جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وجَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
قال الله عز وجل :﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾(آل عمران: 86) ، وقال سبحانه ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) ، فأتى بالفعل ( جاءهم ) مع ( البينات ) مذكَّرًا في الآية الأولى ، وأتى بالفعل ( جاءتهم ) معها مؤنَّثًا في الآية الثانية .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لم أتى هذا الفعل في الآية الأولى مذكَّرًا ، وأتى في الآية الثانية مؤنَّثًا ، والمسند إليه في الآيتين واحد ، وهو ( البينات ) ؟ وما الفرق بينهما ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- ( البيِّنات ) جمع ( بيِّنة ) ، وهو جمع تكسير يدل على الكثرة ، من قولهم : بان الشيء يبين ، و( الباء والياء والنون ) أصل واحد ، يدل على بُعْد الشيء وانكشافه . فالبَيْن : الفراق . يقال : بان يبين بَيْنًا وبَيْنُونة . ويقال : بان الشيءُ وأبَانَ ، إذا اتّضحَ وانْكشفَ . وفلانٌ أبْيَنُ من فلان نطقًا وكلامًا . أي : أوْضحُ بيانًا منه . قال الراغب في مفرداته :« والبيان : الكشف عن الشيء ، وهو أعم من النطق ، مختص بالإنسان ، ويسمَّى ما بُيِّن به بَيانًا . قال بعضهم : البيان يكون على ضربين : أحدهما بالتنجيز ؛ وهو الأشياء التي تدل على حال من الأحوال من آثار صنعه . والثاني بالاختبار ؛ وذلك إما أن يكون نطقًا ، أو كتابة ، أو إشارة » .
فممَّا هو بيان بالحال قوله تعالى :﴿ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾(الزخرف: 62) . أي : كونه عدوًّا بيِّن في الحال .. وما هو بيان بالاختبار قوله تعالى :﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾(النحل: 44) .
وسُمِّىَ الكلام بيانًا ، لكشفه عن المعنى المقصود إظهارُه ؛ نحو قوله تعالى :﴿ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ﴾(آل عمران: 138) . وسُمِّىَ ما يشرح به المجمل والمبهم من الكلام بيانًا ؛ نحو قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 19) . ويقال : وقد بينته له الشيء تبيينًا وبيانًا ، وأبنته ، إذا جعلت له بيانًا تكشفه . وتبين له الشيء : بان واتَّضح . قال تعالى :﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾(العنكبوت: 38) . أي : قد ظهر لكم إهلاكهم من مساكنهم . وقال تعالى :﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾(البقرة: 256) . أي : ظهر ذلك بالآيات البينات . وقال تعالى :﴿ لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾(النحل: 44) .
وقال سبحانه وتعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴾(الحج: 16) . أي : آيات ظاهرات واضحات الدلالة ، مفردها : بيِّنة . قال الله تعالى :﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾(الأنفال: 42) . أي : ليكفر من كفر ، ويؤمن مَن آمن عن وضوح وبيان ، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾(الأنعام: 57) . أي : على بيان . وقوله تعالى :﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾(البقرة: 211) . أي : آية ظاهرة واضحة ؛ كـ( فلق البحر ) ، و( إنزال المن والسلوى ) وغيرهما ، وهي المشار إليها بقوله تعالى :﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾(البقرة: 253) ، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ (الإسراء: 101) .
ويقال : آيات بينات ، اعتبارًا بمن بيَّنها ، ويقال : آيات مبيِّنات ، اعتبارًا بأنها مبيّنة لغيرها . قال تعالى :﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾(النور: 1) . أي : واضحات بأنفسها ، ثم قال :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ﴾(النور: 34) . أي : موضحة لغيرها . والبينة : الدلالة الواضحة عقليَّة كانت أو حسيَّة ، وسُمِّيَ الشاهدان ( بَيِّنَةٌ ) ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :« البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر » .
ثانيًا- ونعود بعد هذا إلى الجواب عن السؤال ، وقبل الإجابة عنه أذكر هنا ما قاله بعض المفسرين في التعليل لتذكير الفعل ( جاء ) مع ( البينات ):
قال الرازي :« إنما قال :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) ، ولم يقل :﴿ جَاءتْهُمُ ﴾ ؛ لجواز حذف علامةٍ من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدمًا » . وقال ابن عادل :« قال :﴿ فقدْ جَاءَكُم ﴾ ، ولم يُؤنَّث الفِعْل ؛ لأن التَّأنيث مجازيُّ ، وللفَصْل بالمَفْعُول . وقيل : لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدِّمًا » . وقال السمين الحلبي :« وقوله :﴿ جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ لم يؤنِّثِ الفعلَ ؛ للفصلِ ، ولكونِه غيرَ حقيقي ، بمعنى : الدلائل » .
