وصية الله - سبحانه وتعالى - التي أوصى بها الأولين والآخرين تقواه - جل وعلا - في كل آن وحين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء/131].
الكارثة
مذهلة والمأساة محزنة أرواح بالغرق أزهقت وبيوت بالمطر أتلفت ومركبات
وسيارات بالسيول دمرت وأمر يصيب بحزن عميق وألم كبير ونحن نقول ما قال
رسولنا - صلى الله عليه وسلم - (إن العين لتدمع وإن القلب ليحز ) ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
والحق - جل وعلا - يقول:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة/155، 156].
ولا
شك أن كل محنة وكربة تدفع إلى التأمل والتدبر في الأحوال وإلى النظر فيما
هو واقع من الخلل كما أنها من جهة أخرى عند كل مؤمن متيقظ وكل مسلم حي القلب تدعو إلى الالتجاء إلى الله - عز وجل - والرجوع إليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء فيه وإصلاح ما بيننا وبين ربنا.
ولئن
تعدد الحديث في هذه المأساة التي ألمت بمحافظتنا ومدينتنا وتشعبت وجوه
القول فيها وربما أيضاً تكثر جوانب العظة والعبرة فيها إلا أنني اخترت أن
أتحدث عن أمري في نظري هو أشد من خطر الأمطار ومما حل من الأضرار إنه
المحور الرئيس الذي قد يكون له النصيب الأوفى في أسباب مثل هذه الحوادث
بعد إيماننا بقضاء الله وقدره وهو كذلك السبب الذي إن لم ننتبه له ونحذر
منه ونصدق في كشفه ومعالجته فإن الداء السهل اليسير وإن المرض العابر
العارض سيصبح وباءً متفشياً كما نسمع عن أنفلونزا الخنازير الذي عم وباؤها
كل البلاد.
إنه
أمر تحدث عنه القرآن حديثاً وافياً شافياً كم نحن في حاجة إلى أن ننظر
إليه وأن نعرف أننا مرات ومرات نحتاج أن نقول إننا بعيدون عن كتاب ربنا
تدبراً وتأملاً وعلماً وفهماً وبالتالي نحن بعيدون في واقعنا عن هذا
القرآن سلوكاً وعملاً كما أوجزت أم المؤمنون عائشة - رضي الله عنها - وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلمات قليلة (كان خلقه القرآن).
الفساد
وما أدراك ما الفساد، فساد في الذمم تباع وتشترى، فساد في الضمائر تنام
فلا تصحو وتموت فلا تحيى، فساد في العقول تضل وتزيغ ولا ترعوي وتهتدي،
فساد في السلوك تنحل به الأخلاق ولا ترجع إلى فضيلة وقيم كنا ولا زلنا
وسنضل أحوج ما نكون إليها، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة/204، 205]، صورة مقصودها الأول من كفر ونافق
لكنها تعم في دلالتها حتى المسلم إذا زاغ وانحرف.
قال
القرطبي في تفسيره: (كل مبطل كفراً أو نفاقاً أو كذباً أو إضراراً وهو
يظهر خلافه فالآية عامة) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ} ذكر المفسرون هنا أوجهاً ثلاثة يقع بها الفساد ويتدثر
ويتستر ويبهرج نفسه ويغير صورته حسن القول واللفظ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أقوال منمقة وتصريحات
ملفقة وحضور إعلامي مبهر ويشهد الله على ما في قلبه من معاني ذلك أنه يقول
والله يعلم أني على حق وهذا إغراق في البعد عن الله - عز وجل - وإصرار
على الباطل {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} إذا جودل ونوقش أنت فعلت كذا أو
قلت كذا أو كيف نفهم هذا فإنه مستعد إلى أن يجيب ويكذب وأن يلفق ويعيد
ويزيد ليمرر هذا الفساد ويشيعه في الأرض وهنا لفتة قرآنية جميلة ينبغي أن
ننتبه لها وهي أن القول وحده لا يغرنا ولا يكون سبباً لتضليلنا هذا قوله
{وَإِذَا تَوَلَّى} إذا ترك هذا الكلام والمجال في المؤتمر الصحفي وفي
اللقاء التلفزيوني وذهب لحاله واختلا بنفسه ومارس حياته {وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} قال ابن كثير: (والسعي المراد به
هنا القصد) أي أنه عن سبق إصرار وترصد ليفسد في الأرض ما هي النتيجة
انظروا إلى التعبير القرآني البليغ {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}
الحرث في الزرع والنسل في البهائم فيكون إتلافاً لأسباب قوام حياة الناس
ومعاشهم وهذه صورة تبين لنا كيف يكون الفساد مبهرجاً وكيف يكون أثره في
الناس مفسداً وختمت الآية بقول الحق - جل وعلا - {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهذا من التمثيل والتحذير من هذا الفساد فإن كان غير محبوب لله - عز وجل - فإن كل مؤمن ينبغي أن يمنعه وأن يحاربه وأن يسعى إلى الوقوف في وجهه بكل ما يستطاع.
الفاسد
والمفسد من هو قدوته من هو مثله في القرآن فرعون أكفر أهل الأرض الذي قال
أنا ربكم الأعلى هو الموصوف بذلك كما في قوله - سبحانه وتعالى - في وصف فرعون: { إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص/4]، { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً}[يونس/92] ولما وقع له الغرق قال: { آَلْآَنَ
وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس/91] هذا هو
مثله ومثل آخر لأن القرآن يستوعب الأمر كله فمثل فرعون في فساده بطغيان
سياسي ومثل آخر لفساد يعمل أكثر وتتوسع دوائره ولا يكاد كثير من الناس
ينظر إليه في الخطاب القرآن لقارون قال الحق - جل وعلا - : { وَابْتَغِ
فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ
الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[القصص/77] {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْضِ} نهي ومثل هذا الفساد المالي مثل قارون ومثل القوم الذي بعث
فيهم شعيب وكان يقول لهم {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلَاحِهَا}[الأعراف/85] وبعد أن ذكرهم بما كانوا عليه من تطفيف المكيال
وبخس الناس أشيائهم فالقرآن يذكر لنا كل صور الفساد ويبين لنا منهج القرآن
في إنكار ذلك وإبعاده وتصوروا حتى تدركوا كيف يكون صاحب الفساد قادراً على
أن يقف أمام الناس وأن يتحدث بملء فمهم يكفي مرة أخرى أن نرجع إلى فرعون
الذي وصف الله - سبحانه وتعالى - حاله في قوله:
{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسَادَ}[غافر/26] كبير المفسدين يصف عظيم المصلحين في زمانه موسى -
عليه السلام - بأنه هو الذي سيشيع الفساد والمفسد
يمنع منه وهكذا تختلط الأمور فيأتي صاحب الحق والإيمان صاحب قول بشرع الله
ودعوة إلى دينه فيقال إن هذا مفسد يضل الناس أو يمنعهم من الحق والخير
وتنعكس الآية وتنقلب ولكي ندرك أيضاً في القرآن خطر الفساد وأنه وإن نحن
لم نمارسه وإن حرصنا على أن نجتنبه كأفراد لكننا لم نقل له بملء أفواهنا
لا وكلا ولا يجوز فإن الفساد سيصيبنا ضرره وسيصل إلينا شرره وسيحدق بنا
خطره لأن هذه هي طبيعة الأمور في الحياة والمجتمعات {ظَهَرَ الْفَسَادُ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}[الروم/41] والله - سبحانه وتعالى - بين
لنا في سورة أخرى صيغة مضطردة وقاعدة دائمة في المجتمعات إذا شاعت
المنكرات وعمت المفاسد فلم تنكرها القلوب وخرصت وبكمت الألسن والأفواه
وعميت الأبصار وصمت الآذان كأنها لا ترى منكراً ولا تعرف فساداً فإن
الدائرة تعم حتى يصيب ضررها كل أحد {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ
قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ
رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود/116،
117]، آيات تحتاج إلى التأمل ولا نتكلم عن مجرد تفسير قاله العلماء نتحدث
عن واقع نشهده كل يوم كل لحظة في كل عمل وفي كل قول {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو} لو كان في كل مجتمع بقية يقومون
بالمهمة العظيمة {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} ما الذي يعمم
الفساد عندما تقع المفسدة الأولى فلا تجد أحداً يقول هذه مفسدة ولا تقول
لصاحبها اتق الله فإنه لا يحل لك فتزداد وتتسع حتى يعم البلاء ولا يستثنى
من ذلك إلا من واجه الفساد واجتهد في إنكار المنكر وإشاعة المعروف
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ
يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ
أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} قلة تقوم بذلك {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا
أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} وجاءت القاعدة {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ليسوا
صالحين الصلاح في ذاته وحده حسن ومطلوب ونافع غير أنه لا يكفي في الدائرة
العامة لا يكفي في شؤون الأمم والمجتمعات التي تحتاج إلى التعاضد والتكاتف
وإلى أن يكون هناك حراك مجتمع ووعي اجتماعي يكون مرتبطاً بالمنهج الإسلامي
معروفاً ومنكراً فحين يقدم الإنسان على منكر يرى كل العيون ناظرة إليه
بالاستنكار والاستغراب وعندما يفعل خطأ يرى من حوله يتداركه بالنصح
والتنبيه أم الذي يتغير واقع مجتمعاتهم على غير ذلك فإن الأمور تصبح
مآلاتها خطيرة وما هذه الحوادث وغيرها من مباني قد تتدمر ومن جسور قد تسقط
ومن أمور قد يقع بها فساد عظيم وإتلاف للأموال والأرواح وضياع للمصالح
وتأخر في التنمية إلى غير ذلك إلا من منشأ هذا الفساد العظيم ومن هنا جاء
النهي عن هذا الفساد في القرآن الكريم على لسان رسل الله أنبياءه {وَلَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}[الأعراف/56] ذلك الأمر
وجاء الأمر أيضاً من موسى - عليه السلام - لأخيه
هارون {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف/142] وهذه
قضية مهمة ماذا يقول كثيرين منا وماذا أفعل كل الناس يرتشون وماذا أفعل كل
الناس يطلبون الواسطة وماذا أفعل كل الناس فأقول سبحان الله أليست عندنا
قلوب مؤمنة وعقول متدبرة أإذا كان الناس يسيرون إلى النار نسير ورائهم
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يكن
أحدكم إمعة ولكن وطنوا إن أحسنوا الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا
إساءتهم) ولو كل أحد قال لأكن أنا أول من يمتنع فإن الأمر حينئذ سيتطور
ولن يأتي فساد أو ينتهي بمجرد أمر أو قرار لأن الفساد مكانه في قلوبنا وفي
أفكارنا وفي مجالسنا وفي واقعنا وإنني أقول إننا جميعاً إن صدقنا اليوم
ونحن نتحدث في هذه اللحظة أليس كل منا مارس ضرباً من ضروب الفساد أو شارك
فيه أو أخذ بأسبابه في بنائه أو في شرائه أو في معاملاته أقول لو كنا
صادقين أحسب أننا جميعاً سنقول نعم أفليس حري بنا ونحن اليوم نتحدث عن
الفساد وعن لجاء التحقيق وعن غير ذلك أن نكون صادقين أولاً مع أنفسنا فلا
نكون لا من المفسدين ولا من القابلين الفساد ولا من الساكتين عليه بل من
المجاهرين بالإنكار عليه بالأسلوب الشرعي وبالقدر المستطاع في تعاضد
وتحالف يجعل المجتمع كله على قلب رجل واحد في الصلاح والإصلاح وفي رد
الفساد والإفساد وفي الإنكار على المفسدين مهما علت مكانتهم وارتقت
مناصبهم.
ومن
هنا جاءت الآيات تؤكد ذلك {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[المائدة/64]، والله لا يحب الفساد بل إن الله
- جل وعلا - قص لنا من أحوال أنبيائه الذين واجهوا
فساد أقوامهم فاستعانوا بربهم: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ}[العنكبوت/30].
