس لهم شغف بلحوم الجمال ، وهذا اللحم مع أنه لحم غير
مرغوب فيه ، فهو غث أيضاً ، أي : لو كان لحماً جملياً نظيفاً، أو كان لحم
قعود صغير لقبلناه على مضض، لكنه جمع ما بين أنه لحم جمل وبين أنه غث ورديء
أصلاً . تقول : ( زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر ) ، قليل من لحم جمل
على قمة عالية ، ومن الذي سيصعد ويجهد نفسه ويتسلق الجبل لأجل قليل من لحم
غث ؟ فهي تقول : ( على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ) ، أي :
ليس جبلاً سهل المرتقى ، فيمكن الصعود عليه لنأكل اللحم الذي عليه، وليت
الجبل إذ هو وعر أن يكون هذا اللحم لحم ضأن مثلاً أو نحوه. وهي تريد بهذا
أن تقول : إن الرجل جمع ما بين سوء الخلق وسوء المعشر ، فأخلاقه سيئة جداً
لدرجة أنك إذا أردت أن ترضيه كأنك تتسلق جبلاً . وهناك بعض الناس هكذا ،
إذا أردت أن ترضيه تبذل جهداً عظيماً حتى يرض عنك، فأخلاقه وعرة كوعورة
الجبل، فهي تصف زوجها بهذا .
خبر المرأة الثانية
وقالت المرأة الثانية : ( زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف ألاأذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره ) .
تقول
: أنا لن أتكلم، ولا أبث خبره ، ومع ذلك فقد تكلمت ! وفي الرواية الأخرى :
( زوجي لا أثير خبره ، إني أخاف ألا أذره ) ، يقول العلماء : إن ( لا )
هنا زائدة ، والمعنى : إني أخاف أن أذره ، أي أخاف أن يطلقني لو أفشيت خبره
، وإذا تكلمت سأذكر عجره وبجره .
وأصل
العجر هو : انتفاخ العروق في الرقبة ، والبجر : انتفاخ السرة ، فكأنها
قالت : له عيوب ظاهرة وباطنة ، فكنت عن العيوب الظاهرة بالعجر، الذي هو
انتفاخ العروق، وهذا فيه تشويه لجمال الرقبة ، فكأنها تصف هذا الرجل أن
عيوبه الظاهرة ظاهرة وجلية ومعروفة غير مستترة ، وله عيوب خفية لا تعرفها
إلا المرأة ، وكنت عنها بالبجر، الذي هو انتفاخ السرة . ومنه قول علي - رضي
الله عنه - في يوم الجمل : ( إلى الله أشكو عجري وبجري ) ، وهذه المرأة
أيضاً تذم زوجها .
خبر المرأة الثالثة
ثم
قالت المرأة الثالثة : ( زوجي العشنق ) ، العشنق : هو الطويل المغفل الذي
بلا منفعة ، والعلماء يقولون : إن العشنق رأسه صغير وقامته طويلة ، وفيه
تباعد ما بين الدماغ والقلب ، فيمكن أن تنقطع الصلة بينهما فيبقى عنده عقل
بلا قلب ، أو قلب بلا عقل ، تقول : ( زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن
أسكت أعلق ) ، فلا حيلة لها معه ، وفي الرواية الأخرى : ( وأنا معه على حد
السنان المذلق ) ، أي : تعيش معه على شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق
في حياتها مع هذا الرجل ، فهذا الرجل بلغ من سوء خلقه أنه لا يتيح لها
الفرصة لا لتتكلم ، ولا لتسكت ، فعلى كلا الحالين إذا سكتت أو تكلمت فإنه
سيطلقها ، لكن هي تحبه ، أو أنها تريد أن تعيش معه ليطعمها ، فهي تسكت على
سوء خلقه ، ولو سكتت فإنه يعلقها فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة .
خبر المرأة الرابعة
أما
المرأة الرابعة فقد وصفت زوجها وصفاً جميلاً ، وهي أول امرأة تصف زوجها
بخير ، تقول : ( زوجي كليل تهامة ) ، ومعروف أن ليل تهامة من أفضل الأجواء
.. ( زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة ) ، أي : لطيف
المعشر ، وحسن العشرة ، ( لا حر ) : أخلاقه ليست شديدة ، ( ولا قُر ) : أي :
ليس بارداً ، ( ولا مخافة ولا سآمة ) ، فالمرأة تأخذ راحتها في الحوار ،
فتتكلم معه ولا تسكت .
خبر المرأة الخامسة
وقالت
الخامسة : ( زوجي إذا دخل فهِد ، وإذا خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد ) .
اختلف شراح الحديث هل قولها هذا خرج مخرج الذم أم خرج مخرج المدح ؟ لكن
الظاهر أنه خرج مخرج المدح ، فقولها : ( زوجي إذا دخل فهد ) يقولون: من طبع
الفهد - وهو الحيوان المعروف - أنه كثير النوم ، فهي تصفه بالغفلة، والرجل
الذي يزيد ذكاؤه عن الحد، والذي يتتبع كل صغيرة وكبيرة ، رجل متعب جداً ،
فلا بد من شيء من التغافل . قيل لأعرابي : من العاقل ؟ قال : ( الفطن
المتغافل ) . يعني : الذي يتجاهل بإرادته ، وليس لازماً أن يُعرفها أنه
يعرف ، ولكنه يتجاهل بإرادته ؛ لأن هذا يضيع حلاوة التغافل 0
خبر المرأة السادسة
وقالت
السادسة : ( زوجي إذا أكل لف ، وإذا شرب اشتف ، وإذا اضطجع التف ، ولا
يولج الكف ليعلم البث ) . ( إذا أكل لف ) : يلف : أي : يأكل من كل الأطباق ،
ولا يترك صنفاً إلا ويأكل منه ، ( وإذا شرب اشتف ) ، أي : يستمر يشرب حتى
لا يبقي شيئاً ، فهو نهوم ، أكول ، وهذا يدل على أن المرأة ماهرة ، فما ترك
شيئاً إلا أكل منه، ويشرب بنوع من النهم، وتكونالنتيجة
أنه عندما ينام يلتف لوحده ، هذا هو الجزاء ، ولا يشكر هذه المرأة التي
طعامها جميل ، وشرابها جميل ، لدرجة أنه يأكل بشره ، بل يكافئ المرأة بأنه
إذا اضطجع التف ، فهي تشتكيه .