وذهب العلامة الدكتور فاضل السامرائي في الجواب عن هذا السؤال مذهبًا خالف فيه المفسرين ، وكان قد سئل عن الفرق من الناحية البيانية بين قوله تعالى :﴿ جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾) ، وقوله تعالى :﴿ جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ في القرآن الكريم ، فقال ما نصُّه :« يؤنّث الفعل مع ( البيّنات ) إذا كانت ( الآيات ) تدلّ على النبوءات ، فأينما وقعت بهذا المعنى يأتي الفعل مؤنثاً ؛ كما في قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ إِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(البقرة: 209) .. أما ( جاءهم البيّنات ) بالتذكير ، فـ( البيّنات ) هنا تأتي بمعنى الأمر والنهي ، وحيثما وردت كلمة ( البيّنات ) بهذا المعنى من الأمر والنهي يُذكّر الفعل ؛ كما في قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران:86) » .
وهكذا يضيف السامرائي خطأ آخر إلى أخطائه التي لا تكاد تعد وتحصى ، فيزعم أن ( البينات ) إذا كانت بمعنى ( النبوءات ) جاء الفعل معها بالتأنيث ، وإذا كانت بمعنى ( النهي والأمر ) جاء الفعل معها بالتذكير ، وهو زعم باطل لا أساس له ولا وجود إلا في مخيلته ، وهو أحد عجائبه التي خدع الناس بها وما زال يخدعهم ، وقد سبق أن ذكرنا أن ( البيّنات ) جمع ( بيِّنة ) ، وهي مؤنث غير حقيقي ، وقد ورد ذكرها كجمع معرف بالألف واللام في كتاب الله عز وجل في أربع وثلاثين آية ، والمراد بها فيها جميعًا : المعجزات والدلائل التي احتج الله تعالى بها على صدق نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وأن ما جاءوا به هو الحق من ربهم عز وجل ، وقد أسندت إلى الفعل في سبع آيات منها : أربع آيات أتى الفعل فيها بالتأنيث ، وثلاث آيات منها أتى الفعل فيها بالتذكير ، وهي الآيات التي ذكرها السامرائي في جوابه السابق ؛ وهي قوله تعالى :
1- ﴿ إِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(البقرة: 209) .
2- ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) .
3- ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(البقرة: 253) .
4- ﴿ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(النساء: 153) .
1- ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) .
2- ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) .
3- ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) .
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بلفظ ( البينات ) في هذه الآيات : المعجزات والحجج والبراهين الدالة على صدق نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وأن ما جاءوا به هو الحق من ربهم جل وعلا ، ويكفي دليلاً على ذلك أن نذكر قول الطبري في آيتين من تلك الآيات أتى الفعل في الأولى مؤنَّثًا ، وفي الثانية مذكَّرا ؛ وهما قوله تعالى :
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) .
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86)
قال الطبري في الآية الأولى :« يعني بذلك : من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله » . وقال في الآية الثانية :« يعني : وجاءهم الحجج من عند الله ، والدلائلُ بصحة ذلك » ، وعلى هذا القول جمهور المفسرين .
وذكر أبو حيان أن المراد بـ( البينات ) في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) على قول ابن عباس : آيات الله التي أنزلت على أهل كل ملة . وعلى قول الحسن : التوراة . وعلى قول قتادة وأبي أمامة : القرآن . وذهب الشوكاني إلى أن المراد بـ( البينات ) في قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) : الأدلة العقلية ، والنقلية التي توجب التوحيد .
والظاهر أن الذي غرَّ الدكتور السامرائي وخدعه ، وهو العالم المبدع الذي لا حدود لإبداعه ، مجيء النهي في أول قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) ، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) ، ثم مجيء الأمر بعده في تتمة الآية :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(غافر: 66) ، فالتبس عليه الأمر ، وظن أن ( البينات ) هنا بمعنى الأمر والنهي ، وهو قول لم يقل به عالم لا من قبله ، ولا من بعده ، هذا إن جاز أن نطلق عليه اسم عالم .
والدليل على ما نقول نأخذه من قول السامرائي نفسه ، فحين سئل عن سبب تذكير الفعل مع ( آية ) في نحو قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، أجاب بقوله :« نقول أنه من حيث الحكم النحوي يجوز تذكير وتأنيث الفعل ؛ لكن يبقى السر البياني لهذا التذكير والتأنيث . ونقول أنه عندما تكون كلمة ( آية ) بمعنى ( الدليل والبرهان ) ، تكون بمعنى مذكّر فيأتي الفعل بالتذكير ، وإذا كانت كلمة ( الآية ) بمعنى ( الآية القرآنية ) أنّث الفعل » .
هذا قوله بنصِّه دون تغيير ، وهو يتناقض مع قوله السابق ، ولا يخفى على أحد أن ( آية ) مفرد : آيات ، ومثلها في ذلك ( بينة ) مفرد : بينات ، وكثيرًا ما توصف الآية بالبينة والآيات بالبينات ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾(العنكبوت: 35) ، ﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾(البقرة: 99) . وقوله تعالى :﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾(البقرة: 211) إشارة إلى ( البينات ) التي جاءهم بها موسى عليه السلام ، وأخبر الله تعالى عنها بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾(البقرة: 92) .
