المشورة والحــزم
قال تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].
نزلت هذه الآية في مكة، في سياق تعداد أوصاف الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
ونزول الآية في مكة، قبل أن يكون للمسلمين دولة، وقبل أن يكون بين المسلمين وغيرهم قتال
يعني أن هذا الأمر الاجتماعي أمر ضروري، في السلم والحرب، في مجال قيادة الأمة وفيما هو
أصغر من ذلك، وحتى في الأمور الخاصة للإنسان يحسن أن يستشير من يثق به..
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشورة لأصحابه[1].
ولو ذهبنا نسوق الأمثلة والوقائع في ذلك لطال بنا المقام، ولكنا نكتفي بذكر بعضها باختصار:
1 - استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر وقال: «أشيروا علي أيها الناس»
وتكلم عدد من الصحابة من المهاجرين والأنصار، ثم كان القرار.
ثم أخذ بمشورة الحباب بن المنذر في موقع أرض المعركة.
ثم كانت المشورة في الغنائم.
2 - وفي غزوة أحد، استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه وكان رأيهم الخروج، وكان رأيه البقاء في المدينة
وأخذ برأيهم وترك رأيه. وكان ما كان.. ومع ذلك. جاءت الآيات لتؤكد أمر الشورى على الرغم مما حدث.
قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[2].
3 - وفي غزوة الخندق استشار النبي صلى الله عليه وسلم، سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في أن
يجعل لغطفان ثلث ثمار المدينة على أن ترجع، فقالا: إن كنت أمرت بشيء فامض لأمر الله، قال:
«لو كنت أمرت بشيء، ما استأمرتكما» ولكن هذا رأي أعرضه عليكما، قالا: فإنا نرى أن لا نعطيهم
إلا السيف. وأخذ صلى الله عليه وسلم برأيهما[3].
وفي هذه الغزوة أخذ برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه، بشأن حفر الخندق.
4 - وفي عمرة الحديبية، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشًا جمعت له الجموع..
فقال صلى الله عليه وسلم: «أشيروا أيها الناس عليَّ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين
يريدون أن يصدونا عن البيت..» فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل
أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: «امضوا على اسم الله»[4].
وأخذ صلى الله عليه وسلم بمشورة أبي بكر رضي الله عنه.
الحزم وعدم التردد:
إن المشورة تكون قبل العزم والتصميم على فعل الشيء، وهذا ما يفهم من الآية الكريمة
السابقة الذكر ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 159].
وفي غزوة أحد بعد أن استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأخذ برأيهم، ندم
أصحابه وشعروا أن رغبته كانت في غير ما ذهبوا إليه فقالوا: لعلنا استكرهناك فإن شئت
فاقعد، فقال: «لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل».
وبهذا قطع عليهم أمر التردد، فإنه بعد العزم. يكون ضعفًا يؤدي إلى الفشل.
وعلى هذا: فالمشورة أولًا ثم يكون العزم بعد ذلك.
[1] أخرج الترمذي عن أبي هريرة تعليقًا: ما رأيت أحدًا أكثر مشورة
من رسول الله صلى الله عليه وسلم (برقم 1714).
[2] سورة آل عمران، الآية (159).
[3] طبقات ابن سعد (2 /73).
[4] أخرجه البخاري (4178-4179).
أ. صالح بن أحمد الشامي