خبر المرأة السابعة
وقالت
السابعة - وهذه ما تركت شيئاً في الرجل - : ( زوجي عيايا غيايا طباقا ) ، (
عيايا ) : من العي ، ( غيايا ) : من الغي ، وهو الضلال البعيد ، ( طباقا )
: مقفل لا يتفاهم ، ( كل داء له داء ) : كل عيوب الدنيا فيه ، كل داء تجده
فيه . ( شجك ) يجرح وجهها ، ( أو فلك ) يكسر عظمها ، ( أو جمع كلاً لك ) ،
أي : إما يشج رأسها فقط ، وإما يكسر عظمها فقط ، وإما يكسر عظمها ويشج
رأسها ، فهذا الرجل عنيد جداً .
خبر المرأة الثامنة
وقالت
الثامنة : ( زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب ) . وهي تمدحه ( مس أرنب
) أي : ناعم البشرة ، ناعم الملمس ، كجلد الأرنب ، رفيق رقيق ، ( والريح
ريح زرنب ) ، الزرنب : نبات طيب الرائحة ، وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه ،
فينبغي على الرجل والمرأة أن يحرصا على أن تكون روائحهما طيبة ، ومن
الأشياء المنفرة التي هدمت بيوت بسببها هذا الموضوع.. والرسول عليه الصلاة
والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لـعائشة : ( بأي
شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته ؟ قالت : بالسواك ) ،
فأول ما يدخل البيت يستاك ، وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن
أن تكون في الفم، فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا، فهذه المرأة تمدح
زوجها بأنه طيب العشرة ، ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة .
خبر المرأة التاسعة
وقالت
التاسعة : ( زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت
من الناد ) ، وهي أيضاً تمدحه.. ( رفيع العماد ) أي : طويل ، لكن هناك فرق
بينه وبين العشنق ، فهذا طويل وهذا طويل ، لكن شتان بين طويل وطويل ، فهذا
رجل رفيع العماد ، طويل ، ذو هيئة حسنة ، ( طويل النجاد ) ، النجاد : هو
جراب السيف ، فهذا رجل عندما يلبس السيف يكون الجراب الخاص به طويلاً ،
وهذا أمر يمتدح به .
خبر المرأة العاشرة
وقالت
العاشرة : ( زوجي مالك ، وما مالك ! ) ، أي : اسمه مالك ، ثم قالت : ( وما
مالك ! ) أي : هل تعرفون شيئاً عن مالك ؟ ( مالك خير من ذلك ) ، مالك خير
من كل ما يخطر ببالك ، وهذا مدح عالٍ ، ( له إبل كثيرات المبارك ، قليلات
المسارح ) ؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف ، فلا يجعل الغلام يسرح بكل الإبل ؛
لئلا يأتي الضيف فلا يجد شيئاً يذبحه ، ( له إبل كثيرات المبارك) باركة
باستمرار ، ( قليلات المسارح ) قلما يسرحها ، ( إذا سمعن صوت المزهر ) ،
وهي الإبل التي في الزريبة ، إذا سمعن صوت المزهر ، ( أيقن أنهن هوالك ) ،
يعرفن أن إحداهن ستذبح ، فإذا سمعن هذا الصوت علمن أن الضيف وصل ، والرجل
يحيي الضيوف ، ويستقبلهم بالطبل البلدي ، فيعرف الجمل الذي بالداخل أنه
سينحر ؛ لأنه قد حل ضيف .
والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد ، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها
قالت
أم زرع : ( زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! ) ، هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع ؟ .
وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع. تقول : (
أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم عضدي ) . هذا كله غزل ، ( أناس من حلي أذني
) : النوس يعني الاضطراب والحركة ، ومنه الناس ؛ لأنهم يتحركون ذهاباً
وإياباً . ومنه الحديث الذي في البخاري ، قال ابن عمر: ( دخلت على حفصة
ونوساتها تنطف) ، النوسات : هي الظفائر ، تنطف : يعني تقطر ماء ، فقد كانت
مغتسلة ، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها
. ( أناس من حلي أذني ): أي: ألبسها ذهباً في آذانها ، وهي تتحرك، فالذهب
يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية ، فهي الآن تحمل ذهباً في كل أذن . (
وملأ من شحم عضدي ) : بدأت المرأة بالذهب لأنه أهلك النساء ، الأحمران :
الذهب والحرير ، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب ، ( وملأ من شحم عضدي ) ،
تريد أن تقول : إنه كريم .. يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت . ( وبجحني
فبجحت إلي نفسي ) ، يقول لها: يا سيدة الجميع ! يا جميلة ! يا جوهرة ! حتى
صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها ، ( فبجحت إلى نفسي ) : أي : فصدقته ،
مع أنها قالت : (وجدني في أهل غنيمة بشق) ، يعني : شق جبل ، أي أنها كانت
تعيش في حارة بشق ، وفي بعض الروايات الأخرى ( بشق ) : يعني كانت تعيش بشق
الأنفس ، فقيرة فقراً مدقعاً تقول : ( وجدني في أهل غنيمة ) ، غنيمة :
تصغير غنم ، أي أن حالتهم كانت كلها كرب ، حتى الغنم صار غنيمة ، دلالة على
حقارة المال . قالت : ( وجدني في أهل غنيمة بشق ) ، فنقلها نقلة عظيمة ، (
فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق ) ، هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة
بشق، نقلها إلى ( أهل صهيل ) : أصحاب خيل ، ( وأطيط ) : أصحاب إبل ؛ لأن
الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة : أط أط
أط، خلال مشيه ، فهذا يسمى أطيطاً ، والإبل كانت من أشرف الأنعام عند
العرب، ( ودائس ) أي : ما يداس ، وهذا كناية عن أنهم أناس أهل زرع فلاحون،
فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه الحب ، فهو كناية
عن أنهم أهل زرع . ( ومنق ) : المنق : هو المنخل ، فالعرب ما كانوا يعرفون
المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف ، تقول عائشة - رضي الله عنها - : ( ما
رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه ) ، فقال عروة : ( فكيف كنتم
تأكلون يا خالة ؟ فقالت : كنا نذريه في الهواء ) ، فالتبن يطير في الهواء،
والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام
كما قالت عائشة : ( مات ولم يشبع من خبز الشعير ) ، ليس من خبز القمح ، فإن
القمح هذا لم يأكلوه أبداً! تقول : وما أكل خبزاً مرققاً ) . فكلمة ( منق )
فيها دلالة على الترف ، فعندهم من كل المال ، فهم أغنياء ، عندهم خيل وإبل
وزرع ، وعندما يأكلون عندهم منخل ؛ لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة ،
فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين . ( فعنده أقول فلا أقبح ) تقول : مهما قلت
فلا أحد يجرؤ أن يقول لي : قبحك الله .. فقد كان عزها من عز الرجل
ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة . ( وأرقد فأتصبح )
: تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام ؛ إذ لو كانت تعمل
بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر ، وهذا كسائر نسائنا ؛ لأنه بعد صلاة
الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس ، وتريد أن تصنع الطعام لهم ،
والرجل سيخرج إلى العمل ، فتعمل باستمرار ، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس
وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة ، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها
المؤنة . ( وأشرب فأتقمح ) : وفي رواية البخاري : ( فأتقنح ) ، بالنون ،
وهناك فرق بين اللفظين ، أما لفظ ( فأتقمح ) فإنه يقال : بعير قامح ، أي
إذا ورد الماء وشرب ثم رفع رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما
تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛ لأنها قد ارتوت، وأما ( أتقنح ) أي : تشرب
وتأكل تغصباً ، فتأكل حتى تشبع ، فيقال لها : كلي، فتتغصب الزيادة ، وهذا
لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب .
فقولها : فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته ، فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.
وصف أم أبي زرع
ثم
قالت : ( أم أبي زرع فما أم أبي زرع! ) وهي عمتها ، فلم تذكر عنها شيئاً
من الكلام الذي نسمعه حول العمات وما إلى ذلك ، بل قالت : أم أبي زرع فما
أم أبي زرع .. هل تعلمون شيئاً عنها ؟ هذه السيدة الفاضلة ، وهذا على
القاعدة : حبيب حبيبي حبيبي ، فالمرأة عندما تحب زوجها ، تدين لأمه بالفضل
أنها أنجبته ، وهذه منة في عنق الزوجة للأم أنها أنجبت مثل هذا الإنسان . (
عكومها رداح ) الرداح : هو الواسع ، يردح : أي : يطيل في الكلام، ويتوسع
في المقالة ، والعكوم : هي الأكياس التي تخزن فيها الأطعمة ، فمثلاً :
عندما تخزن الأرز لا تخزنه في كيس صغير ، بل تخزنه في كيس قطن ، فقولها : (
عكومها رداح ) فيه دلالة على أن البيت كله خير ، وبيتها فسيح ، ومن
المعروف أن اتساع البيت أحد النعم .
وصف ابن أبي زرع
ثم
قالت : (ابن أبي زرع ، فما ابن أبي زرع! ) يفهم من هذا أن أبا زرع كان
متزوجاً ، قبل ذلك .. ( ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة ،
ويشبعه ذراع الجفرة ) ، مسل الشطبة : عندما تأتي بجريدة النخل وتأخذ منها
سلخة للسكين ، السلخة هذه هي السرير الخاص به، فهذا الولد نحيف ، لكن
عضلاته مفتولة ، والإنسان النحيف مع قوة ممدوح عند العرب ؛ لأن هذا ينفع في
الكر والفر ، فهذا مدح تمدح به الولد ، تقول : إنه مفتول العضلات وليس
بديناً ، ولا صاحب كرش عظيم ؛ بل سريره كمسل شطبة ، فتستدل على جسمه بسريره
الذي ينام عليه ، وإلا فمسل الشطبة لا يكفي واحداً ثقيلاً بديناً . (
ويشبعه جراع الجفرة ) : الجفرة : هي أنثى الماعز الصغيرة ، فلو أكل الرجل
الأمامية للشاة فإنه يشبع ، مع أن هذه لا تكفي الواحد ، ومع ذلك فإن هذا
الولد يشبع إذا أكل ذراع الجفرة ، وهذه صفات ممدوحة عند الرجال ، بخلاف
النساء .