وكما يأتي الفعل مع ( آية ) مذكَّرًا ومؤنَّثًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، وقوله تعالى :﴿ وََإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ﴾(الأنعام: 124) ؛ فكذلك يأتي مع ( بينة ) مذكَّرًا ومؤنَّثًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأنعام: 157) ، وقوله تعالى :﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾(الأعراف: 73) .
وواضح من هذه الآيات والتي سبقها أن المراد بكل من ( آية ) ، و( بينة ) ، و( بينات ) : المعجزات الدالة على صدق النبوة ، وأن حكمها واحد من حيث تذكير الفعل ، وتأنيثه ، وليس فيها ما يشير إلى أن تأنيث الفعل مع ( آية ) يدل على أنها بمعنى ( الآية القرآنية ) ، وأن تذكيره مع ( البينات ) يدل على أنها بمعنى ( النهي والأمر ) ، خلافًا لما زعمه السامرائي .
تأمل بعد ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) ، كيف أتى الفعل مذكَّرًا مع ( البينات ) ، والمراد بها : الأدلة العقلية ، والنقلية التي توجب التوحيد ، وتأمل قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ﴾(الأنعام: 109) ، كيف أتى الفعل مؤنَّثًا مع ( آية ) ، والمراد بها المعجزة الخارقة للعادة .
وليت شعري كيف يعلِّل السامرائي لتذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾(العنكبوت: 50) ، وقد قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم :( آيةٌ ) بالإفراد ؛ لأن غالب ما جاء في القرآن كذلك ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم :( آياتٌ ) بالجمع ؛ لأن بعده ﴿ قُلْ إِنَّمَا الآيات ﴾ بالجمع إجماعًا ؛ وإِنما أرادوا أن تنزل عليهم ( آية ) ، أو ( آيات ) كآيات الأنبياء ؛ مثل ناقة صالح ، ومائدة عيسى عليهما السلام ؟
ثالثًا- نخلص مما تقدم إلى أن لفظ ( البينات ) مؤنث غير حقيقي ، وهو جمع ( بينة ) ، ويجوز معهما تذكير الفعل ، وتأنيثه .
1- فإذا باشرهما الفعل ، كان تأنيثه أحسن ؛ كما في قولك :( جاءت بينة ) ، و( جاءت بينات ) ، ويجوز تذكيره ؛ كما في قولك :( جاء بينة ) ، و( جاء بينات ) . وقد حكى سيبويه عن بعض العرب تذكيرهم الفعل مع المؤنث الحقيقي ، فقال :« وقال بعض العرب : قال فُلانةُ » . وإنما جردوا الفعل من تاء التأنيث ، استغناء بالمؤنث الظاهر عن علامته . فإذا جاز تذكير الفعل مع المؤنث الحقيقي في لغة بعض العرب ، فمن الأولى أن يجوز ذلك مع المؤنث غير الحقيقي .
2- وإذا فصل بين الفعل وفاعله فاصل ، كان التذكير مع الفصل أحسن ؛ لأن الفصل يغني عن تاء التأنيث في الفعل ؛ سواء كان الفاعل مؤنَّثًا حقيقيًّا كما في قوله تعالى :﴿ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ ﴾(الممتحنة: 12) ، أو كان مجازيًّا كما في قوله تعالى :﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ ﴾ (الأنعام: 157) ، وقوله تعالى :﴿ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) ، وقوله تعالى :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، قال الزمخشري :« وذُكِّر الفعل ، والفاعل مؤنث ؛ لأن تأنيث ( آية ) غير حقيقي ، وحسُن للفصل » .
وقال سيبويه :« وكلما طال الكلام فهو أحسنُ ؛ نحو قولك : حضر القاضي امرأةٌ ؛ لأنه إذا طال الكلام ، كان الحذف أجملُ ؛ وكأنه شيءٌ يصير بدلاً من شيء » . ثم قال :« وإنما حذفوا التاء ؛ لأنهم صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء . ومما جاء في القرآن من المَوات قد حُذفت فيه التاء قوله عز وجل :﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ ﴾(البقرة: 275) ، وقوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) . وهذا النحو كثيرٌ في القرآن ، وهو في الواحدة إذا كانت من الآدميين أقل منه في سائر الحيوان . ألا ترى أن لهم في الجميع حالاً ليست لغيرهم ؛ لأنهم الأوّلون ، وأنهم قد فُضِّلوا بما لم يفضَّل به غيرهم من العقل والعلم » .
وقال الزركشي في البرهان :« التأنيث ضربان : حقيقي ، وغيره . فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالبًا إلا إن وقع فصل ، وكلما كثر الفصل حسن الحذف ، والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعًا . وأما غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل أحسن ؛ نحو :﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾(البقرة: 275) ، ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾(آل عمران: 13) . فإن كثر الفصل ازداد حسنًا ؛ نحو :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، والإثبات أيضًا حسن ؛ نحو :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) ، فجمع بينهما في سورة هود . وأشار بعضهم إلى ترجيح الحذف ، واستدل عليه بأن الله قدمه على الإثبات حيث جمع بينهما » .