ونخلص
إلى قواعد قرآنية لو أننا تأملناها لوجدنا أنها في غاية الوضوح في المعنى
والدلالة وفي غاية القوة في الرصانة والجزالة وفي غاية الأثر في التطبيق
والواقع {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس/81]
قرآن يُتلى قاعدة كل فساد لابد أن يثمر خطراً وضرراً مهما كان الأمر قد
يطول الأمر أو يقصر لكنه سيكون قد يظهر أو يخفى لكنه سيكون قد ينجو صاحبه
أو يعاقب لكنه سيكون وفي آخر الأمر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ} والقاعدة الثانية العاصمة {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص/26] وقد
قال - صلى الله عليه وسلم - في شأن آخر الزمان
ووصف ما يكون فيه من الأحوال (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل وما
ضياعها يا رسول الله قال أن يوسد الأمر غير أهله) وهذه قضية خطيرة أيضاً
وردت في حديث حذيفة عند مسلم في الصحيح أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
ندرة الأمانة قال: (حتى يقال في بني فلان رجل أمين) يعني في القبيلة
الكاملة لا يذكر إلا واحد متصف بالأمانة والبقية قد عمهم الفساد قل أو كثر
نسأل الله - عز وجل - السلامة وأريد أن لا نبرأ أنفسنا وأن لا ننظر إلى غيرنا كل منا كما قال - جل وعلا - :
{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة/14] يمكن أن نقول
نحن برءاء ونلقي بتهم الفساد هنا وهناك قد يكون ذلك فيه حق لكن أين الحق
الذي نحاسب به أنفسنا لأنه لو كان ذلك حقاً هو واقعنا لانتهى وانتفى
الفساد في معظمنا وبقي في قلة نستطيع أن نجابهها وأن نمنعها لكن كيف نرمي
الناس بالحصى وبيوتنا من زجاج أعني أن نكون صرحاء مع أنفسنا رغم أننا نقول
إن قصة الفساد ليست في هذه الأحداث وليست في هذه المحافظة في محافظات
بلادنا بل هي أعم من ذلك وكلنا يدرك وكلنا يعرف ولكننا لا نتحدث إلا إذا
جاءت الأسباب مع ما تضمه من هول يتيح الحديث أو من فرصة يعن أو يكون فيها
قرار يجعل الناس قادرين على الحديث وهنا أختم بالقاعدة الثالثة المهمة وقد
جاءت على لسان نبي من الأنبياء حتى ندرك أيها الأحبة الكرام أن المسألة لا
تستثني أحداً من العِظام على لسان نبي من الأنبياء يخاطب قومه {وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ
إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود/88] ما معنى ذلك أن يكون كل
صاحب منصب أعلى قدوة في الإصلاح ومنع الفساد فإذا كان نبي يقول لقومه وهو
يدعوهم إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ
إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} لن أقول لكم كونوا أصحاب نزاهة ويكون
البعيد غير نزيه كونوا أمنا ويكون القصي خائناً وهكذا.
هذه
قواعد ثلاث فيها أمان المجتمع المسلم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ} فلا نقبل الفساد ولا المفسدين ولا أعمالهم {إِنَّ خَيْرَ
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} نضع الأمر في نصابه والمهمة
لمن يكون أهلاً لها وأخيراً {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يكون كل أحد قدوة انظر حتى إلى بيتك الأب الذي يدخن
يعجز ويكون ضعيفاً أن يقول لأبنائه لا تدخنوا لأنه يخالفهم إلى ما ينهاهم
عنه فنسأل الله - عز وجل - أن يعيذنا من الفساد
ومن المنكرات وأن يقينا من شرورها وأضرارها وأن يجعلها بعيدة عن نفوسنا
وقلوبنا وعقولنا وأفكارنا وأقوالنا وكلامنا وأفعالنا وأحوالنا إنه ولي ذلك
والقادر عليه أقول قولي هذا واستغفر الله لي لكم فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم.
الخطبة الثانية:
أوصيكم
ونفسي الخاطئة بتقوى الله وإن من أعظم التقوى اجتناب الفساد ومسالكه
ومواجهته ومحاربته والنهي عنه وسد الأبواب في طريقه وإننا معاشر المؤمنين
لابد أن نذكر أثر الفساد الذي أشرت في كتاب الله - عز وجل - وقد جاء في سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - كثير وكثير من النصوص والوقائع التي تنبه على ذلك فابن اللتبية كان عاملاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان
يملك ذلك الإيمان الصافي والقلب النقي فجاء بالمال فقال يا رسول الله هذا
لكم وهذا أهدي إلي لم يكن يجد في ذلك حرجاً لم يكن يعرف له حرمة فكان قمة
في الشفافية التي يدعونا إلينا اليوم فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبهه
ويعلم الناس (ما بال رجل نوليه على الأمر من أمورنا فيقول هذا لكم وهذا
أهدي إلي أفلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته) لماذا جاءت إليك
الهدية لو لم تكن في هذا المنصب أو تلك الدائرة هكذا كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يعلم من المؤلم حقاً أن تكون جل
بل كل بلادنا العربية والإسلامية في ذيل القائمة في سلم الشفافية التي
يعلن عنها بتقارير عالمية سنوية فتجد الدولة تكون في مرتبة 120 تصبح في
مرتبة 119 أو 125 لكن انظروا إلى المراتب الأولى لتجدوا أنها لبلاد لا
تعرف هذا الإسلام لا ترى هذا المنهج لمحاربة الفساد في القرآن الكريم ليس
عندها علم وقائد وعظيم المصلحين في الخلق أجمعين رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ومع ذلك هذا هو الحال إن الأمر ليس
قضية متعلقة بحاكم أو بمسؤول أو بمدير بل هو يعم كل أحد حتى ذلك الأب في
بيته أو الزوج مع زوجه إلى غير ما ذكرت وتعلمون.
في
البخاري ترجمة قال فيها باب ما ينهى عن إضاعة المال وقوله - جل وعلا - :
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ
عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} وروى فيه حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وفيه: (أنه كره لكن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) قال النووي - رحمه الله - في
إضاعة المال (صرفه في غير وجهه الشرعي وتعريضه للتلف لأن ذلك فساد والله
لا يحب الفساد) وهكذا نجد الأمر يتسع ومن هنا ينبغي لنا أن نكون كما قلت
صرحاء مع أنفسنا فإن الفساد هو ما نهت عنه الشريعة وليست على العباد في
أمر الشريعة إلا الإتباع لأننا نستمع اليوم إلى أمور من أمر شرع الله
ويقال إنها ستؤدي إلى فساد وحتى بعض الملامح أيها الإخوة لا بأس أن أعرج
عليها سريعاً إن قال قائل بعض هذا الذي يجري هنا أو هناك أو في بلادنا هو
من أثر الذنوب قالوا هذا فكر سطحي وهذا كلام لا قيمة له سبحان ربك عما
يصفون إن هذا حق لكنه لا يبرر الخطأ وإن هذا حق لكنه لا يغني عن أن نتحدث
عن الأسباب والوقائع ولذلك تأملوا حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيح كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا
رأى مخيلة تغير وجهه وأقبل وأدبر حتى يُرى ذلك في وجه وفي رواية ترى
الكراهة في وجهه فإذا مُطر سري عنه فقالت أم المؤمنين عائشة تقول إن الناس
إذا رأوا المخيلة فرحوا وإذا رأيتها رأيت منك ما تكره قال يا عائشة وما
يأمنني أن يكون فيها عذاب كما قال قوم هود {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ}[الأحقاف/24] فالخوف من عذاب الله والخوف مما يجري به قدر الله
وهو من عقاب الله أمر من فعل رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعلم مثل ذلك وتأملوا أيضاً كيف كان الأمر مع خير خلق الله - صلى الله عليه وسلم - كما روى أنس في الصحيح: (جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فناشده وهو يقول يا رسول الله هلك المالك وجاع العيال فادعوا الله لنا فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال:
اللهم اسقنا قال أنس: فما نزل من منبره إلا وقد أمطرت وقبل ذلك قال فما
كان في السماء قزعة من سحاب فإذا بالسحاب تنعوا كأمثال الجبال فما نزل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منبره إلا
ورأيت الماء يتحدر من لحيته وقد أمطر وأمطر ذلك اليوم والذي بعده والذي
بعده حتى جاءت الجمعة فجاء الرجل نفسه وقيل غيره وقال: يا رسول الله تهدم
البناء وغرق المال فادعوا الله لنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم حولينا ولا علينا قال أنس: فإذا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول هكذا وهكذا والسحاب يتفرق فإذا بخارج المدينة يمطر والمدينة لا تمطر كأنها الإكليل.
تأملوا أيها الأخوة في ذلك فهذه رحمة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في
صحيح مسلم يسمي المطر رحمة وكان يقول اللهم صيباً نافعاً ولكنه كان يخشى
أيضاً أن يكون عذاباً ولذا علم أمته سقيا رحمة لا بلاء وهدم وغرق فهل نحن
عندما ندعو نكون مستحضرين لمثل هذا الدعاء.
وأخيراً
لاشك أن أمر البيان والقرار الملكي يذكر فيشكر لما فيه ليس من تعويض فحسب
وليس لتشكيل لجنة تحقيق فحسب بل لما فيه من معان ربطت أمر الفساد والإصلاح
بشريعة الله - عز وجل - والمسئولية التي في عنق كل
أحد وأولها وأعظمها في مسؤولية خادم الحرمين كل أحد بحسب مسئوليته (كلكم
راع وكلكم مسئول عن رعيته) ولذلك جاء هذا البيان في الحقيقة لكي يكون لنا
منه كثير من الجوانب دون أن ننظر إلى زاوية واحدة ولئن كانت هذه لجنة
لتحقيق قد تكشف جوانب من الفساد لكنها لا ينبغي هي أن تكون وحيدة في واقع
مجتمعنا وأمتنا وبلادنا بل ينبغي أن يكون هذا الأمر مضطرداً لا من اللجان
ولا من هيئات الرقابة والتحقيق فحسب وإنما من المجتمع إذا كنا في نفوسنا
وقلوبنا بذور فساد فلن يقضي عليها أي أمر أو قرار أو هيئة أو لجنة حتى
نقتلع بذور الفساد من القلوب والنفوس والعقول بتطهير قرآني وإتباع لهدي
رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فحينذاك يكون الأمر
على ما يمكن أن يكون عليه ولا شك أيها الأخوة الكرام أننا مدعوون جميعاً
في مثل هذه الواقعة أن نجسد صورة الأخوة والتآلف والتكاتف والتكافل (مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل جسد واحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) لجان تشكلت من المجتمع المدني ومن
الجمعيات الخيرية وقامت ولا تزال تقول بدور كبير في التطوع وإعانة الناس
وإغاثتهم وتسهم إسهاماً كبيراً لا يقل عن إسهام الجهات الحكومية وكلنا
مدعوون إلى ذلك وهذه اللجان أصبحت معروفة ومعلنة في الغرفة التجارية وفي
الندوة العالمية لها مقرات وقد أثبت الكثير من شبابنا بفضل الله - عز وجل - أنهم محبون للخير وأنهم مترجمون لروح المبادرة والتطوع وإيجادهم بفضل الله - عز وجل - بالمئات
بل ربما بلغ العدد الآن بالآلاف وهم يخرجون إلى الأماكن ويقومون بكثير من
الأعمال الطيبة المباركة التي لو لم يكن فيها إلا المواساة فضلاً عما يكون
فيها من الإعانة لكان فيها خير كثير فنسأل الله - عز وجل - أن يرحم موتانا وأن يتقبلهم في الشهداء وأن نسأل الله - عز وجل - أن يجبر كسر كل أهل فقدوا من فقدوا في هذه الأحداث نسأل الله - عز وجل - أن يلهمهم الصبر والسلوان وأن يجعل ما قدر عليهم تكفيراً لسيئاتهم ورفعة لدرجاتهم ومضاعفة لحسناتهم ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يجعلهم من الصالحين المحتسبين ونسأل الله - عز وجل - أن يخلف على كل من تلف له مال أو شيء أن يخلف الله عليه بخير في دنياه أو أخراه ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن لا يرينا ولا يري إخواننا في كل مكان في بلادنا الإسلامية مكروهاً في عزيز ولا في مال ولا في أهل إنه - جل وعلا - ولي كل ذلك والقادر عليه.