وصف بنت أبي زرع
ولما
جاءت تصف بنت أبي زرع قالت : ( بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ! ، طوع أبيها
وطوع أمها ) ، أي : مؤدبة ، ( وملء كسائها ) مالئة ملابسها ، وهذا مستمدح
في النساء بخلاف الرجال ، ( وغيظ جارتها ) : الجارة هي الضرة ، فقد كان
زوجها متزوجاً اثنتين أو أكثر ( فغيظ جارتها ) أي : من جمالها ، وأنها ملء
كسائها ، وبذلك تغيظ جارتها .
وصف جارية أم زرع
قالت
: ( جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ! ) ، والمرأة من حبها للرجل تذكر
كل شيء حتى الجارية ، قالت : ( لا تبث حديثنا تبثيثاً ) ، فأي شيء يحصل في
البيت لا يعرف به أحد من الخارج ، فهي أمينة لا تنقل الكلام ، ( ولا تنقث
ميرتنا تنقيثاًَ ) ، أي : لا تبذر في الطعام ، فلا تجد مثلاً الأرز ملقى
على الأرض ، فهي امرأة مدبرة ، تخاف على المال ، ( ولا تملأ بيتنا تعشيشاً )
أي : البيت ليس فيه زبالة ، كعش الطائر، فعش الطائر عبارة عن ريش وحشيش
وقش وحطب ، فتقول : بيتنا ليس كعش الطائر ، إنما هو بيت نظيف . وفي بعض
الروايات خارج الصحيحين : ( وظلت حتى وصفت كلب أبي زرع ) ، فالكلام هذا كله
غزل ، والغزل هنا مستحب ، ولا أقول : غزل عفيف ، إنما هذا غزل مستحب ؛ إذ
هي تتغزل في زوجها ، وتعدد فضائل زوجها ، وتشعر بنبرة الحب عالية في كلام
المرأة . قالت : ( فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض ) ، كان الوقت ربيعاً ،
واللبن كثير ، والناس يحلبون لبنهم ، وفي هذا الوقت خرج أبو زرع ( فلقي
امرأة معها ولدان لها كالفهدين ) معها اثنان من الأولاد في منتهى الرشاقة ،
( يلعبان من تحت خصرها برمانتين) ، فأعجبه هذا المنظر ، فقال : هذه المرأة
لابد أن أضمها إلي ، فضمها إليه ، لكن ما الذي حصل ؟ قالت : ( فطلقني
ونكحها )، لأنه لايبقي عنده إلا امرأة واحدة ، رجل يحب التوحيد!! 0
الزوج الثاني بعد أبي زرع
قالت
: ( فنكحت بعده رجلاً ثرياً ) ، من ثراة الناس وأشرافهم ، ( ركب سرياً ) ،
السري : نوع جيد من أنواع الخيل ، كان الأغنياء يركبونه ؛ لأنه كان مفخرة
عندهم ، وحتى تكتمل صورة الأبهة قالت : ( وأخذ خطياً ) ، الخطّي : هو الرمح
، فهو واضع تحت إبطه رمحاً وراكب على الخيل ، متعجرفاً ومهيباً .
وفاء أم زرع لأبي زرع
تقول
: ( وأراح علي نعماً ثرياً ) ، أي : أعطاها مالاً وفيراً ، ( وأعطاني من
كل رائحة زوجاً ) ، وفي رواية : ( وأعطاني من كل ذابحة - أي: ما يصلح أن
يذبح - زوجاً ، وقال : كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أي : وأعطي أهلك أيضاً ،
فهذا الرجل ليس فيه أي عيب ، إلا أن المرأة تقول : ( فلو أني جمعت كل شيء
أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ) . فانظر إلى هذا الوفاء !
مع
أن المرأة المطلقة لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، وهذا الرجل لم يقصر
في حقها ، بل قال لها : ( كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أنفقي على أهلك ،
لكنها تقول : ( فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ) 0
زادكم الله من فضله ومنه وكرمه ، مع تمنياتي لكم بالصحة والسلامة والعافية
أم زرع والشرح للشيخ :
أبو إسحاق الحويني والحديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والنسائي
قالت عائشة رضي الله عنها وهي تقص على النبي عليه الصلاة والسلام حكاية :
جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً
قالت الأولى : زوجي لحم جمل غث ، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى .
وقالت الثانية : زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره .
وقالت الثالثة : زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق .
وقالت الرابعة : زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ، ولا مخافة ولا سآمة .
وقالت الخامسة : زوجي إذا دخل فَهِد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد .
وقالت السادسة : زوجي إذا أكل لف ، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف ، ولا يولج الكف ليعلم البث .
وقالت السابعة : زوجي عيايا أو غيايا ، طباقا ، كل داء له داء ، شجك أو فلك أو جمع كلاً لك.
وقالت الثامنة : زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب .
وقالت التاسعة : زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد .
وقالت
العاشرة : زوجي مالك ، وما مالك! مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك
قليلات المسارح ، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك .
وقالت
الحادية عشرة : زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! أناس من حلي أذني ، وملأ من
شحم عضدي ، وبجحني فبجحت إلي نفسي ، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل
صهيل وأطيط ودائس ومنق ، فعنده أقول فلا أقبح ، وأرقد فأتصبح ، وأشرب
فأتقمح .