3- إذا عرفت هذا ، فاعلم :
أ- أن سبب تأنيث الفعل في قوله تعالى :﴿ وََإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ ﴾(الأنعام: 124) ، ﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأعراف: 73) ، ونحوهما ، هو كون المسند إليه مفردًا مؤنَّثًا ؛ ولهذا السبب أيضًا أتى الفعل مؤنَّثًا مع جمع ذلك المفرد المؤنث ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾(النمل: 13) ، وقوله تعالى :﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) ؛ فأنِّث الفعل معهما مراعاة لمعنى الجماعة . وواضح أن المراد بـ( الآية والبينة ) : المعجزة ، وبـ(الآيات والبينات ) : المعجزات الدالة على التوحيد وصدق النبوَّة .
ب- وأما سبب تذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾(آل عمران: 13) ، ﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، ﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأنعام: 157) ، ونحو ذلك ، فإنما هو كون المراد بـ( الآية ) ، و( البينة ) : البيان الذي هو دليل وبرهان على النبوَّة ؛ فذُكِّر الفعل معهما مراعاة لهذا المعنى . وأما قوله تعالى :﴿ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾(العنكبوت: 50) ، ﴿ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) ، فذكِّر الفعل معهما مراعاة لمعنى الجنس . أي : جنس الآيات والبينات .
قال القرطبي :« قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾(آل عمران: 13) . أي : علامة . وقال :( كان ) ، ولم يقل :( كانت ) ؛ لأن ( آية ) تأنيثها غير حقيقي . وقيل : ردَّها إلى البيان . أي : قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ » . وقال ابن الجوزي في زاد المسير :« فإن قيل : لم قال :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ ، ولم يقل :( قد كانت لكم ) ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أَن ما ليس بمؤنث حقيقي يجوز تذكيره . والثاني : أنه ردَّ المعنى إلى البيان ؛ فمعناه : قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ » . وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) :« ﴿ جَاءهُمُ ﴾ مذكر على الجمع ، و﴿ جَاءتْهُمُ ﴾ على الجماعة » .
وأما البقاعي فبعد أن وصف ( البينات ) في قوله تعالى :﴿ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) بأنها القاطعة بأن ما جاءهم حق ، وأنه رسول الله قطعًا ، قال :« لا شيء أقوى من بيانه ، ولا أشد من ظهوره ، بما أشعر به إسقاط تاء التأنيث من جاء » ، فهو قول ليس بشيء . ولو قال : إن مجيء ( البينات ) مع حذف التاء أسرع من مجيئها مع إثبات التاء ، لما جانب الصواب . فقولك :( جاءهم آية ، أو بينة ، أو بينات ) أسرع من قولك :( جاءتهم آية أو بينة ، أو بينات ) .
وأما ما زعمه السامرائي من أن ( الآية ) إذا كانت بمعنى : الآية القرآنية ، أنّث الفعل معها ، وأن ( البيّنات ) إذا كانت بمعنى النهي والأمر ، ذكِّر الفعل معها ، فهو قول من لا يفقه شيئًا في كتاب الله عز وجل . ونزيد الأمر بيانًا ووضوحًا وتأكيدًا على ما نقول وتأييدًا له ، فنقول :
الأصل في هذا الباب : أن الفعل المسند إلى فاعل مؤنث ، لحقته علامة التأنيث ؛ سواء كان متصلاً بفاعله أم كان بينهما حاجز ، وسواء كان تأنيث الفاعل حقيقيًّا ، أم مجازيًّا ؛ نحو قوله تعالى :﴿ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ﴾(يوسف: 51) ، ﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأعراف: 73) ، ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾(المؤمنون: 66) ، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(النساء: 153) ؛ إلا أن يكون الفاعل المؤنَّث في معنى اسم آخر ، فحينذ يذكَّر الفعل مراعاة لمعنى ذلك الاسم إذا كان الفاعل مفردًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأنعام: 157) . أي : قد جاءكم بيان من ربكم ، ويذكَّر الفعل مراعاة لمعنى الجنس إذا كان الفاعل جمعًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) . أي : جاءهم جنس البينات ، أو جاءهم البيان ، وبهذا فسر الآية مقاتل ، فقال :« يعنى البيان » . ومثل ذلك قال في تفسير قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) ، قال :« يعنى : البيان » .
وأختم بقول ابن قيِّم الجوزية :« فهكذا ينبغي أن يفهم كلام الله ، لا كفهم المحرفين له عن مواضعه » ، نسأله سبحانه أن يعيننا على فهم كلامه ، وأن ينوِّر بصائر وقلوبنا ؛ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ .. والحمد لله رب العالمين !