الكارثة
مذهلة والمأساة محزنة أرواح بالغرق أزهقت وبيوت بالمطر أتلفت ومركبات
وسيارات بالسيول دمرت وأمر يصيب بحزن عميق وألم كبير ونحن نقول ما قال
رسولنا - صلى الله عليه وسلم - (إن العين لتدمع وإن القلب ليحز ) ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
والحق - جل وعلا - يقول:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة/155، 156].
ولا
شك أن كل محنة وكربة تدفع إلى التأمل والتدبر في الأحوال وإلى النظر فيما
هو واقع من الخلل كما أنها من جهة أخرى عند كل مؤمن متيقظ وكل مسلم حي القلب تدعو إلى الالتجاء إلى الله - عز وجل - والرجوع إليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء فيه وإصلاح ما بيننا وبين ربنا.
ولئن
تعدد الحديث في هذه المأساة التي ألمت بمحافظتنا ومدينتنا وتشعبت وجوه
القول فيها وربما أيضاً تكثر جوانب العظة والعبرة فيها إلا أنني اخترت أن
أتحدث عن أمري في نظري هو أشد من خطر الأمطار ومما حل من الأضرار إنه
المحور الرئيس الذي قد يكون له النصيب الأوفى في أسباب مثل هذه الحوادث
بعد إيماننا بقضاء الله وقدره وهو كذلك السبب الذي إن لم ننتبه له ونحذر
منه ونصدق في كشفه ومعالجته فإن الداء السهل اليسير وإن المرض العابر
العارض سيصبح وباءً متفشياً كما نسمع عن أنفلونزا الخنازير الذي عم وباؤها
كل البلاد.
إنه
أمر تحدث عنه القرآن حديثاً وافياً شافياً كم نحن في حاجة إلى أن ننظر
إليه وأن نعرف أننا مرات ومرات نحتاج أن نقول إننا بعيدون عن كتاب ربنا
تدبراً وتأملاً وعلماً وفهماً وبالتالي نحن بعيدون في واقعنا عن هذا
القرآن سلوكاً وعملاً كما أوجزت أم المؤمنون عائشة - رضي الله عنها - وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلمات قليلة (كان خلقه القرآن).
الفساد
وما أدراك ما الفساد، فساد في الذمم تباع وتشترى، فساد في الضمائر تنام
فلا تصحو وتموت فلا تحيى، فساد في العقول تضل وتزيغ ولا ترعوي وتهتدي،
فساد في السلوك تنحل به الأخلاق ولا ترجع إلى فضيلة وقيم كنا ولا زلنا
وسنضل أحوج ما نكون إليها، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة/204، 205]، صورة مقصودها الأول من كفر ونافق
لكنها تعم في دلالتها حتى المسلم إذا زاغ وانحرف.
قال
القرطبي في تفسيره: (كل مبطل كفراً أو نفاقاً أو كذباً أو إضراراً وهو
يظهر خلافه فالآية عامة) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ} ذكر المفسرون هنا أوجهاً ثلاثة يقع بها الفساد ويتدثر
ويتستر ويبهرج نفسه ويغير صورته حسن القول واللفظ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أقوال منمقة وتصريحات
ملفقة وحضور إعلامي مبهر ويشهد الله على ما في قلبه من معاني ذلك أنه يقول
والله يعلم أني على حق وهذا إغراق في البعد عن الله - عز وجل - وإصرار
على الباطل {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} إذا جودل ونوقش أنت فعلت كذا أو
قلت كذا أو كيف نفهم هذا فإنه مستعد إلى أن يجيب ويكذب وأن يلفق ويعيد
ويزيد ليمرر هذا الفساد ويشيعه في الأرض وهنا لفتة قرآنية جميلة ينبغي أن
ننتبه لها وهي أن القول وحده لا يغرنا ولا يكون سبباً لتضليلنا هذا قوله
{وَإِذَا تَوَلَّى} إذا ترك هذا الكلام والمجال في المؤتمر الصحفي وفي
اللقاء التلفزيوني وذهب لحاله واختلا بنفسه ومارس حياته {وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} قال ابن كثير: (والسعي المراد به
هنا القصد) أي أنه عن سبق إصرار وترصد ليفسد في الأرض ما هي النتيجة
انظروا إلى التعبير القرآني البليغ {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}
الحرث في الزرع والنسل في البهائم فيكون إتلافاً لأسباب قوام حياة الناس
ومعاشهم وهذه صورة تبين لنا كيف يكون الفساد مبهرجاً وكيف يكون أثره في
الناس مفسداً وختمت الآية بقول الحق - جل وعلا - {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهذا من التمثيل والتحذير من هذا الفساد فإن كان غير محبوب لله - عز وجل - فإن كل مؤمن ينبغي أن يمنعه وأن يحاربه وأن يسعى إلى الوقوف في وجهه بكل ما يستطاع.
الفاسد
والمفسد من هو قدوته من هو مثله في القرآن فرعون أكفر أهل الأرض الذي قال
أنا ربكم الأعلى هو الموصوف بذلك كما في قوله - سبحانه وتعالى - في وصف فرعون: { إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص/4]، { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً}[يونس/92] ولما وقع له الغرق قال: { آَلْآَنَ
وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس/91] هذا هو
مثله ومثل آخر لأن القرآن يستوعب الأمر كله فمثل فرعون في فساده بطغيان
سياسي ومثل آخر لفساد يعمل أكثر وتتوسع دوائره ولا يكاد كثير من الناس
ينظر إليه في الخطاب القرآن لقارون قال الحق - جل وعلا - : { وَابْتَغِ
فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ
الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[القصص/77] {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْضِ} نهي ومثل هذا الفساد المالي مثل قارون ومثل القوم الذي بعث
فيهم شعيب وكان يقول لهم {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلَاحِهَا}[الأعراف/85] وبعد أن ذكرهم بما كانوا عليه من تطفيف المكيال
وبخس الناس أشيائهم فالقرآن يذكر لنا كل صور الفساد ويبين لنا منهج القرآن
في إنكار ذلك وإبعاده وتصوروا حتى تدركوا كيف يكون صاحب الفساد قادراً على
أن يقف أمام الناس وأن يتحدث بملء فمهم يكفي مرة أخرى أن نرجع إلى فرعون
الذي وصف الله - سبحانه وتعالى - حاله في قوله:
{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسَادَ}[غافر/26] كبير المفسدين يصف عظيم المصلحين في زمانه موسى -
عليه السلام - بأنه هو الذي سيشيع الفساد والمفسد
يمنع منه وهكذا تختلط الأمور فيأتي صاحب الحق والإيمان صاحب قول بشرع الله
ودعوة إلى دينه فيقال إن هذا مفسد يضل الناس أو يمنعهم من الحق والخير
وتنعكس الآية وتنقلب ولكي ندرك أيضاً في القرآن خطر الفساد وأنه وإن نحن
لم نمارسه وإن حرصنا على أن نجتنبه كأفراد لكننا لم نقل له بملء أفواهنا
لا وكلا ولا يجوز فإن الفساد سيصيبنا ضرره وسيصل إلينا شرره وسيحدق بنا
خطره لأن هذه هي طبيعة الأمور في الحياة والمجتمعات {ظَهَرَ الْفَسَادُ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}[الروم/41] والله - سبحانه وتعالى - بين
لنا في سورة أخرى صيغة مضطردة وقاعدة دائمة في المجتمعات إذا شاعت
المنكرات وعمت المفاسد فلم تنكرها القلوب وخرصت وبكمت الألسن والأفواه
وعميت الأبصار وصمت الآذان كأنها لا ترى منكراً ولا تعرف فساداً فإن
الدائرة تعم حتى يصيب ضررها كل أحد {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ
قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ
رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[هود/116،
117]، آيات تحتاج إلى التأمل ولا نتكلم عن مجرد تفسير قاله العلماء نتحدث
عن واقع نشهده كل يوم كل لحظة في كل عمل وفي كل قول {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو} لو كان في كل مجتمع بقية يقومون
بالمهمة العظيمة {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} ما الذي يعمم
الفساد عندما تقع المفسدة الأولى فلا تجد أحداً يقول هذه مفسدة ولا تقول
لصاحبها اتق الله فإنه لا يحل لك فتزداد وتتسع حتى يعم البلاء ولا يستثنى
من ذلك إلا من واجه الفساد واجتهد في إنكار المنكر وإشاعة المعروف
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ
يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ
أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} قلة تقوم بذلك {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا
أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} وجاءت القاعدة {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ليسوا
صالحين الصلاح في ذاته وحده حسن ومطلوب ونافع غير أنه لا يكفي في الدائرة
العامة لا يكفي في شؤون الأمم والمجتمعات التي تحتاج إلى التعاضد والتكاتف
وإلى أن يكون هناك حراك مجتمع ووعي اجتماعي يكون مرتبطاً بالمنهج الإسلامي
معروفاً ومنكراً فحين يقدم الإنسان على منكر يرى كل العيون ناظرة إليه
بالاستنكار والاستغراب وعندما يفعل خطأ يرى من حوله يتداركه بالنصح
والتنبيه أم الذي يتغير واقع مجتمعاتهم على غير ذلك فإن الأمور تصبح
مآلاتها خطيرة وما هذه الحوادث وغيرها من مباني قد تتدمر ومن جسور قد تسقط
ومن أمور قد يقع بها فساد عظيم وإتلاف للأموال والأرواح وضياع للمصالح
وتأخر في التنمية إلى غير ذلك إلا من منشأ هذا الفساد العظيم ومن هنا جاء
النهي عن هذا الفساد في القرآن الكريم على لسان رسل الله أنبياءه {وَلَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}[الأعراف/56] ذلك الأمر
وجاء الأمر أيضاً من موسى - عليه السلام - لأخيه
هارون {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف/142] وهذه
قضية مهمة ماذا يقول كثيرين منا وماذا أفعل كل الناس يرتشون وماذا أفعل كل
الناس يطلبون الواسطة وماذا أفعل كل الناس فأقول سبحان الله أليست عندنا
قلوب مؤمنة وعقول متدبرة أإذا كان الناس يسيرون إلى النار نسير ورائهم
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يكن
أحدكم إمعة ولكن وطنوا إن أحسنوا الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا
إساءتهم) ولو كل أحد قال لأكن أنا أول من يمتنع فإن الأمر حينئذ سيتطور
ولن يأتي فساد أو ينتهي بمجرد أمر أو قرار لأن الفساد مكانه في قلوبنا وفي
أفكارنا وفي مجالسنا وفي واقعنا وإنني أقول إننا جميعاً إن صدقنا اليوم
ونحن نتحدث في هذه اللحظة أليس كل منا مارس ضرباً من ضروب الفساد أو شارك
فيه أو أخذ بأسبابه في بنائه أو في شرائه أو في معاملاته أقول لو كنا
صادقين أحسب أننا جميعاً سنقول نعم أفليس حري بنا ونحن اليوم نتحدث عن
الفساد وعن لجاء التحقيق وعن غير ذلك أن نكون صادقين أولاً مع أنفسنا فلا
نكون لا من المفسدين ولا من القابلين الفساد ولا من الساكتين عليه بل من
المجاهرين بالإنكار عليه بالأسلوب الشرعي وبالقدر المستطاع في تعاضد
وتحالف يجعل المجتمع كله على قلب رجل واحد في الصلاح والإصلاح وفي رد
الفساد والإفساد وفي الإنكار على المفسدين مهما علت مكانتهم وارتقت
مناصبهم.
ومن
هنا جاءت الآيات تؤكد ذلك {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[المائدة/64]، والله لا يحب الفساد بل إن الله
- جل وعلا - قص لنا من أحوال أنبيائه الذين واجهوا
فساد أقوامهم فاستعانوا بربهم: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ}[العنكبوت/30].