أم أبي زرع فما أم أبي زرع ! عكومها رداح ، وبيتها فساح .
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع ! مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة .
بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ! طوع أبيها ، وطوع أمها ، وملء كسائها ، وغيظ جارتها .
جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع ! لا تبث حديثنا تبثيثاً ، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً ، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً .
قالت
: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين،
يلعبان من تحت خصرها برمانتين ، فطلقني ونكحها ، فنكحت بعده رجلاً ثرياً ،
ركب سرياً ، وأخذ خطياً ، وأراح علي نعماً ثرياً ، وأعطاني من كل رائحة
زوجاً ، وقال : كلي أم زرع وميري أهلك ، قالت : فلو أني جمعت كل شيء
أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي الله عنها - : كنت لك كـأبي زرع لـأم زرعوفي رواية النسائي قال لها : ( ولكني لا أطلقك )، هذه الزيادة
شرح الحديث :
خبر المرأة الأولى :
بدأت
القصة بامرأة أردت زوجها صريعاً بالضربة القاضية في الجولة الأولى، تقول: (
زوجي لحم جمل غث ) ، الغث : هو الرديء ، تشبهه بأنه لحم جمل رديء ، ومعلوم
أن أغلب الناس ليس لهم شغف بلحوم الجمال ، وهذا اللحم مع أنه لحم غير
مرغوب فيه ، فهو غث أيضاً ، أي : لو كان لحماً جملياً نظيفاً، أو كان لحم
قعود صغير لقبلناه على مضض، لكنه جمع ما بين أنه لحم جمل وبين أنه غث ورديء
أصلاً . تقول : ( زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر ) ، قليل من لحم جمل
على قمة عالية ، ومن الذي سيصعد ويجهد نفسه ويتسلق الجبل لأجل قليل من لحم
غث ؟ فهي تقول : ( على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ) ، أي :
ليس جبلاً سهل المرتقى ، فيمكن الصعود عليه لنأكل اللحم الذي عليه، وليت
الجبل إذ هو وعر أن يكون هذا اللحم لحم ضأن مثلاً أو نحوه. وهي تريد بهذا
أن تقول : إن الرجل جمع ما بين سوء الخلق وسوء المعشر ، فأخلاقه سيئة جداً
لدرجة أنك إذا أردت أن ترضيه كأنك تتسلق جبلاً . وهناك بعض الناس هكذا ،
إذا أردت أن ترضيه تبذل جهداً عظيماً حتى يرض عنك، فأخلاقه وعرة كوعورة
الجبل، فهي تصف زوجها بهذا .
خبر المرأة الثانية
وقالت المرأة الثانية : ( زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف ألاأذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره ) .
تقول
: أنا لن أتكلم، ولا أبث خبره ، ومع ذلك فقد تكلمت ! وفي الرواية الأخرى :
( زوجي لا أثير خبره ، إني أخاف ألا أذره ) ، يقول العلماء : إن ( لا )
هنا زائدة ، والمعنى : إني أخاف أن أذره ، أي أخاف أن يطلقني لو أفشيت خبره
، وإذا تكلمت سأذكر عجره وبجره .
وأصل
العجر هو : انتفاخ العروق في الرقبة ، والبجر : انتفاخ السرة ، فكأنها
قالت : له عيوب ظاهرة وباطنة ، فكنت عن العيوب الظاهرة بالعجر، الذي هو
انتفاخ العروق، وهذا فيه تشويه لجمال الرقبة ، فكأنها تصف هذا الرجل أن
عيوبه الظاهرة ظاهرة وجلية ومعروفة غير مستترة ، وله عيوب خفية لا تعرفها
إلا المرأة ، وكنت عنها بالبجر، الذي هو انتفاخ السرة . ومنه قول علي - رضي
الله عنه - في يوم الجمل : ( إلى الله أشكو عجري وبجري ) ، وهذه المرأة
أيضاً تذم زوجها .
خبر المرأة الثالثة
ثم
قالت المرأة الثالثة : ( زوجي العشنق ) ، العشنق : هو الطويل المغفل الذي
بلا منفعة ، والعلماء يقولون : إن العشنق رأسه صغير وقامته طويلة ، وفيه
تباعد ما بين الدماغ والقلب ، فيمكن أن تنقطع الصلة بينهما فيبقى عنده عقل
بلا قلب ، أو قلب بلا عقل ، تقول : ( زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن
أسكت أعلق ) ، فلا حيلة لها معه ، وفي الرواية الأخرى : ( وأنا معه على حد
السنان المذلق ) ، أي : تعيش معه على شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق
في حياتها مع هذا الرجل ، فهذا الرجل بلغ من سوء خلقه أنه لا يتيح لها
الفرصة لا لتتكلم ، ولا لتسكت ، فعلى كلا الحالين إذا سكتت أو تكلمت فإنه
سيطلقها ، لكن هي تحبه ، أو أنها تريد أن تعيش معه ليطعمها ، فهي تسكت على
سوء خلقه ، ولو سكتت فإنه يعلقها فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة .
خبر المرأة الرابعة
أما
المرأة الرابعة فقد وصفت زوجها وصفاً جميلاً ، وهي أول امرأة تصف زوجها
بخير ، تقول : ( زوجي كليل تهامة ) ، ومعروف أن ليل تهامة من أفضل الأجواء
.. ( زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة ) ، أي : لطيف
المعشر ، وحسن العشرة ، ( لا حر ) : أخلاقه ليست شديدة ، ( ولا قُر ) : أي :
ليس بارداً ، ( ولا مخافة ولا سآمة ) ، فالمرأة تأخذ راحتها في الحوار ،
فتتكلم معه ولا تسكت .