قال الله عز وجل :﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾(آل عمران: 86) ، وقال سبحانه ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) ، فأتى بالفعل ( جاءهم ) مع ( البينات ) مذكَّرًا في الآية الأولى ، وأتى بالفعل ( جاءتهم ) معها مؤنَّثًا في الآية الثانية .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لم أتى هذا الفعل في الآية الأولى مذكَّرًا ، وأتى في الآية الثانية مؤنَّثًا ، والمسند إليه في الآيتين واحد ، وهو ( البينات ) ؟ وما الفرق بينهما ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- ( البيِّنات ) جمع ( بيِّنة ) ، وهو جمع تكسير يدل على الكثرة ، من قولهم : بان الشيء يبين ، و( الباء والياء والنون ) أصل واحد ، يدل على بُعْد الشيء وانكشافه . فالبَيْن : الفراق . يقال : بان يبين بَيْنًا وبَيْنُونة . ويقال : بان الشيءُ وأبَانَ ، إذا اتّضحَ وانْكشفَ . وفلانٌ أبْيَنُ من فلان نطقًا وكلامًا . أي : أوْضحُ بيانًا منه . قال الراغب في مفرداته :« والبيان : الكشف عن الشيء ، وهو أعم من النطق ، مختص بالإنسان ، ويسمَّى ما بُيِّن به بَيانًا . قال بعضهم : البيان يكون على ضربين : أحدهما بالتنجيز ؛ وهو الأشياء التي تدل على حال من الأحوال من آثار صنعه . والثاني بالاختبار ؛ وذلك إما أن يكون نطقًا ، أو كتابة ، أو إشارة » .
فممَّا هو بيان بالحال قوله تعالى :﴿ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾(الزخرف: 62) . أي : كونه عدوًّا بيِّن في الحال .. وما هو بيان بالاختبار قوله تعالى :﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾(النحل: 44) .
وسُمِّىَ الكلام بيانًا ، لكشفه عن المعنى المقصود إظهارُه ؛ نحو قوله تعالى :﴿ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ﴾(آل عمران: 138) . وسُمِّىَ ما يشرح به المجمل والمبهم من الكلام بيانًا ؛ نحو قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 19) . ويقال : وقد بينته له الشيء تبيينًا وبيانًا ، وأبنته ، إذا جعلت له بيانًا تكشفه . وتبين له الشيء : بان واتَّضح . قال تعالى :﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾(العنكبوت: 38) . أي : قد ظهر لكم إهلاكهم من مساكنهم . وقال تعالى :﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾(البقرة: 256) . أي : ظهر ذلك بالآيات البينات . وقال تعالى :﴿ لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾(النحل: 44) .
وقال سبحانه وتعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴾(الحج: 16) . أي : آيات ظاهرات واضحات الدلالة ، مفردها : بيِّنة . قال الله تعالى :﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾(الأنفال: 42) . أي : ليكفر من كفر ، ويؤمن مَن آمن عن وضوح وبيان ، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾(الأنعام: 57) . أي : على بيان . وقوله تعالى :﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾(البقرة: 211) . أي : آية ظاهرة واضحة ؛ كـ( فلق البحر ) ، و( إنزال المن والسلوى ) وغيرهما ، وهي المشار إليها بقوله تعالى :﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾(البقرة: 253) ، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ (الإسراء: 101) .
ويقال : آيات بينات ، اعتبارًا بمن بيَّنها ، ويقال : آيات مبيِّنات ، اعتبارًا بأنها مبيّنة لغيرها . قال تعالى :﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾(النور: 1) . أي : واضحات بأنفسها ، ثم قال :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ﴾(النور: 34) . أي : موضحة لغيرها . والبينة : الدلالة الواضحة عقليَّة كانت أو حسيَّة ، وسُمِّيَ الشاهدان ( بَيِّنَةٌ ) ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :« البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر » .
ثانيًا- ونعود بعد هذا إلى الجواب عن السؤال ، وقبل الإجابة عنه أذكر هنا ما قاله بعض المفسرين في التعليل لتذكير الفعل ( جاء ) مع ( البينات ):
قال الرازي :« إنما قال :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) ، ولم يقل :﴿ جَاءتْهُمُ ﴾ ؛ لجواز حذف علامةٍ من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدمًا » . وقال ابن عادل :« قال :﴿ فقدْ جَاءَكُم ﴾ ، ولم يُؤنَّث الفِعْل ؛ لأن التَّأنيث مجازيُّ ، وللفَصْل بالمَفْعُول . وقيل : لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدِّمًا » . وقال السمين الحلبي :« وقوله :﴿ جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ لم يؤنِّثِ الفعلَ ؛ للفصلِ ، ولكونِه غيرَ حقيقي ، بمعنى : الدلائل » .
وذهب العلامة الدكتور فاضل السامرائي في الجواب عن هذا السؤال مذهبًا خالف فيه المفسرين ، وكان قد سئل عن الفرق من الناحية البيانية بين قوله تعالى :﴿ جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾) ، وقوله تعالى :﴿ جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ في القرآن الكريم ، فقال ما نصُّه :« يؤنّث الفعل مع ( البيّنات ) إذا كانت ( الآيات ) تدلّ على النبوءات ، فأينما وقعت بهذا المعنى يأتي الفعل مؤنثاً ؛ كما في قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ إِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(البقرة: 209) .. أما ( جاءهم البيّنات ) بالتذكير ، فـ( البيّنات ) هنا تأتي بمعنى الأمر والنهي ، وحيثما وردت كلمة ( البيّنات ) بهذا المعنى من الأمر والنهي يُذكّر الفعل ؛ كما في قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران:86) » .
وهكذا يضيف السامرائي خطأ آخر إلى أخطائه التي لا تكاد تعد وتحصى ، فيزعم أن ( البينات ) إذا كانت بمعنى ( النبوءات ) جاء الفعل معها بالتأنيث ، وإذا كانت بمعنى ( النهي والأمر ) جاء الفعل معها بالتذكير ، وهو زعم باطل لا أساس له ولا وجود إلا في مخيلته ، وهو أحد عجائبه التي خدع الناس بها وما زال يخدعهم ، وقد سبق أن ذكرنا أن ( البيّنات ) جمع ( بيِّنة ) ، وهي مؤنث غير حقيقي ، وقد ورد ذكرها كجمع معرف بالألف واللام في كتاب الله عز وجل في أربع وثلاثين آية ، والمراد بها فيها جميعًا : المعجزات والدلائل التي احتج الله تعالى بها على صدق نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وأن ما جاءوا به هو الحق من ربهم عز وجل ، وقد أسندت إلى الفعل في سبع آيات منها : أربع آيات أتى الفعل فيها بالتأنيث ، وثلاث آيات منها أتى الفعل فيها بالتذكير ، وهي الآيات التي ذكرها السامرائي في جوابه السابق ؛ وهي قوله تعالى :
1- ﴿ إِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(البقرة: 209) .
2- ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) .
3- ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(البقرة: 253) .
4- ﴿ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(النساء: 153) .
1- ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) .
2- ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) .
3- ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) .
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بلفظ ( البينات ) في هذه الآيات : المعجزات والحجج والبراهين الدالة على صدق نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وأن ما جاءوا به هو الحق من ربهم جل وعلا ، ويكفي دليلاً على ذلك أن نذكر قول الطبري في آيتين من تلك الآيات أتى الفعل في الأولى مؤنَّثًا ، وفي الثانية مذكَّرا ؛ وهما قوله تعالى :
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) .
﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86)
قال الطبري في الآية الأولى :« يعني بذلك : من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله » . وقال في الآية الثانية :« يعني : وجاءهم الحجج من عند الله ، والدلائلُ بصحة ذلك » ، وعلى هذا القول جمهور المفسرين .
وذكر أبو حيان أن المراد بـ( البينات ) في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) على قول ابن عباس : آيات الله التي أنزلت على أهل كل ملة . وعلى قول الحسن : التوراة . وعلى قول قتادة وأبي أمامة : القرآن . وذهب الشوكاني إلى أن المراد بـ( البينات ) في قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) : الأدلة العقلية ، والنقلية التي توجب التوحيد .
والظاهر أن الذي غرَّ الدكتور السامرائي وخدعه ، وهو العالم المبدع الذي لا حدود لإبداعه ، مجيء النهي في أول قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) ، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) ، ثم مجيء الأمر بعده في تتمة الآية :﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(غافر: 66) ، فالتبس عليه الأمر ، وظن أن ( البينات ) هنا بمعنى الأمر والنهي ، وهو قول لم يقل به عالم لا من قبله ، ولا من بعده ، هذا إن جاز أن نطلق عليه اسم عالم .
والدليل على ما نقول نأخذه من قول السامرائي نفسه ، فحين سئل عن سبب تذكير الفعل مع ( آية ) في نحو قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، أجاب بقوله :« نقول أنه من حيث الحكم النحوي يجوز تذكير وتأنيث الفعل ؛ لكن يبقى السر البياني لهذا التذكير والتأنيث . ونقول أنه عندما تكون كلمة ( آية ) بمعنى ( الدليل والبرهان ) ، تكون بمعنى مذكّر فيأتي الفعل بالتذكير ، وإذا كانت كلمة ( الآية ) بمعنى ( الآية القرآنية ) أنّث الفعل » .
هذا قوله بنصِّه دون تغيير ، وهو يتناقض مع قوله السابق ، ولا يخفى على أحد أن ( آية ) مفرد : آيات ، ومثلها في ذلك ( بينة ) مفرد : بينات ، وكثيرًا ما توصف الآية بالبينة والآيات بالبينات ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾(العنكبوت: 35) ، ﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾(البقرة: 99) . وقوله تعالى :﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾(البقرة: 211) إشارة إلى ( البينات ) التي جاءهم بها موسى عليه السلام ، وأخبر الله تعالى عنها بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾(البقرة: 92) .
وكما يأتي الفعل مع ( آية ) مذكَّرًا ومؤنَّثًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، وقوله تعالى :﴿ وََإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ﴾(الأنعام: 124) ؛ فكذلك يأتي مع ( بينة ) مذكَّرًا ومؤنَّثًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأنعام: 157) ، وقوله تعالى :﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾(الأعراف: 73) .
وواضح من هذه الآيات والتي سبقها أن المراد بكل من ( آية ) ، و( بينة ) ، و( بينات ) : المعجزات الدالة على صدق النبوة ، وأن حكمها واحد من حيث تذكير الفعل ، وتأنيثه ، وليس فيها ما يشير إلى أن تأنيث الفعل مع ( آية ) يدل على أنها بمعنى ( الآية القرآنية ) ، وأن تذكيره مع ( البينات ) يدل على أنها بمعنى ( النهي والأمر ) ، خلافًا لما زعمه السامرائي .
تأمل بعد ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي ﴾(غافر: 66) ، كيف أتى الفعل مذكَّرًا مع ( البينات ) ، والمراد بها : الأدلة العقلية ، والنقلية التي توجب التوحيد ، وتأمل قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ﴾(الأنعام: 109) ، كيف أتى الفعل مؤنَّثًا مع ( آية ) ، والمراد بها المعجزة الخارقة للعادة .
وليت شعري كيف يعلِّل السامرائي لتذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾(العنكبوت: 50) ، وقد قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم :( آيةٌ ) بالإفراد ؛ لأن غالب ما جاء في القرآن كذلك ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم :( آياتٌ ) بالجمع ؛ لأن بعده ﴿ قُلْ إِنَّمَا الآيات ﴾ بالجمع إجماعًا ؛ وإِنما أرادوا أن تنزل عليهم ( آية ) ، أو ( آيات ) كآيات الأنبياء ؛ مثل ناقة صالح ، ومائدة عيسى عليهما السلام ؟
ثالثًا- نخلص مما تقدم إلى أن لفظ ( البينات ) مؤنث غير حقيقي ، وهو جمع ( بينة ) ، ويجوز معهما تذكير الفعل ، وتأنيثه .
1- فإذا باشرهما الفعل ، كان تأنيثه أحسن ؛ كما في قولك :( جاءت بينة ) ، و( جاءت بينات ) ، ويجوز تذكيره ؛ كما في قولك :( جاء بينة ) ، و( جاء بينات ) . وقد حكى سيبويه عن بعض العرب تذكيرهم الفعل مع المؤنث الحقيقي ، فقال :« وقال بعض العرب : قال فُلانةُ » . وإنما جردوا الفعل من تاء التأنيث ، استغناء بالمؤنث الظاهر عن علامته . فإذا جاز تذكير الفعل مع المؤنث الحقيقي في لغة بعض العرب ، فمن الأولى أن يجوز ذلك مع المؤنث غير الحقيقي .
2- وإذا فصل بين الفعل وفاعله فاصل ، كان التذكير مع الفصل أحسن ؛ لأن الفصل يغني عن تاء التأنيث في الفعل ؛ سواء كان الفاعل مؤنَّثًا حقيقيًّا كما في قوله تعالى :﴿ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ ﴾(الممتحنة: 12) ، أو كان مجازيًّا كما في قوله تعالى :﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ ﴾ (الأنعام: 157) ، وقوله تعالى :﴿ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) ، وقوله تعالى :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، قال الزمخشري :« وذُكِّر الفعل ، والفاعل مؤنث ؛ لأن تأنيث ( آية ) غير حقيقي ، وحسُن للفصل » .
وقال سيبويه :« وكلما طال الكلام فهو أحسنُ ؛ نحو قولك : حضر القاضي امرأةٌ ؛ لأنه إذا طال الكلام ، كان الحذف أجملُ ؛ وكأنه شيءٌ يصير بدلاً من شيء » . ثم قال :« وإنما حذفوا التاء ؛ لأنهم صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء . ومما جاء في القرآن من المَوات قد حُذفت فيه التاء قوله عز وجل :﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ ﴾(البقرة: 275) ، وقوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) . وهذا النحو كثيرٌ في القرآن ، وهو في الواحدة إذا كانت من الآدميين أقل منه في سائر الحيوان . ألا ترى أن لهم في الجميع حالاً ليست لغيرهم ؛ لأنهم الأوّلون ، وأنهم قد فُضِّلوا بما لم يفضَّل به غيرهم من العقل والعلم » .
وقال الزركشي في البرهان :« التأنيث ضربان : حقيقي ، وغيره . فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالبًا إلا إن وقع فصل ، وكلما كثر الفصل حسن الحذف ، والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعًا . وأما غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل أحسن ؛ نحو :﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾(البقرة: 275) ، ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾(آل عمران: 13) . فإن كثر الفصل ازداد حسنًا ؛ نحو :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 67) ، والإثبات أيضًا حسن ؛ نحو :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾(هود: 94) ، فجمع بينهما في سورة هود . وأشار بعضهم إلى ترجيح الحذف ، واستدل عليه بأن الله قدمه على الإثبات حيث جمع بينهما » .