ونخلص
إلى قواعد قرآنية لو أننا تأملناها لوجدنا أنها في غاية الوضوح في المعنى
والدلالة وفي غاية القوة في الرصانة والجزالة وفي غاية الأثر في التطبيق
والواقع {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس/81]
قرآن يُتلى قاعدة كل فساد لابد أن يثمر خطراً وضرراً مهما كان الأمر قد
يطول الأمر أو يقصر لكنه سيكون قد يظهر أو يخفى لكنه سيكون قد ينجو صاحبه
أو يعاقب لكنه سيكون وفي آخر الأمر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ} والقاعدة الثانية العاصمة {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص/26] وقد
قال - صلى الله عليه وسلم - في شأن آخر الزمان
ووصف ما يكون فيه من الأحوال (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل وما
ضياعها يا رسول الله قال أن يوسد الأمر غير أهله) وهذه قضية خطيرة أيضاً
وردت في حديث حذيفة عند مسلم في الصحيح أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
ندرة الأمانة قال: (حتى يقال في بني فلان رجل أمين) يعني في القبيلة
الكاملة لا يذكر إلا واحد متصف بالأمانة والبقية قد عمهم الفساد قل أو كثر
نسأل الله - عز وجل - السلامة وأريد أن لا نبرأ أنفسنا وأن لا ننظر إلى غيرنا كل منا كما قال - جل وعلا - :
{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة/14] يمكن أن نقول
نحن برءاء ونلقي بتهم الفساد هنا وهناك قد يكون ذلك فيه حق لكن أين الحق
الذي نحاسب به أنفسنا لأنه لو كان ذلك حقاً هو واقعنا لانتهى وانتفى
الفساد في معظمنا وبقي في قلة نستطيع أن نجابهها وأن نمنعها لكن كيف نرمي
الناس بالحصى وبيوتنا من زجاج أعني أن نكون صرحاء مع أنفسنا رغم أننا نقول
إن قصة الفساد ليست في هذه الأحداث وليست في هذه المحافظة في محافظات
بلادنا بل هي أعم من ذلك وكلنا يدرك وكلنا يعرف ولكننا لا نتحدث إلا إذا
جاءت الأسباب مع ما تضمه من هول يتيح الحديث أو من فرصة يعن أو يكون فيها
قرار يجعل الناس قادرين على الحديث وهنا أختم بالقاعدة الثالثة المهمة وقد
جاءت على لسان نبي من الأنبياء حتى ندرك أيها الأحبة الكرام أن المسألة لا
تستثني أحداً من العِظام على لسان نبي من الأنبياء يخاطب قومه {وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ
إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود/88] ما معنى ذلك أن يكون كل
صاحب منصب أعلى قدوة في الإصلاح ومنع الفساد فإذا كان نبي يقول لقومه وهو
يدعوهم إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ
إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} لن أقول لكم كونوا أصحاب نزاهة ويكون
البعيد غير نزيه كونوا أمنا ويكون القصي خائناً وهكذا.
هذه
قواعد ثلاث فيها أمان المجتمع المسلم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ} فلا نقبل الفساد ولا المفسدين ولا أعمالهم {إِنَّ خَيْرَ
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} نضع الأمر في نصابه والمهمة
لمن يكون أهلاً لها وأخيراً {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يكون كل أحد قدوة انظر حتى إلى بيتك الأب الذي يدخن
يعجز ويكون ضعيفاً أن يقول لأبنائه لا تدخنوا لأنه يخالفهم إلى ما ينهاهم
عنه فنسأل الله - عز وجل - أن يعيذنا من الفساد
ومن المنكرات وأن يقينا من شرورها وأضرارها وأن يجعلها بعيدة عن نفوسنا
وقلوبنا وعقولنا وأفكارنا وأقوالنا وكلامنا وأفعالنا وأحوالنا إنه ولي ذلك
والقادر عليه أقول قولي هذا واستغفر الله لي لكم فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم.
الخطبة الثانية:
أوصيكم
ونفسي الخاطئة بتقوى الله وإن من أعظم التقوى اجتناب الفساد ومسالكه
ومواجهته ومحاربته والنهي عنه وسد الأبواب في طريقه وإننا معاشر المؤمنين
لابد أن نذكر أثر الفساد الذي أشرت في كتاب الله - عز وجل - وقد جاء في سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - كثير وكثير من النصوص والوقائع التي تنبه على ذلك فابن اللتبية كان عاملاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان
يملك ذلك الإيمان الصافي والقلب النقي فجاء بالمال فقال يا رسول الله هذا
لكم وهذا أهدي إلي لم يكن يجد في ذلك حرجاً لم يكن يعرف له حرمة فكان قمة
في الشفافية التي يدعونا إلينا اليوم فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبهه
ويعلم الناس (ما بال رجل نوليه على الأمر من أمورنا فيقول هذا لكم وهذا
أهدي إلي أفلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته) لماذا جاءت إليك
الهدية لو لم تكن في هذا المنصب أو تلك الدائرة هكذا كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يعلم من المؤلم حقاً أن تكون جل
بل كل بلادنا العربية والإسلامية في ذيل القائمة في سلم الشفافية التي
يعلن عنها بتقارير عالمية سنوية فتجد الدولة تكون في مرتبة 120 تصبح في
مرتبة 119 أو 125 لكن انظروا إلى المراتب الأولى لتجدوا أنها لبلاد لا
تعرف هذا الإسلام لا ترى هذا المنهج لمحاربة الفساد في القرآن الكريم ليس
عندها علم وقائد وعظيم المصلحين في الخلق أجمعين رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ومع ذلك هذا هو الحال إن الأمر ليس
قضية متعلقة بحاكم أو بمسؤول أو بمدير بل هو يعم كل أحد حتى ذلك الأب في
بيته أو الزوج مع زوجه إلى غير ما ذكرت وتعلمون.
في
البخاري ترجمة قال فيها باب ما ينهى عن إضاعة المال وقوله - جل وعلا - :
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ
عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} وروى فيه حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وفيه: (أنه كره لكن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) قال النووي - رحمه الله - في
إضاعة المال (صرفه في غير وجهه الشرعي وتعريضه للتلف لأن ذلك فساد والله
لا يحب الفساد) وهكذا نجد الأمر يتسع ومن هنا ينبغي لنا أن نكون كما قلت
صرحاء مع أنفسنا فإن الفساد هو ما نهت عنه الشريعة وليست على العباد في
أمر الشريعة إلا الإتباع لأننا نستمع اليوم إلى أمور من أمر شرع الله
ويقال إنها ستؤدي إلى فساد وحتى بعض الملامح أيها الإخوة لا بأس أن أعرج
عليها سريعاً إن قال قائل بعض هذا الذي يجري هنا أو هناك أو في بلادنا هو
من أثر الذنوب قالوا هذا فكر سطحي وهذا كلام لا قيمة له سبحان ربك عما
يصفون إن هذا حق لكنه لا يبرر الخطأ وإن هذا حق لكنه لا يغني عن أن نتحدث
عن الأسباب والوقائع ولذلك تأملوا حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيح كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا
رأى مخيلة تغير وجهه وأقبل وأدبر حتى يُرى ذلك في وجه وفي رواية ترى
الكراهة في وجهه فإذا مُطر سري عنه فقالت أم المؤمنين عائشة تقول إن الناس
إذا رأوا المخيلة فرحوا وإذا رأيتها رأيت منك ما تكره قال يا عائشة وما
يأمنني أن يكون فيها عذاب كما قال قوم هود {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ}[الأحقاف/24] فالخوف من عذاب الله والخوف مما يجري به قدر الله
وهو من عقاب الله أمر من فعل رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعلم مثل ذلك وتأملوا أيضاً كيف كان الأمر مع خير خلق الله - صلى الله عليه وسلم - كما روى أنس في الصحيح: (جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فناشده وهو يقول يا رسول الله هلك المالك وجاع العيال فادعوا الله لنا فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال:
اللهم اسقنا قال أنس: فما نزل من منبره إلا وقد أمطرت وقبل ذلك قال فما
كان في السماء قزعة من سحاب فإذا بالسحاب تنعوا كأمثال الجبال فما نزل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منبره إلا
ورأيت الماء يتحدر من لحيته وقد أمطر وأمطر ذلك اليوم والذي بعده والذي
بعده حتى جاءت الجمعة فجاء الرجل نفسه وقيل غيره وقال: يا رسول الله تهدم
البناء وغرق المال فادعوا الله لنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم حولينا ولا علينا قال أنس: فإذا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول هكذا وهكذا والسحاب يتفرق فإذا بخارج المدينة يمطر والمدينة لا تمطر كأنها الإكليل.
تأملوا أيها الأخوة في ذلك فهذه رحمة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في
صحيح مسلم يسمي المطر رحمة وكان يقول اللهم صيباً نافعاً ولكنه كان يخشى
أيضاً أن يكون عذاباً ولذا علم أمته سقيا رحمة لا بلاء وهدم وغرق فهل نحن
عندما ندعو نكون مستحضرين لمثل هذا الدعاء.
وأخيراً
لاشك أن أمر البيان والقرار الملكي يذكر فيشكر لما فيه ليس من تعويض فحسب
وليس لتشكيل لجنة تحقيق فحسب بل لما فيه من معان ربطت أمر الفساد والإصلاح
بشريعة الله - عز وجل - والمسئولية التي في عنق كل
أحد وأولها وأعظمها في مسؤولية خادم الحرمين كل أحد بحسب مسئوليته (كلكم
راع وكلكم مسئول عن رعيته) ولذلك جاء هذا البيان في الحقيقة لكي يكون لنا
منه كثير من الجوانب دون أن ننظر إلى زاوية واحدة ولئن كانت هذه لجنة
لتحقيق قد تكشف جوانب من الفساد لكنها لا ينبغي هي أن تكون وحيدة في واقع
مجتمعنا وأمتنا وبلادنا بل ينبغي أن يكون هذا الأمر مضطرداً لا من اللجان
ولا من هيئات الرقابة والتحقيق فحسب وإنما من المجتمع إذا كنا في نفوسنا
وقلوبنا بذور فساد فلن يقضي عليها أي أمر أو قرار أو هيئة أو لجنة حتى
نقتلع بذور الفساد من القلوب والنفوس والعقول بتطهير قرآني وإتباع لهدي
رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فحينذاك يكون الأمر
على ما يمكن أن يكون عليه ولا شك أيها الأخوة الكرام أننا مدعوون جميعاً
في مثل هذه الواقعة أن نجسد صورة الأخوة والتآلف والتكاتف والتكافل (مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل جسد واحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) لجان تشكلت من المجتمع المدني ومن
الجمعيات الخيرية وقامت ولا تزال تقول بدور كبير في التطوع وإعانة الناس
وإغاثتهم وتسهم إسهاماً كبيراً لا يقل عن إسهام الجهات الحكومية وكلنا
مدعوون إلى ذلك وهذه اللجان أصبحت معروفة ومعلنة في الغرفة التجارية وفي
الندوة العالمية لها مقرات وقد أثبت الكثير من شبابنا بفضل الله - عز وجل - أنهم محبون للخير وأنهم مترجمون لروح المبادرة والتطوع وإيجادهم بفضل الله - عز وجل - بالمئات
بل ربما بلغ العدد الآن بالآلاف وهم يخرجون إلى الأماكن ويقومون بكثير من
الأعمال الطيبة المباركة التي لو لم يكن فيها إلا المواساة فضلاً عما يكون
فيها من الإعانة لكان فيها خير كثير فنسأل الله - عز وجل - أن يرحم موتانا وأن يتقبلهم في الشهداء وأن نسأل الله - عز وجل - أن يجبر كسر كل أهل فقدوا من فقدوا في هذه الأحداث نسأل الله - عز وجل - أن يلهمهم الصبر والسلوان وأن يجعل ما قدر عليهم تكفيراً لسيئاتهم ورفعة لدرجاتهم ومضاعفة لحسناتهم ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يجعلهم من الصالحين المحتسبين ونسأل الله - عز وجل - أن يخلف على كل من تلف له مال أو شيء أن يخلف الله عليه بخير في دنياه أو أخراه ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن لا يرينا ولا يري إخواننا في كل مكان في بلادنا الإسلامية مكروهاً في عزيز ولا في مال ولا في أهل إنه - جل وعلا - ولي كل ذلك والقادر عليه.