القافية في الجذر اللغوي من قفاه واقتفاه، وتقفاه: تبعه واقتفى أثره(1) . وسميت القافية قافية لأن "الشاعر يقفوها أي يتبعها فتكون قافية بمعنى مقفوة، كما قالوا "عيشة راضية" بمعنى مرضية، أو تكون على بابها كأنها تقفو ما قبلها"(2) . وهي ركن من أركان الشعر العربي القديم، وإن كان الأوائل لا يعدون كل كلام مقفى شعراً، قال ابن سلام وهو يتحدث عن محمد بن إسحاق "ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، وإنما هو كلام مؤلف معقود بقواف"(3) . وهي في معناها الفني الإجرائي "مصطلح يتعلق بآخر البيت، يختلف فيه العلماء اختلافاً يدخل في عدد أحرفها وحركاتها"(4) ، فهي عند الخليل بن أحمد "آخر ساكنين في البيت وما بينهما والمتحرك قبل أولهما، وهي عند الأخفش آخر كلمة في البيت"(5) .
أما في اللغات الأوروبية فـ"هي تكرار أصوات متشابهة أو متماثلة في فترات منتظمة، وغالباً ما تكون أواخر الأبيات الشعرية، وقد تكون أحياناً في النثر كالسجع عند العرب) أو داخل البيت من الشعر. ويلاحظ أن القافية لم تستعمل دائماً في الشعر الأوربي ولم تظهر إلا في أوائل القرن الثالث عشر لتحل محل الجناس غير التام أو الروي البطيء. وهناك اتجاه في الشعر الإنجليزي ظهر منذ القرن السادس عشر إلى التزام الوزن دون القافية كما هو الحال في الشعر المرسل blank verse الذي نظمه شكسبير وملتون ووردز ورث في أغراض مختلفة والاتجاه اليوم إلى عدم التزام القافية وخاصة في الشعر الحر"(6) .
وتتشكل بنية القافية في الأساس من "عدة أصوات تتكرر في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، وتكررها هذا يكون جزءاً هاماً من الموسيقى الشعرية، فهي بمثابة الفواصل الموسيقية يتوقع السامع ترددها، ويستمتع بمثل هذا التردد الذي يطرق الآذان في فترات زمنية منتظمة، وبعد عدد معين من مقاطع ذات نظام خاص يسمى الوزن"(7) . وتعد القافية حداً فيصلا بين الشعر والنثر "لأنه قد يقع الوزن الذي يكون شعراً في الكلام ولا يسمى شعراً حتى يقفى، فلذلك حرصوا على إيضاح القافية وألزموها"( .
وللقافية جملة من المهام الوظيفية التي تشكلت بنائياً على أساسها، فهي بما تمتلكه من تعادلات صوتية تعطي القصيدة "بعداً من التناسق والتماثل يضفي عليه طابع الانتظام النفسي والموسيقي والزمني"(9) ، كما أنها تحقق "دوراً في اتساق النغم"(10) العام الذي يهيمن على فضاء القصيدة، وتجعله خاضعاً لقانون إيقاعي منتظم، وهي في إحداثها لهذه القيمة لا تتقدم في القصيدة بوصفها زينة مجردة، وإنما "تشكل قسماً من شبكة المقطع الشعري الصوتية"(11) .
بمعنى أنها تتدخل في صلب البنية الداخلية للعمل الشعري لأنها "عنصر أساسي من عناصر تحقيق اللغة الشعرية"(12) .
وبهذا فإنها ليست جزءاً منفصلاً مكملاً يدخل في صميم العملية الشعرية من الخارج، كما أنها ليست أداة قابلة للحذف والاستبدال والتعديل لأن دورها في تحقيق اللغة الشعرية لا يسمح بذلك، وما دامت عنصراً داخلياً فليست "هي التي تحدد نهاية البيت، بل نهاية البيت هي التي تحددها"(13) . وبذلك فإنها لا تحضر إبداعياً قبل حضور النص، بل تظهر معه وبه ومن خلاله، وتشكل على الصعيد الوزني بؤرة إيقاعية يتمثل فيها تركيز الوزن النهائي، وتسهم في الوقت نفسه في تدعيم حركة الإيقاع الداخلي في القصيدة(14) .
ومن الناحية الشكلية النظرية يمكننا أن نعد "القافية وحدة موسيقية لها أشكال مختلفة، أي أنها تنسيق معين لعدد من الحركات والسكنات، وأنها لذلك لها طابع التجريد الذي للأوزان.
أما الروي فلابد أن يكون حرفاً من حروف الهجاء لا يدخل الإطار الموسيقي إلا من حيث صفاته الصوتية وما له من جرس"(15) ، ويرتبط مع الوزن بعلاقة أساسية، فهي شريكته في الاختصاص في الشعر(16) .
إن القافية ليست نمطاً موسيقياً مستقراً في أدائه التعبيري، إنما تخضع شأنها شأن كل أدوات الشاعر لمقتضيات التعبير وضروراته والتي تختلف من قصيدة إلى أخرى، وعلى هذا الأساس يمكن النظر إليها بمعناها الواسع على أنها لا يمكن أن تكون موحدة كما لا يمكنها أن تخضع لنظام ثابت"(17) .
وعلى وفق هذه الاعتبارات الجوهرية التي تتميز بها القافية بوصفها ظاهرة إيقاعية "بالغة التعقيد"(18) ، يمكننا أن نتعرف وبنحو دقيق على وضعها الشعري بالنسبة إلى القصيدة، وانعكاس هذا الوضع على المتلقي وتأثيره فيه من خلال التفاعل الصميمي بينهما وما يفضي إليه من قدرات خلاقة تشبع إحساس المتلقي وتغنيه، إذ إن "حاجة النفس إلى إدراك ذاتها تفصح عن نفسها وتفوز ببغيتها على نحو أشمل في التعادلات الصوتية للقوافي"(19) .
غير أن هذا العرش الذي تعتليه القافية قد تعرض للاهتزاز بفعل ثورة الشعر العربي الحديث، إذ دعا قسم من الشعراء المحدثين إلى الاستغناء عن القافية لأنها بنظامها وقوانينها تحد من حرية الشاعر الباحث عن أقصى حدود الحرية في التعبير الشعري.
لذلك فقد تنوعت القافية وتعددت أنماطها وأشكالها، كما استغنى عنها الكثير من شعراء القصيدة الحديثة المستعيضين عنها بقوى إيقاعية جديدة.
وعلى الرغم من كل ذلك مازالت القافية تؤكد حضورها على نحو أو آخر في معظم الأنماط الشعرية التي تسيطر على القصيدة العربية الحديثة في وضعها الراهن.