3- إذا عرفت هذا ، فاعلم :
أ- أن سبب تأنيث الفعل في قوله تعالى :﴿ وََإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ ﴾(الأنعام: 124) ، ﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأعراف: 73) ، ونحوهما ، هو كون المسند إليه مفردًا مؤنَّثًا ؛ ولهذا السبب أيضًا أتى الفعل مؤنَّثًا مع جمع ذلك المفرد المؤنث ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾(النمل: 13) ، وقوله تعالى :﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾(البقرة: 213) ؛ فأنِّث الفعل معهما مراعاة لمعنى الجماعة . وواضح أن المراد بـ( الآية والبينة ) : المعجزة ، وبـ(الآيات والبينات ) : المعجزات الدالة على التوحيد وصدق النبوَّة .
ب- وأما سبب تذكير الفعل في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾(آل عمران: 13) ، ﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾( الأنعام: 37) ، ﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأنعام: 157) ، ونحو ذلك ، فإنما هو كون المراد بـ( الآية ) ، و( البينة ) : البيان الذي هو دليل وبرهان على النبوَّة ؛ فذُكِّر الفعل معهما مراعاة لهذا المعنى . وأما قوله تعالى :﴿ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾(العنكبوت: 50) ، ﴿ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) ، فذكِّر الفعل معهما مراعاة لمعنى الجنس . أي : جنس الآيات والبينات .
قال القرطبي :« قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾(آل عمران: 13) . أي : علامة . وقال :( كان ) ، ولم يقل :( كانت ) ؛ لأن ( آية ) تأنيثها غير حقيقي . وقيل : ردَّها إلى البيان . أي : قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ » . وقال ابن الجوزي في زاد المسير :« فإن قيل : لم قال :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ ، ولم يقل :( قد كانت لكم ) ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أَن ما ليس بمؤنث حقيقي يجوز تذكيره . والثاني : أنه ردَّ المعنى إلى البيان ؛ فمعناه : قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ » . وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) :« ﴿ جَاءهُمُ ﴾ مذكر على الجمع ، و﴿ جَاءتْهُمُ ﴾ على الجماعة » .
وأما البقاعي فبعد أن وصف ( البينات ) في قوله تعالى :﴿ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) بأنها القاطعة بأن ما جاءهم حق ، وأنه رسول الله قطعًا ، قال :« لا شيء أقوى من بيانه ، ولا أشد من ظهوره ، بما أشعر به إسقاط تاء التأنيث من جاء » ، فهو قول ليس بشيء . ولو قال : إن مجيء ( البينات ) مع حذف التاء أسرع من مجيئها مع إثبات التاء ، لما جانب الصواب . فقولك :( جاءهم آية ، أو بينة ، أو بينات ) أسرع من قولك :( جاءتهم آية أو بينة ، أو بينات ) .
وأما ما زعمه السامرائي من أن ( الآية ) إذا كانت بمعنى : الآية القرآنية ، أنّث الفعل معها ، وأن ( البيّنات ) إذا كانت بمعنى النهي والأمر ، ذكِّر الفعل معها ، فهو قول من لا يفقه شيئًا في كتاب الله عز وجل . ونزيد الأمر بيانًا ووضوحًا وتأكيدًا على ما نقول وتأييدًا له ، فنقول :
الأصل في هذا الباب : أن الفعل المسند إلى فاعل مؤنث ، لحقته علامة التأنيث ؛ سواء كان متصلاً بفاعله أم كان بينهما حاجز ، وسواء كان تأنيث الفاعل حقيقيًّا ، أم مجازيًّا ؛ نحو قوله تعالى :﴿ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ﴾(يوسف: 51) ، ﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأعراف: 73) ، ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾(المؤمنون: 66) ، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(النساء: 153) ؛ إلا أن يكون الفاعل المؤنَّث في معنى اسم آخر ، فحينذ يذكَّر الفعل مراعاة لمعنى ذلك الاسم إذا كان الفاعل مفردًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾(الأنعام: 157) . أي : قد جاءكم بيان من ربكم ، ويذكَّر الفعل مراعاة لمعنى الجنس إذا كان الفاعل جمعًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 86) . أي : جاءهم جنس البينات ، أو جاءهم البيان ، وبهذا فسر الآية مقاتل ، فقال :« يعنى البيان » . ومثل ذلك قال في تفسير قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾(آل عمران: 105) ، قال :« يعنى : البيان » .
وأختم بقول ابن قيِّم الجوزية :« فهكذا ينبغي أن يفهم كلام الله ، لا كفهم المحرفين له عن مواضعه » ، نسأله سبحانه أن يعيننا على فهم كلامه ، وأن ينوِّر بصائر وقلوبنا ؛ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ .. والحمد لله رب العالمين !