خبر المرأة الخامسة
وقالت
الخامسة : ( زوجي إذا دخل فهِد ، وإذا خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد ) .
اختلف شراح الحديث هل قولها هذا خرج مخرج الذم أم خرج مخرج المدح ؟ لكن
الظاهر أنه خرج مخرج المدح ، فقولها : ( زوجي إذا دخل فهد ) يقولون: من طبع
الفهد - وهو الحيوان المعروف - أنه كثير النوم ، فهي تصفه بالغفلة، والرجل
الذي يزيد ذكاؤه عن الحد، والذي يتتبع كل صغيرة وكبيرة ، رجل متعب جداً ،
فلا بد من شيء من التغافل . قيل لأعرابي : من العاقل ؟ قال : ( الفطن
المتغافل ) . يعني : الذي يتجاهل بإرادته ، وليس لازماً أن يُعرفها أنه
يعرف ، ولكنه يتجاهل بإرادته ؛ لأن هذا يضيع حلاوة التغافل 0
خبر المرأة السادسة
وقالت
السادسة : ( زوجي إذا أكل لف ، وإذا شرب اشتف ، وإذا اضطجع التف ، ولا
يولج الكف ليعلم البث ) . ( إذا أكل لف ) : يلف : أي : يأكل من كل الأطباق ،
ولا يترك صنفاً إلا ويأكل منه ، ( وإذا شرب اشتف ) ، أي : يستمر يشرب حتى
لا يبقي شيئاً ، فهو نهوم ، أكول ، وهذا يدل على أن المرأة ماهرة ، فما ترك
شيئاً إلا أكل منه، ويشرب بنوع من النهم، وتكونالنتيجة
أنه عندما ينام يلتف لوحده ، هذا هو الجزاء ، ولا يشكر هذه المرأة التي
طعامها جميل ، وشرابها جميل ، لدرجة أنه يأكل بشره ، بل يكافئ المرأة بأنه
إذا اضطجع التف ، فهي تشتكيه .
خبر المرأة السابعة
وقالت
السابعة - وهذه ما تركت شيئاً في الرجل - : ( زوجي عيايا غيايا طباقا ) ، (
عيايا ) : من العي ، ( غيايا ) : من الغي ، وهو الضلال البعيد ، ( طباقا )
: مقفل لا يتفاهم ، ( كل داء له داء ) : كل عيوب الدنيا فيه ، كل داء تجده
فيه . ( شجك ) يجرح وجهها ، ( أو فلك ) يكسر عظمها ، ( أو جمع كلاً لك ) ،
أي : إما يشج رأسها فقط ، وإما يكسر عظمها فقط ، وإما يكسر عظمها ويشج
رأسها ، فهذا الرجل عنيد جداً .
خبر المرأة الثامنة
وقالت
الثامنة : ( زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب ) . وهي تمدحه ( مس أرنب
) أي : ناعم البشرة ، ناعم الملمس ، كجلد الأرنب ، رفيق رقيق ، ( والريح
ريح زرنب ) ، الزرنب : نبات طيب الرائحة ، وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه ،
فينبغي على الرجل والمرأة أن يحرصا على أن تكون روائحهما طيبة ، ومن
الأشياء المنفرة التي هدمت بيوت بسببها هذا الموضوع.. والرسول عليه الصلاة
والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لـعائشة : ( بأي
شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته ؟ قالت : بالسواك ) ،
فأول ما يدخل البيت يستاك ، وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن
أن تكون في الفم، فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا، فهذه المرأة تمدح
زوجها بأنه طيب العشرة ، ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة .
خبر المرأة التاسعة
وقالت
التاسعة : ( زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت
من الناد ) ، وهي أيضاً تمدحه.. ( رفيع العماد ) أي : طويل ، لكن هناك فرق
بينه وبين العشنق ، فهذا طويل وهذا طويل ، لكن شتان بين طويل وطويل ، فهذا
رجل رفيع العماد ، طويل ، ذو هيئة حسنة ، ( طويل النجاد ) ، النجاد : هو
جراب السيف ، فهذا رجل عندما يلبس السيف يكون الجراب الخاص به طويلاً ،
وهذا أمر يمتدح به .
خبر المرأة العاشرة
وقالت
العاشرة : ( زوجي مالك ، وما مالك ! ) ، أي : اسمه مالك ، ثم قالت : ( وما
مالك ! ) أي : هل تعرفون شيئاً عن مالك ؟ ( مالك خير من ذلك ) ، مالك خير
من كل ما يخطر ببالك ، وهذا مدح عالٍ ، ( له إبل كثيرات المبارك ، قليلات
المسارح ) ؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف ، فلا يجعل الغلام يسرح بكل الإبل ؛
لئلا يأتي الضيف فلا يجد شيئاً يذبحه ، ( له إبل كثيرات المبارك) باركة
باستمرار ، ( قليلات المسارح ) قلما يسرحها ، ( إذا سمعن صوت المزهر ) ،
وهي الإبل التي في الزريبة ، إذا سمعن صوت المزهر ، ( أيقن أنهن هوالك ) ،
يعرفن أن إحداهن ستذبح ، فإذا سمعن هذا الصوت علمن أن الضيف وصل ، والرجل
يحيي الضيوف ، ويستقبلهم بالطبل البلدي ، فيعرف الجمل الذي بالداخل أنه
سينحر ؛ لأنه قد حل ضيف .
والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد ، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها
قالت
أم زرع : ( زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! ) ، هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع ؟ .
وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع. تقول : (
أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم عضدي ) . هذا كله غزل ، ( أناس من حلي أذني
) : النوس يعني الاضطراب والحركة ، ومنه الناس ؛ لأنهم يتحركون ذهاباً
وإياباً . ومنه الحديث الذي في البخاري ، قال ابن عمر: ( دخلت على حفصة
ونوساتها تنطف) ، النوسات : هي الظفائر ، تنطف : يعني تقطر ماء ، فقد كانت
مغتسلة ، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها
. ( أناس من حلي أذني ): أي: ألبسها ذهباً في آذانها ، وهي تتحرك، فالذهب
يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية ، فهي الآن تحمل ذهباً في كل أذن . (
وملأ من شحم عضدي ) : بدأت المرأة بالذهب لأنه أهلك النساء ، الأحمران :
الذهب والحرير ، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب ، ( وملأ من شحم عضدي ) ،
تريد أن تقول : إنه كريم .. يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت . ( وبجحني
فبجحت إلي نفسي ) ، يقول لها: يا سيدة الجميع ! يا جميلة ! يا جوهرة ! حتى
صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها ، ( فبجحت إلى نفسي ) : أي : فصدقته ،
مع أنها قالت : (وجدني في أهل غنيمة بشق) ، يعني : شق جبل ، أي أنها كانت
تعيش في حارة بشق ، وفي بعض الروايات الأخرى ( بشق ) : يعني كانت تعيش بشق
الأنفس ، فقيرة فقراً مدقعاً تقول : ( وجدني في أهل غنيمة ) ، غنيمة :
تصغير غنم ، أي أن حالتهم كانت كلها كرب ، حتى الغنم صار غنيمة ، دلالة على
حقارة المال . قالت : ( وجدني في أهل غنيمة بشق ) ، فنقلها نقلة عظيمة ، (
فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق ) ، هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة
بشق، نقلها إلى ( أهل صهيل ) : أصحاب خيل ، ( وأطيط ) : أصحاب إبل ؛ لأن
الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة : أط أط
أط، خلال مشيه ، فهذا يسمى أطيطاً ، والإبل كانت من أشرف الأنعام عند
العرب، ( ودائس ) أي : ما يداس ، وهذا كناية عن أنهم أناس أهل زرع فلاحون،
فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه الحب ، فهو كناية
عن أنهم أهل زرع . ( ومنق ) : المنق : هو المنخل ، فالعرب ما كانوا يعرفون
المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف ، تقول عائشة - رضي الله عنها - : ( ما
رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه ) ، فقال عروة : ( فكيف كنتم
تأكلون يا خالة ؟ فقالت : كنا نذريه في الهواء ) ، فالتبن يطير في الهواء،
والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام
كما قالت عائشة : ( مات ولم يشبع من خبز الشعير ) ، ليس من خبز القمح ، فإن
القمح هذا لم يأكلوه أبداً! تقول : وما أكل خبزاً مرققاً ) . فكلمة ( منق )
فيها دلالة على الترف ، فعندهم من كل المال ، فهم أغنياء ، عندهم خيل وإبل
وزرع ، وعندما يأكلون عندهم منخل ؛ لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة ،
فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين . ( فعنده أقول فلا أقبح ) تقول : مهما قلت
فلا أحد يجرؤ أن يقول لي : قبحك الله .. فقد كان عزها من عز الرجل
ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة . ( وأرقد فأتصبح )
: تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام ؛ إذ لو كانت تعمل
بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر ، وهذا كسائر نسائنا ؛ لأنه بعد صلاة
الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس ، وتريد أن تصنع الطعام لهم ،
والرجل سيخرج إلى العمل ، فتعمل باستمرار ، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس
وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة ، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها
المؤنة . ( وأشرب فأتقمح ) : وفي رواية البخاري : ( فأتقنح ) ، بالنون ،
وهناك فرق بين اللفظين ، أما لفظ ( فأتقمح ) فإنه يقال : بعير قامح ، أي
إذا ورد الماء وشرب ثم رفع رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما
تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛ لأنها قد ارتوت، وأما ( أتقنح ) أي : تشرب
وتأكل تغصباً ، فتأكل حتى تشبع ، فيقال لها : كلي، فتتغصب الزيادة ، وهذا
لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب .
فقولها : فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته ، فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.
وصف أم أبي زرع
ثم
قالت : ( أم أبي زرع فما أم أبي زرع! ) وهي عمتها ، فلم تذكر عنها شيئاً
من الكلام الذي نسمعه حول العمات وما إلى ذلك ، بل قالت : أم أبي زرع فما
أم أبي زرع .. هل تعلمون شيئاً عنها ؟ هذه السيدة الفاضلة ، وهذا على
القاعدة : حبيب حبيبي حبيبي ، فالمرأة عندما تحب زوجها ، تدين لأمه بالفضل
أنها أنجبته ، وهذه منة في عنق الزوجة للأم أنها أنجبت مثل هذا الإنسان . (
عكومها رداح ) الرداح : هو الواسع ، يردح : أي : يطيل في الكلام، ويتوسع
في المقالة ، والعكوم : هي الأكياس التي تخزن فيها الأطعمة ، فمثلاً :
عندما تخزن الأرز لا تخزنه في كيس صغير ، بل تخزنه في كيس قطن ، فقولها : (
عكومها رداح ) فيه دلالة على أن البيت كله خير ، وبيتها فسيح ، ومن
المعروف أن اتساع البيت أحد النعم .
