باب ظلم دون ظلم 32 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة ح قال وحدثني بشر بن خالد أبو محمد العسكري قال حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا لم يظلم فأنزل الله عز وجل إن الشرك لظلم عظيم
الشروح
قوله : ( باب ظلم دون ظلم ) دون يحتمل أن تكون بمعنى غير ، أي أنواع الظلم متغايرة . أو بمعنى الأدنى ، أي : بعضها أخف من بعض ، وهو أظهر في مقصود المصنف . وهذه الجملة لفظ حديث رواه أحمد في كتاب الإيمان من حديث عطاء ، ورواه أيضا من طريق طاوس عن ابن عباس بمعناه ، وهو في معنى قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله الآية ، فاستعمله المؤلف ترجمة ، واستدل له بالحديث المرفوع . ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله " بظلم " عموم أنواع المعاصي ، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك على ما سنوضحه ، فدل على أن للظلم مراتب متفاوتة . ومناسبة إيراد هذا عقب ما تقدم من أن المعاصي غير الشرك لا ينسب صاحبها إلى الكفر المخرج عن الملة على هذا التقرير ظاهرة . قوله : ( حدثنا أبو الوليد ) هو الطيالسي . قوله : ( وحدثني بشر ) هو في الروايات المصححة بواو العطف ، وفي بعض النسخ قبلها صورة ح ، فإن كان من أصل التصنيف فهي مهملة مأخوذة من التحويل على المختار . وإن كانت مزيدة من بعض الرواة فيحتمل أن تكون مهملة كذلك أو معجمة مأخوذة من البخاري لأنها رمزه ، أي : قال البخاري : وحدثني بشر ، وهو ابن خالد العسكري وشيخه محمد هو ابن جعفر المعروف بغندر ، وهو أثبت الناس في شعبة ، ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عاليا عن أبي الوليد ، واللفظ المساق هنا لفظ بشر ، وكذلك أخرج النسائي عنه وتابعه ابن أبي عدي عن شعبة ، وهو عند المؤلف في تفسير الأنعام ، وأما لفظ أبي الوليد - ص 110 - فساقه المؤلف في قصة لقمان بلفظ " أينا لم يلبس إيمانه بظلم " وزاد فيه أبو نعيم في مستخرجه من طريق سليمان بن حرب عن شعبة بعد قوله : إن الشرك لظلم عظيم : فطابت أنفسنا . واقتضت رواية شعبة هذه أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان ، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب . ففي رواية جرير عنه " فقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال : ليس بذلك ، ألا تسمعون إلى قول لقمان " . وفي رواية وكيع عنه " فقال ليس كما تظنون " . وفي رواية عيسى بن يونس : " إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان " . وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم ولذلك نبههم عليها ، ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان . قال الخطابي : كان الشرك عند الصحابة أكبر من أن يلقب بالظلم ، فحملوا الظلم في الآية على ما عداه - يعني من المعاصي - فسألوا عن ذلك ، فنزلت هذه الآية . كذا قال ، وفيه نظر ، والذي يظهر لي أنهم حملوا الظلم على عمومه ، الشرك فما دونه ، وهو الذي يقتضيه صنيع المؤلف . وإنما حملوه على العموم لأن قوله : ( بظلم ) نكرة في سياق النفي ; لكن عمومها هنا بحسب الظاهر . قال المحققون : إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه نحو " من " في قوله : ما جاءني من رجل ، أفاد تنصيص العموم ، وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر كما فهمه الصحابة من هذه الآية ، وبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ظاهرها غير مراد ، بل هو من العام الذي أريد به الخاص ، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك . فإن قيل : من أين يلزم أن من لبس الإيمان بظلم لا يكون آمنا ولا مهتديا حتى شق عليهم ، والسياق إنما يقتضي أن من لم يوجد منه الظلم فهو آمن ومهتد ، فما الذي دل على نفي ذلك عمن وجد منه الظلم ؟ فالجواب أن ذلك مستفاد من المفهوم وهو مفهوم الصفة ، أو مستفاد من الاختصاص المستفاد من تقديم " لهم " على الأمن ، أي : لهم الأمن لا لغيرهم ، كذا قال الزمخشري في قوله تعالى إياك نعبد وقال في قوله تعالى كلا إنها كلمة هو قائلها تقديم " هو " على " قائلها " يفيد الاختصاص ، أي : هو قائلها لا غيره ، فإن قيل : لا يلزم من قوله : إن الشرك لظلم عظيم أن غير الشرك لا يكون ظلما . فالجواب أن التنوين في قوله لظلم للتعظيم ، وقد بين ذلك استدلال الشارع بالآية الثانية ، فالتقدير لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم أي بشرك ، إذ لا ظلم أعظم منه ، وقد ورد ذلك صريحا عند المؤلف في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه " قلنا : يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما تقولون ، لم يلبسوا إيمانهم بظلم : بشرك . أولم تسمعوا إلى قول لقمان " فذكر الآية واستنبط منه المازري جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ونازعه القاضي عياض فقال : ليس في هذه القصة تكليف عمل ، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر ، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده فما هي الحاجة ؟ ويمكن أن يقال : المعتقدات أيضا تحتاج إلى البيان ، فلما أجمل الظلم حتى تناول إطلاقه جميع المعاصي شق عليهم حتى ورد البيان فما انتفت الحاجة . والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر . قوله : ( ولم يلبسوا ) أي لم يخلطوا ، تقول : لبست الأمر بالتخفيف ، ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل ، أي خلطته . وتقول : لبست الثوب ألبسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل . وقال محمد بن إسماعيل التيمي في شرحه : خلط الإيمان بالشرك لا يتصور فالمراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان كفر متأخر - ص 111 - عن إيمان متقدم . أي : لم يرتدوا . ويحتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا ، أي : لم ينافقوا . وهذا أوجه ، ولهذا عقبه المصنف بباب علامات المنافق ، وهذا من بديع ترتيبه . ثم في هذا الإسناد رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم الأعمش عن شيخه إبراهيم بن يزيد النخعي عن خاله علقمة بن قيس النخعي ، والثلاثة كوفيون فقهاء ، وعبد الله الصحابي هو ابن مسعود . وهذه الترجمة أحد ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد . والأعمش موصوف بالتدليس ولكن في رواية حفص بن غياث التي تقدمت الإشارة إليها عند المؤلف عنه " حدثنا إبراهيم " ولم أر التصريح بذلك في جميع طرقه عند الشيخين وغيرهما إلا في هذا الطريق . وفي المتن من الفوائد : الحمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص ، وأن النكرة في سياق النفي تعم ، وأن الخاص يقضي على العام والمبين عن المجمل ، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض ، وأن درجات الظلم تتفاوت كما ترجم له ، وأن المعاصي لا تسمى شركا ، وأن من لم يشرك بالله شيئا فله الأمن وهو مهتد . فإن قيل : فالعاصي قد يعذب فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له ؟ فالجواب أنه آمن من التخليد في النار ، مهتد إلى طريق الجنة . والله أعلم .