في سياق حديث القرآن الكريم عن فريق من الناس يعبدون الله على تردد وتشكك، يذكر سبحانه من صفات هذا الفريق أنه: { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } (الحج:12)، ثم يبين عز وجل أن هؤلاء المدعوين ضررهم أكثر من نفعهم، فيقول تعالى: { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير } (الحج:13).
وهاتان
الآيتين الكريمتان قد يبدو بينهما للوهلة الأولى شيء من التعارض والتناقض؛
وذلك أن الآية الأولى نفت أن يكون لهؤلاء المدعوين أي تأثير فيمن يدعونهم
نفعاً أو ضراً؛ بالمقابل فإن الآية الثانية أثبتت لهؤلاء المدعوين شيئاً من
التأثير، حيث قررت أن ضرهم أكثر من نفعهم، ومفهوم هذا أنهم يملكون ضراً
ونفعاً؛ لأن صيغة التفضيل في قوله: { أقرب }
دلت على أن هناك نفعاً وضراً، ولكن الضر أقرب من النفع. غير أن المعبود من
دون الله، ليس فيه نفع البتة، حتى يقال فيه: إن ضره أقرب من نفعه. فهذا وجه
التعارض بين الآيتين. فكيف التوفيق بينهما؟
يذكر المفسرون أجوبة عديدة في التوفيق بين الآيتين، نختار منها ما ذكره الرازي وما ذكره أبو حيان ، ففيما ذكراه بيان لما هو مطلوب، وغَناء عما سواهما:
أما الرازي فقد وفَّق بين الآيتين بأمور ثلاثة، نذكر منها اثنين:
أحدهما: أن الأصنام لا تضر بأنفسها ولا تنفع، ولكن عبادتها سبب الضرر؛ وذلك كافٍ في إضافة الضرر إليها، كقوله تعالى: { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس }
(إبراهيم:36)، فأضاف الإضلال إلى الأصنام من حيث كانوا سبباً للضلال.
وهكذا هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى بمعنى كونها فاعلة، وأضاف الضرر
إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر. وعليه، فإن الضر والنفع
المنفيين في الآية الأولى ما يكون بطريق المباشرة، أما الضر والنفع
المثبتين في الآية الثانية ما يكون بطريق التسبب.
وتأسيساً
على هذا التوجيه، فإن إثبات الضر والنفع للمدعوين، ليس على سبيل الحقيقة،
وإنما هو على سبيل الإضافة، كما نقول: هذا مال فلان. فنسبة الملك لفلان
إنما هي نسبة إضافية، وليست حقيقية؛ لأن المالك الحقيقي للمال هو الله
سبحانه، قال تعالى: { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } (النور:33).
ثانيهما:
أن إضافة النفع والضر إلى هؤلاء المدعوين، إنما هو على سبيل الافتراض،
ومسايرة الخصم في المجادلة، فكأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في
الحقيقة لا تضر ولا تنفع، ثم قال في الآية الثانية: لو سلمنا كونها ضارة
نافعة، لكان ضررها أكثر من نفعها. وعلى هذا، فإن الضر والنفع المنفيين هما
الحقيقيان، والضر والنفع المثبتان هما الافتراضيان.
أما أبو حيان فقد
وفق بين الآيتين بما حاصله: أن الآية الأولى واردة في الذين يعبدون
الأصنام، فالأصنام لا تنفع مَن عَبَدها، ولا تضر من كفر بها؛ ولذا قال
فيها: { ما لا يضره وما لا ينفعه }، والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام، هي التعبير بحرف (ما) في قوله { ما لا يضره وما لا ينفعه }؛ لأن هذا الحرف يأتي لما لا يعقل، والأصنام لا تعقل.
أما الآية الأخرى فهي فيمن عبد بعض الطغاة المعبودين من دون الله، كفرعون القائل: { ما علمت لكم من إله غيري } (القصص:38)، والقائل: { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } (الشعراء:29)، والقائل: { أنا ربكم الأعلى } (النازعات:24)، فإن فرعون ونحوه من الطغاة المعبودين قد يغدقون نِعَم الدنيا على عابديهم؛ ولذا قال له سحرته: { أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين }
(الشعراء:41-42)، فهذا النفع الدنيوي بالنسبة إلى ما سيلاقونه، من العذاب
والخلود في النار، لا يساوي شيئاً يذكر، فضرُّ هذا المعبود بخلود عباده في
النار، أقرب من نفعه، بعَرَض قليل زائل من حطام الدنيا. والقرينة على أن
المعبود في هذه بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء: هي التعبير بالحرف
(مَن)، الذي يأتي لمن يعقل في قوله: { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه }.
هذا، وقد عقب الشيخ الشنقيطي على جواب أبي حيان بقوله: وله اتجاه. وهذا تصويب من الشيخ لما ذهب إليه أبو حيان .
ومن متممات الحديث عن هاتين الآيتين، أن إيراد صيغة التفضيل في قوله سبحانه: { أقرب من نفعه }، مع عدم النفع بالمرة؛ للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي، وللتهكم بحال المدعوين الذي لا يملكون من أمرها شيئاً.
وبناء
على ما تقدم، يتضح ألا تعارض في الحقيقة بين الآيتين، بل كل واحدة منهما
كاشفة عن وجه المقصود، ومبينة أن الضار والنافع في المحصلة هو الله سبحانه،
وأن الأصنام - سواء أكانت بشرية أم حجرية - لا نفع فيها بحال من الأحوال،
بل هي ضرر بحت لمن يعبدها