وصف ابن أبي زرع
ثم
قالت : (ابن أبي زرع ، فما ابن أبي زرع! ) يفهم من هذا أن أبا زرع كان
متزوجاً ، قبل ذلك .. ( ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة ،
ويشبعه ذراع الجفرة ) ، مسل الشطبة : عندما تأتي بجريدة النخل وتأخذ منها
سلخة للسكين ، السلخة هذه هي السرير الخاص به، فهذا الولد نحيف ، لكن
عضلاته مفتولة ، والإنسان النحيف مع قوة ممدوح عند العرب ؛ لأن هذا ينفع في
الكر والفر ، فهذا مدح تمدح به الولد ، تقول : إنه مفتول العضلات وليس
بديناً ، ولا صاحب كرش عظيم ؛ بل سريره كمسل شطبة ، فتستدل على جسمه بسريره
الذي ينام عليه ، وإلا فمسل الشطبة لا يكفي واحداً ثقيلاً بديناً . (
ويشبعه جراع الجفرة ) : الجفرة : هي أنثى الماعز الصغيرة ، فلو أكل الرجل
الأمامية للشاة فإنه يشبع ، مع أن هذه لا تكفي الواحد ، ومع ذلك فإن هذا
الولد يشبع إذا أكل ذراع الجفرة ، وهذه صفات ممدوحة عند الرجال ، بخلاف
النساء .
وصف بنت أبي زرع
ولما
جاءت تصف بنت أبي زرع قالت : ( بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ! ، طوع أبيها
وطوع أمها ) ، أي : مؤدبة ، ( وملء كسائها ) مالئة ملابسها ، وهذا مستمدح
في النساء بخلاف الرجال ، ( وغيظ جارتها ) : الجارة هي الضرة ، فقد كان
زوجها متزوجاً اثنتين أو أكثر ( فغيظ جارتها ) أي : من جمالها ، وأنها ملء
كسائها ، وبذلك تغيظ جارتها .
وصف جارية أم زرع
قالت
: ( جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ! ) ، والمرأة من حبها للرجل تذكر
كل شيء حتى الجارية ، قالت : ( لا تبث حديثنا تبثيثاً ) ، فأي شيء يحصل في
البيت لا يعرف به أحد من الخارج ، فهي أمينة لا تنقل الكلام ، ( ولا تنقث
ميرتنا تنقيثاًَ ) ، أي : لا تبذر في الطعام ، فلا تجد مثلاً الأرز ملقى
على الأرض ، فهي امرأة مدبرة ، تخاف على المال ، ( ولا تملأ بيتنا تعشيشاً )
أي : البيت ليس فيه زبالة ، كعش الطائر، فعش الطائر عبارة عن ريش وحشيش
وقش وحطب ، فتقول : بيتنا ليس كعش الطائر ، إنما هو بيت نظيف . وفي بعض
الروايات خارج الصحيحين : ( وظلت حتى وصفت كلب أبي زرع ) ، فالكلام هذا كله
غزل ، والغزل هنا مستحب ، ولا أقول : غزل عفيف ، إنما هذا غزل مستحب ؛ إذ
هي تتغزل في زوجها ، وتعدد فضائل زوجها ، وتشعر بنبرة الحب عالية في كلام
المرأة . قالت : ( فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض ) ، كان الوقت ربيعاً ،
واللبن كثير ، والناس يحلبون لبنهم ، وفي هذا الوقت خرج أبو زرع ( فلقي
امرأة معها ولدان لها كالفهدين ) معها اثنان من الأولاد في منتهى الرشاقة ،
( يلعبان من تحت خصرها برمانتين) ، فأعجبه هذا المنظر ، فقال : هذه المرأة
لابد أن أضمها إلي ، فضمها إليه ، لكن ما الذي حصل ؟ قالت : ( فطلقني
ونكحها )، لأنه لايبقي عنده إلا امرأة واحدة ، رجل يحب التوحيد!! 0
الزوج الثاني بعد أبي زرع
قالت
: ( فنكحت بعده رجلاً ثرياً ) ، من ثراة الناس وأشرافهم ، ( ركب سرياً ) ،
السري : نوع جيد من أنواع الخيل ، كان الأغنياء يركبونه ؛ لأنه كان مفخرة
عندهم ، وحتى تكتمل صورة الأبهة قالت : ( وأخذ خطياً ) ، الخطّي : هو الرمح
، فهو واضع تحت إبطه رمحاً وراكب على الخيل ، متعجرفاً ومهيباً .
وفاء أم زرع لأبي زرع
تقول
: ( وأراح علي نعماً ثرياً ) ، أي : أعطاها مالاً وفيراً ، ( وأعطاني من
كل رائحة زوجاً ) ، وفي رواية : ( وأعطاني من كل ذابحة - أي: ما يصلح أن
يذبح - زوجاً ، وقال : كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أي : وأعطي أهلك أيضاً ،
فهذا الرجل ليس فيه أي عيب ، إلا أن المرأة تقول : ( فلو أني جمعت كل شيء
أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ) . فانظر إلى هذا الوفاء !
مع
أن المرأة المطلقة لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، وهذا الرجل لم يقصر
في حقها ، بل قال لها : ( كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أنفقي على أهلك ،
لكنها تقول : ( فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ) 0
زادكم الله من فضله ومنه وكرمه ، مع تمنياتي لكم بالصحة والسلامة والعافية