بسم الله الرحمن الرحيم
الصدح بدعوى التمكُّن العلمي ما هو إلا فصلٌ من الفصول الأخيرة لتلك الرحلة البئيسة في ركب البؤساء, والتي يستفتحها طالب العلم المغرور بأول نبضة من نبضات الغفلة، والتي قد ترتعد فرائصه لهول ما استشعره منذ ذلك الثناء العاطر والنغم المطرب، والذي جاء لينضح جفاف الكتمان والخمول, ويدغدغ خلجات القلب بأحلام اليقظة, لتأتي مرحلة الدعاوى والاستحقاق, ثم الولاء والبراء على الأفكار والنشرات.
باتت الدعاوى من أبرز ملامح طلاب العلم في هذا الزمان كثرة الدعاوى بلسان الحال والمقال -إلا من رحم الله- , غير أن "دعوى التمكُّن العلمي" كانت أشدها ظهوراً وأكثرها حضوراً، ولم تكن من مفردات عصرنا, وإن كان قد شهدها بقوة, بل كانت قديمة النوع، متكررة آحادها في كل زمان ومكان, وفي علوم الشريعة وغيرها.
لم تكن دعوى الـمُكْنة, والفتى الدرَّاك, وفلتات الألسن بكمال الأهلية والاتزان العلمي لتظهر فجأة بدويها المفزع المروع من ألسن المغترين، بل سبقتها نبضات الغفلة ودقات القلب بالإشادة، سقيت بماء المدح والثناء, وتعداد المنْجَزَات, فهي دركات تدنَّى بها العبد قلباً وقالباً, لتظهر بعدها دعاوى "التعالم" و"المكنة" وأترابها عاليةً دون مواربة أو استحياء, وكأنها وسام استحقاق, حصّله بكدِّه وجدِّه.
أزكى هذه الدعوى ونشرها بين العموم سهولة التعبير, وإتاحة نشر الأفكار عبر الفضاءات الإلكترونية, واليوم لن يُعدم متحدث ومدوِّن أن يجد لقالته ناشراً ولأفكاره مذيعاً حقاً كانت أو باطلة، ومع إغراء المتابعين وسلطان الإعجاب على قلوب الكتّاب والمتحدثين تنمو بذور التسميع والمراءاة والكذب والدعاوى.
يا طالب الرقي والمدارج!
كم من طالب نابه أمضى ريعان الصبا وزهرته عكوفاً على الحفظ والاستذكار، حتى إذا بزَّ قرنه صال وجال, فأتته رياح الكدر لتثير على قلبه الغمام والوبال, فحيل بينه وبين ذلك القلب, ولم يعد له سلطان عليه. فعاد جليل ما يصنع هباءً منثوراً، من بعد قوة أنكاساً.
يا طالب الرقي والمدارج!
إن سهام الاغترار العلمي وائدة ماحقة خاسفة؛ تئد عمر الطالب, وتمحق بركة العلم, وتخسف زهرة ذلك القلب الندي.
هذا والله أعلم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه..