من السهل أن تكون صفتك المميِّزة لك عن غيرك الضحك والتبسّط، وقدرتك على الترفيه عن المجموعة التي تنتمي إليها..
من السهل أيضاً أن تُبهر مجموعتَك بمعلومات معيّنة حول قضيّة أو أمر يهمّهم أن يعرفوا عنه أشياءَ تنقصهم.
هاتان الصفتان تصنعان مجلساً جميلاً مليئاً بالأنْس، وغالبيّة من يتّصف بهاتين الصفتين يكون محبوباً، مرغوباً في الجلوس معه.
ولكنّ الحياة ليست مجلس سمر عابر، أو جلسة أنس جميلة، الحياة ذات تفاصيل أكثر تعقيداً، وهي مليئة بالطرق ذات الانحناءات الشديدة، ومكتظة بالغرائب، ومترعة بالمفاجآت!
وعلى هذا فهناك صفة نرجو أن يتحلّى بها من اخترناه ليكون صديقنا في رحلة الحياة الصعبة، هي _ولا شكّ_ أكثر أهميّة من القدرة على الإضحاك، أو الامتاع!
الصمت النبيل..
هناك نوع فريد من البشر، يعجب الواحد منهم أن يجلس في زوايا المجالس، وأن يعيش في ظل الحياة، الاسترسال في الحديث هو أصعب أمر يمكنه القيام به، لا يتقن مهمّة جذب الأنظار إليه في مجامع الناس، جوّالك شبه خال من رسائله التي تهمس بأنْ: صباحك مشرق، ومساؤك جميل.. إذا ذُكر اسمه في حديث ما، احتاج المتكلّم أن يضيف إلى اسمه صفات عديدة حتى يعرفه المستمع، إذ أن اسمه ليس بالاسم الرنّان الذي كسب قدراً من الأضواء في مجتمعه ومجالسه..
ومع ذلك فإنّك وقت الأزمات، وعندما تدهمك كربة ما، فإن جميع الأسماء الرنّانة تتلاشى من ذاكرتك، ولا يطفو على السطح إلا اسمه غير الرنّان! وعندما يحاصرك ظرف ما، أو حاجة ملحّة، فإنّ قائمة الاتصال تتجاهل أصحاب الأنس، ولا تُظهِرُ لك غيرَه! ولمّا تحتاج موعدا في مستشفى، أو إنجاز مهمّة في إدارة، أو إيصال شيء ضروري إلى شخص بعيد عنك، فإنّك تغض الطرف عن أصحاب الألقاب اللامعة، وتتوجّه ببصرك تلقاء هذا الذي لا لقب يسبق اسمه الباهت جداً!
هذه بعض صفات هذا الشخص الذي يشبه النسيم، لا تكاد تشعر به، إلا أنّك بدونه تحسّ باختناق غريب..
إنّه الرجل الشهم!
الذي إن أخبرته أن إطار سيّارتك معطوب، فإنّه لا يكثر من النصائح حول ضرورة تفقّد الإطارات، والانتباه لتاريخها وتخزينها قبل الشراء، وإنّما يسرع بالإتيان لينهي أزمتك الطارئة، وبطريقة تشعرك أنّه لا يريد منك حتى كلمة " شكراً" هذه الكلمة المجانيّة..
إنه الصاحب الذي إن علم أنّك وصلت إلى المطار في ساعة متأخرة من الليل فإنّه يؤخر موعد نومه حتى يأتي ويوصلك إلى بيتك، ويشيّعك بابتسامة رقيقة، ثم يعود إلى بيته بهدوء، وفي ظنّه أنّه لم يفعل شيئاً ذا بال..
إنّه الذي إن علم بضائقتك الماليّة سارع إلى إنهائها، وهو يعتقد أنّه يؤدّي واجباً عليه، لا خدمة لك..
والسؤال يقول: أين هؤلاء؟
أين اختفوا؟
لماذا قل منسوبهم في الحياة؟ وكيف ألغينا مواصفاتهم من قائمة خياراتنا؟ ما هي الجائحة التي سبّبت في انقراضهم؟ حتى تمرّ بك الظروف والأحوال ولا تجد طيفاً لأحدهم؟
لقد باتوا عملة نادرة، وصرت تعيش السنة والسنتين والأكثر دون أن تلمح طيف أحدهم! فإذا ما جمعتك ظروف معيّنة بأحدهم، فإنّك تشعر أنّ شيئاً ما يخرج من عينيك تجاهه، يشبه العناق، والبكاء على أعتاب مرحلة انتهت!
وأنا سعيد جداً أنّ زمناً من الأزمنة غريب، وحقبة في الحقب نادرة قد جمعتني بأناس كادوا أن يتّصفوا (جميعاً) بصفة الشهامة! ولا تلمح شخصاً إلا وعليه من الشهامة وشم ظاهر!
إنّه زمن الشهامة يا صاحبي..
كانوا إخوة في ذلك الزمن الجميل.. يحبون بعضهم لأجل الصلاة، ولأجل ذكر الله، ولأجل قراءة القرآن، ولأجل أشياء عظيمة اعتقدوها مبادئ، وآمنّوا بها مُثُلاً.. وكانت الشهامة، والنجدة، وإغاثة الملهوف من بين تلك المبادئ والمثل! إنّهم لم يضعوا الشهامة في خانة السِّمات الشخصيّة التي يتحلى بها البعض دون الآخر، بل كانت شرطاً من شروط أن تكون رجلاً .. شرطاً لا يُقرأ في بنود التحاق، وإنّما يُتلى في آيات كتاب، ويُبصر في سيرة نبي ..
كانوا يعتقدون الشهامة والنخوة والمروءة ديناً يمزجونه بأيامهم ولياليهم.. وكانوا يتقربون إلى الله بتفريج همّ صديق، أو إغاثة ملهوف، أو حضور واجب عزاء، أو سفر لإدخال السعادة على قلب صاحب ..
والشهامة كلمة كبيرة جداً يدخل تحتها عدد من الصفات التي تفضي بمجموعها إلى معاني النخوة والشهامة والرجولة..
وها أنا أتراءى أشجار النخوة الباسقة، وأمشي تحت ظلالها.. وكلما وقع شيء من الظل البارد على جسمي المنهك، رأيت صوراً قديمة، وسمعت أحاديث غابرة، وهدّتني ذكريات تستدر الدمع السخين!
ثمّ بكى..
من المعاني الجزئية للشهامة والتي لم نعد نراها في دهاليز الحياة اليوميّة كما كانت تظهر في ذلك الزمن، معنى " الفزعة" الماديّة!
أن يبذل لك صاحبك من جيبه عندما يرى على وجهك ظلال الأثَرَة، أو علامات ضيق ذات اليد، أو حتى يظ ن أنّك في مرحلة تتطلّب شيئا من المال كحديث عهدٍ بالزواج مثلا..
قبل خمسة عشر عاما تقريباً سافر صاحبنا إلى جدّة لإنهاء شؤون مِلكته، وكان قد استأجر بيتاً خالياً من أي شيء، ولعلّه ترك مفتاح بيته الجديد مع أحدهم.. وقد كان صاحبنا ينوي أن يعود بعد إنهاء الملكة ليؤثث بيته ثم يأتي بأهله من جدّة..
خطط زملاؤه _ والذين لم أكن منهم_ لهديّة نوعيّة يقدمونها لصاحبهم، وبعد أخذ وردّ تحددت الهديّة! ذهبوا إلى بيته الخالي من أي شيء، ثم بدأت الشهامة تشكّل التفاصيل المتخمة بالحب الصادق الذي يجعل الريال خانة خالية في معادلة الأخوّة الحقّة!
هذا فرش (موكيت) البيت كاملاً، وذاك تعهّد بالأجهزة الكهربائية، والثالث اشترى مجلساً والرابع والخامس..
عاد صاحبهم من جدّة ودخل بيته ليلا وفي نيّته أن ينام على طرّاحة اشتراها قبل أن يسافر ووضعها في إحدى الغرف، فتفاجأ ببيته وقد اكتمل تأثيثه تقريباً! انعقدت الكلمات على لسانه.. يخبرني أنّه بكى .. لقد استطاعوا أن يدلفوا إلى خانة في القلب إن مُسّت بشهامة، سالت الدموع بسخاء!
ما أرقاها من أخوّة هذه التي تجعل الرجال أهم من الريال.. وفكرة إدخال شعور السعادة إلى قلب، أهم من فكرة الاحتفاظ بمبلغ في جيب..
الطَرَقَات المتخاذلة
كنّا شباباً في الجامعة، تضيق أحوالنا كثيراً، فإذا ما تأخرت المكافأة احتجنا لجيوب بعضنا، فكنّا نبذل بقايا دراهمنا لبعضنا دون تحسس..
جعت ليلة من الليالي.. ولم يكن في جيبي ريـال واحد..
لم أفطر ذلك اليوم ولم أتغدّ ولم أتعشّ.. قررت أن أتناسى الجوع ولكنّه رضّني، كلّما حاولت أن أتجاهله يظهر لي بقرقرة في بطني، وبخواء في معدتي.. فعزمت على الخروج إلى صاحبيّ الأقرب إلى قلبي..
طرقت الباب، وأنا لم أطرق بابا في حياتي لأجل أن آكل.. فكانت طرقات متخاذلة، طرقات ترجو الباب ألا يوصل لمن هم خلفه شكل الوهن الذي تنطوي عليه نفس صاحبها.. طرقات ترجو من خلف الباب ألاّ يفتحه!
فتح صاحباي الباب.. ولا بدّ أن علامة استفهام كبيرة طفت في فضاء الغرفة، فالوقت متأخر، ولم يكن من عادتي أن أزورهما في مثل هذا الوقت.. ولكنّهما هشّا لي ورحبا بي.. لم أستطع الكلام، كنت أنوي أن أطلب منهما ريالين فقط إذ أن قيمة عشاء السكن الجامعي كان ريالين! ولكن الحياء عقد لساني..
أخرجا لي _ كرماً منهما وضيافة _ ما حوته ثلاجتهما الصغيرة ( علبة زبادي وقطعة صامولي).. فأتيت على ذلك العشاء المتواضع ( وقد كان قليلاً ).. ثم وبعد أن أخذنا وأعطينا في الحديث، كأني تجرأت فأفصحت لهما أنّ ما أكلته عندهما _ على قلّته _ كان الوجبة الأولى بعد عشاء الأمس!
تفاجأت، بل واستحييت عندما قال لي أحدهما _بلغة مليئة بالحرج_ إنّه كل ما يملكان! وأنّهما ادخراه سحوراً لهما.. ولكنّهما رأى في وجهي أثر الجوع.. فآثراني به..
يا الله.. يا الله.. وأنا أكتب هذه الأحرف استشعرت روعة تلك الأخوّة وأصالة تلك الأخلاق..
كيف يؤثر إنسان أخاه بلقمته.. وهو مثله لا يملك شيئا غير لقمته؟
لم نكن في الخمسين ولا الستين من أعمارنا.. كنا في الثامنة عشر والتاسعة عشر!
وفي اليوم التالي وصلت أحد هذين الصديقين حوالة مالية من أهله، فقسمها ثلاثة أثلاث، فكان لكل واحد منّا الثلث! والثلث كثير..
أعرف من باع سيّارته ليساعد إخوته، ومن اقترض لمثل هذا الأمر، ومن كان يتحسس شؤون الشباب في المراكز فإذا علم أنّ رحلة شبابيّة لن تقام لأجل نقص المال، يخرج من جيبه الآلاف عن طيب خاطر ودون أن يُسأل ذلك، فقط ليرى الشباب المؤمن وقد ازداد إيمانا وتربية وتزكية في مثل هذه اللقاءات النافعة..
المال كان لا يعني شيئاً، أو بالأصح لم يكن يعني ما يعنيه الآن في عقول الناس..
توقيع الدم
ومن معاني الشهامة أن تسافر لأجل أخيك، لأجل لقائه، لأجل أن تسكب بحضرته شيئاً من الحب النقيّ في كأس الأخوّة في الله، ثم ترشفانه سويّاً.. وهذا معنى من معاني الشهامة قد شارف على الاضمحلال..
كانوا يسافرون ويتكبدون المشقّة والعناء لأجل أن يسعدوا صاحباً لهم بوجودهم جانبه ليلة زفافه..
وكان بعضهم يسافر ليزور أسرة صاحب لهم قد مات، فيتفقدوا حالهم، ويرتقوا بشيء من المال بعض حاجاتهم، وكأنّهم يقولون: صداقتنا أكبر من الموت.. ويعودون ليخططوا لزيارة أخرى، ولشهامة قادمة!
وهنا لقطة من الذاكرة تريدني أن أسجّلها.. ليشهد القراء درساً في الشهامة عميقاً..
إنّها لقطة بعنوان "غانم الزهراني"..
هنا سأتحسّر كثيراً قبل أن أروي قصّة هذا الرجل..
كان طُهراً وكفى..
عرفته حافظاً لكتاب الله.. فقيه النفس، عذب الشمائل، كريم السجايا، صوته إذا تحدّث يجعل وروداً ما تنبت في أعمق مكان في القلب! .. نفع الله به كثيرا أهل "الـمخواة" ..
جمعني به الحب في الله في ظل جامعة الإمام بالرياض.. ثم تفرّقنا..
وبعد سنوات من الفراق قرر أن يمسح عن روحه وعثاء الشوق، فجاء إلى تبوك، لزيارة إخوانه في الله فقط لا غير! وكم تأسّفت لأنّي لم ألتقه إذ كنت وقتها في الرياض، ثم اتصل بي، ووعدني بزيارة لتبوك في العام المقبل، فسعدت بذلك الوعد كثيراً، ومضت الأشهر، وأنا أنتظر الإجازة أن تأتي، وأتت الإجازة!
فانطلق غانم كما وعد، تسوقه الأشواق، وتحدوه الشهامة الأخويّة، محتسباً الأجر عند ربّه، وقبل أن يصل تبوك بقليل، يحدث له حادث مروّع، يفارق على إثره الحياة.. يفارقها وقد وقّع بدمه على سجل الشهامة.. أسأل الله أن إذ حرمت من لقائه في الدنيا، أن ألقاه في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
أي تعليق على هذه القصة لن يعبّر عن شيء .. ألا تكفي دماء الشهامة لتعلّق وتعبّر وترسم التفاصيل..
زحام الرجولة
ومن معاني الشهامة والتي مازالت آثارها وإن قلّت كثيراً (زيارة المريض..)
انقلبت بأحد الأصحاب سيارته قرب مدينة أملج..
فترقّد في مستشفى أملج، وهو لا يعرف في هذه المدينة أحداً..
فما كان منّا إلا ان هاتفنا صديقاً لنا من أهل أملج الأشاوس، حتى يشرف على حالة صاحبنا ريثما نصل..
انطلقنا بعد الدوام مباشرة، وصلنا بعد صلاة العصر بقليل، كانت مستشفى أملج مكتظة بأهل الخير، وأصحاب الأوجه الوضيئة! قلنا في أنفسنا: لا شكّ أن شيخاً أو خطيباً شهيراً مرقد في المستشفى اليوم.. ومن بين أكوام البشر، أخذنا نسأل عن غرفة صاحبنا ونقترب، وإذ بالزحام يزداد، وصلنا الغرفة فإذا بها ممتلئة بالناس والهدايا والقهوة والحلوى!
أخبرنا صديقنا الذي هاتفناه وقد لقيناه في الغرفة أن كل من رأيناه في المستشفى إنّما أتوا لزيارة صاحبنا!
وأدباً منهم لمّا علموا أننا أصحابه خرجوا وودعونا وودعوه.. وقد ملأوا قلوبنا بمعنى الأخوّة في الله الصادقة!
وكان من معهود ما يفعله شباب تلك الحقبة أنهم إذا ذهبوا لزيارة مريض من أهلهم أو أصدقائهم أن يمرّوا على غالبية المرقدين في الممر الذي يكون فيه ويسلّموا عليهم ويواسوهم! ليس شيئاً يفعلونه مرّة أو مرتين، بل دائماً!!
أجمل..
وهنا أحسب أنّي قد أشرعت في قلوبكم نافذة على ماضيكم الجميل، وأيامكم الرائعة، وذكرياتكم المليئة بالشهامة .. أترككم الآن في رعاية الله وحفظه، لتتذوقوا ذلك الجمال.. ولتهمسوا في آذان صغاركم بـ: ستكون الحياة أجمل، إذا مزجناها بشيء من الشهامة..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
من السهل أيضاً أن تُبهر مجموعتَك بمعلومات معيّنة حول قضيّة أو أمر يهمّهم أن يعرفوا عنه أشياءَ تنقصهم.
هاتان الصفتان تصنعان مجلساً جميلاً مليئاً بالأنْس، وغالبيّة من يتّصف بهاتين الصفتين يكون محبوباً، مرغوباً في الجلوس معه.
ولكنّ الحياة ليست مجلس سمر عابر، أو جلسة أنس جميلة، الحياة ذات تفاصيل أكثر تعقيداً، وهي مليئة بالطرق ذات الانحناءات الشديدة، ومكتظة بالغرائب، ومترعة بالمفاجآت!
وعلى هذا فهناك صفة نرجو أن يتحلّى بها من اخترناه ليكون صديقنا في رحلة الحياة الصعبة، هي _ولا شكّ_ أكثر أهميّة من القدرة على الإضحاك، أو الامتاع!
الصمت النبيل..
هناك نوع فريد من البشر، يعجب الواحد منهم أن يجلس في زوايا المجالس، وأن يعيش في ظل الحياة، الاسترسال في الحديث هو أصعب أمر يمكنه القيام به، لا يتقن مهمّة جذب الأنظار إليه في مجامع الناس، جوّالك شبه خال من رسائله التي تهمس بأنْ: صباحك مشرق، ومساؤك جميل.. إذا ذُكر اسمه في حديث ما، احتاج المتكلّم أن يضيف إلى اسمه صفات عديدة حتى يعرفه المستمع، إذ أن اسمه ليس بالاسم الرنّان الذي كسب قدراً من الأضواء في مجتمعه ومجالسه..
ومع ذلك فإنّك وقت الأزمات، وعندما تدهمك كربة ما، فإن جميع الأسماء الرنّانة تتلاشى من ذاكرتك، ولا يطفو على السطح إلا اسمه غير الرنّان! وعندما يحاصرك ظرف ما، أو حاجة ملحّة، فإنّ قائمة الاتصال تتجاهل أصحاب الأنس، ولا تُظهِرُ لك غيرَه! ولمّا تحتاج موعدا في مستشفى، أو إنجاز مهمّة في إدارة، أو إيصال شيء ضروري إلى شخص بعيد عنك، فإنّك تغض الطرف عن أصحاب الألقاب اللامعة، وتتوجّه ببصرك تلقاء هذا الذي لا لقب يسبق اسمه الباهت جداً!
هذه بعض صفات هذا الشخص الذي يشبه النسيم، لا تكاد تشعر به، إلا أنّك بدونه تحسّ باختناق غريب..
إنّه الرجل الشهم!
الذي إن أخبرته أن إطار سيّارتك معطوب، فإنّه لا يكثر من النصائح حول ضرورة تفقّد الإطارات، والانتباه لتاريخها وتخزينها قبل الشراء، وإنّما يسرع بالإتيان لينهي أزمتك الطارئة، وبطريقة تشعرك أنّه لا يريد منك حتى كلمة " شكراً" هذه الكلمة المجانيّة..
إنه الصاحب الذي إن علم أنّك وصلت إلى المطار في ساعة متأخرة من الليل فإنّه يؤخر موعد نومه حتى يأتي ويوصلك إلى بيتك، ويشيّعك بابتسامة رقيقة، ثم يعود إلى بيته بهدوء، وفي ظنّه أنّه لم يفعل شيئاً ذا بال..
إنّه الذي إن علم بضائقتك الماليّة سارع إلى إنهائها، وهو يعتقد أنّه يؤدّي واجباً عليه، لا خدمة لك..
والسؤال يقول: أين هؤلاء؟
أين اختفوا؟
لماذا قل منسوبهم في الحياة؟ وكيف ألغينا مواصفاتهم من قائمة خياراتنا؟ ما هي الجائحة التي سبّبت في انقراضهم؟ حتى تمرّ بك الظروف والأحوال ولا تجد طيفاً لأحدهم؟
لقد باتوا عملة نادرة، وصرت تعيش السنة والسنتين والأكثر دون أن تلمح طيف أحدهم! فإذا ما جمعتك ظروف معيّنة بأحدهم، فإنّك تشعر أنّ شيئاً ما يخرج من عينيك تجاهه، يشبه العناق، والبكاء على أعتاب مرحلة انتهت!
وأنا سعيد جداً أنّ زمناً من الأزمنة غريب، وحقبة في الحقب نادرة قد جمعتني بأناس كادوا أن يتّصفوا (جميعاً) بصفة الشهامة! ولا تلمح شخصاً إلا وعليه من الشهامة وشم ظاهر!
إنّه زمن الشهامة يا صاحبي..
كانوا إخوة في ذلك الزمن الجميل.. يحبون بعضهم لأجل الصلاة، ولأجل ذكر الله، ولأجل قراءة القرآن، ولأجل أشياء عظيمة اعتقدوها مبادئ، وآمنّوا بها مُثُلاً.. وكانت الشهامة، والنجدة، وإغاثة الملهوف من بين تلك المبادئ والمثل! إنّهم لم يضعوا الشهامة في خانة السِّمات الشخصيّة التي يتحلى بها البعض دون الآخر، بل كانت شرطاً من شروط أن تكون رجلاً .. شرطاً لا يُقرأ في بنود التحاق، وإنّما يُتلى في آيات كتاب، ويُبصر في سيرة نبي ..
كانوا يعتقدون الشهامة والنخوة والمروءة ديناً يمزجونه بأيامهم ولياليهم.. وكانوا يتقربون إلى الله بتفريج همّ صديق، أو إغاثة ملهوف، أو حضور واجب عزاء، أو سفر لإدخال السعادة على قلب صاحب ..
والشهامة كلمة كبيرة جداً يدخل تحتها عدد من الصفات التي تفضي بمجموعها إلى معاني النخوة والشهامة والرجولة..
وها أنا أتراءى أشجار النخوة الباسقة، وأمشي تحت ظلالها.. وكلما وقع شيء من الظل البارد على جسمي المنهك، رأيت صوراً قديمة، وسمعت أحاديث غابرة، وهدّتني ذكريات تستدر الدمع السخين!
ثمّ بكى..
من المعاني الجزئية للشهامة والتي لم نعد نراها في دهاليز الحياة اليوميّة كما كانت تظهر في ذلك الزمن، معنى " الفزعة" الماديّة!
أن يبذل لك صاحبك من جيبه عندما يرى على وجهك ظلال الأثَرَة، أو علامات ضيق ذات اليد، أو حتى يظ ن أنّك في مرحلة تتطلّب شيئا من المال كحديث عهدٍ بالزواج مثلا..
قبل خمسة عشر عاما تقريباً سافر صاحبنا إلى جدّة لإنهاء شؤون مِلكته، وكان قد استأجر بيتاً خالياً من أي شيء، ولعلّه ترك مفتاح بيته الجديد مع أحدهم.. وقد كان صاحبنا ينوي أن يعود بعد إنهاء الملكة ليؤثث بيته ثم يأتي بأهله من جدّة..
خطط زملاؤه _ والذين لم أكن منهم_ لهديّة نوعيّة يقدمونها لصاحبهم، وبعد أخذ وردّ تحددت الهديّة! ذهبوا إلى بيته الخالي من أي شيء، ثم بدأت الشهامة تشكّل التفاصيل المتخمة بالحب الصادق الذي يجعل الريال خانة خالية في معادلة الأخوّة الحقّة!
هذا فرش (موكيت) البيت كاملاً، وذاك تعهّد بالأجهزة الكهربائية، والثالث اشترى مجلساً والرابع والخامس..
عاد صاحبهم من جدّة ودخل بيته ليلا وفي نيّته أن ينام على طرّاحة اشتراها قبل أن يسافر ووضعها في إحدى الغرف، فتفاجأ ببيته وقد اكتمل تأثيثه تقريباً! انعقدت الكلمات على لسانه.. يخبرني أنّه بكى .. لقد استطاعوا أن يدلفوا إلى خانة في القلب إن مُسّت بشهامة، سالت الدموع بسخاء!
ما أرقاها من أخوّة هذه التي تجعل الرجال أهم من الريال.. وفكرة إدخال شعور السعادة إلى قلب، أهم من فكرة الاحتفاظ بمبلغ في جيب..
الطَرَقَات المتخاذلة
كنّا شباباً في الجامعة، تضيق أحوالنا كثيراً، فإذا ما تأخرت المكافأة احتجنا لجيوب بعضنا، فكنّا نبذل بقايا دراهمنا لبعضنا دون تحسس..
جعت ليلة من الليالي.. ولم يكن في جيبي ريـال واحد..
لم أفطر ذلك اليوم ولم أتغدّ ولم أتعشّ.. قررت أن أتناسى الجوع ولكنّه رضّني، كلّما حاولت أن أتجاهله يظهر لي بقرقرة في بطني، وبخواء في معدتي.. فعزمت على الخروج إلى صاحبيّ الأقرب إلى قلبي..
طرقت الباب، وأنا لم أطرق بابا في حياتي لأجل أن آكل.. فكانت طرقات متخاذلة، طرقات ترجو الباب ألا يوصل لمن هم خلفه شكل الوهن الذي تنطوي عليه نفس صاحبها.. طرقات ترجو من خلف الباب ألاّ يفتحه!
فتح صاحباي الباب.. ولا بدّ أن علامة استفهام كبيرة طفت في فضاء الغرفة، فالوقت متأخر، ولم يكن من عادتي أن أزورهما في مثل هذا الوقت.. ولكنّهما هشّا لي ورحبا بي.. لم أستطع الكلام، كنت أنوي أن أطلب منهما ريالين فقط إذ أن قيمة عشاء السكن الجامعي كان ريالين! ولكن الحياء عقد لساني..
أخرجا لي _ كرماً منهما وضيافة _ ما حوته ثلاجتهما الصغيرة ( علبة زبادي وقطعة صامولي).. فأتيت على ذلك العشاء المتواضع ( وقد كان قليلاً ).. ثم وبعد أن أخذنا وأعطينا في الحديث، كأني تجرأت فأفصحت لهما أنّ ما أكلته عندهما _ على قلّته _ كان الوجبة الأولى بعد عشاء الأمس!
تفاجأت، بل واستحييت عندما قال لي أحدهما _بلغة مليئة بالحرج_ إنّه كل ما يملكان! وأنّهما ادخراه سحوراً لهما.. ولكنّهما رأى في وجهي أثر الجوع.. فآثراني به..
يا الله.. يا الله.. وأنا أكتب هذه الأحرف استشعرت روعة تلك الأخوّة وأصالة تلك الأخلاق..
كيف يؤثر إنسان أخاه بلقمته.. وهو مثله لا يملك شيئا غير لقمته؟
لم نكن في الخمسين ولا الستين من أعمارنا.. كنا في الثامنة عشر والتاسعة عشر!
وفي اليوم التالي وصلت أحد هذين الصديقين حوالة مالية من أهله، فقسمها ثلاثة أثلاث، فكان لكل واحد منّا الثلث! والثلث كثير..
أعرف من باع سيّارته ليساعد إخوته، ومن اقترض لمثل هذا الأمر، ومن كان يتحسس شؤون الشباب في المراكز فإذا علم أنّ رحلة شبابيّة لن تقام لأجل نقص المال، يخرج من جيبه الآلاف عن طيب خاطر ودون أن يُسأل ذلك، فقط ليرى الشباب المؤمن وقد ازداد إيمانا وتربية وتزكية في مثل هذه اللقاءات النافعة..
المال كان لا يعني شيئاً، أو بالأصح لم يكن يعني ما يعنيه الآن في عقول الناس..
توقيع الدم
ومن معاني الشهامة أن تسافر لأجل أخيك، لأجل لقائه، لأجل أن تسكب بحضرته شيئاً من الحب النقيّ في كأس الأخوّة في الله، ثم ترشفانه سويّاً.. وهذا معنى من معاني الشهامة قد شارف على الاضمحلال..
كانوا يسافرون ويتكبدون المشقّة والعناء لأجل أن يسعدوا صاحباً لهم بوجودهم جانبه ليلة زفافه..
وكان بعضهم يسافر ليزور أسرة صاحب لهم قد مات، فيتفقدوا حالهم، ويرتقوا بشيء من المال بعض حاجاتهم، وكأنّهم يقولون: صداقتنا أكبر من الموت.. ويعودون ليخططوا لزيارة أخرى، ولشهامة قادمة!
وهنا لقطة من الذاكرة تريدني أن أسجّلها.. ليشهد القراء درساً في الشهامة عميقاً..
إنّها لقطة بعنوان "غانم الزهراني"..
هنا سأتحسّر كثيراً قبل أن أروي قصّة هذا الرجل..
كان طُهراً وكفى..
عرفته حافظاً لكتاب الله.. فقيه النفس، عذب الشمائل، كريم السجايا، صوته إذا تحدّث يجعل وروداً ما تنبت في أعمق مكان في القلب! .. نفع الله به كثيرا أهل "الـمخواة" ..
جمعني به الحب في الله في ظل جامعة الإمام بالرياض.. ثم تفرّقنا..
وبعد سنوات من الفراق قرر أن يمسح عن روحه وعثاء الشوق، فجاء إلى تبوك، لزيارة إخوانه في الله فقط لا غير! وكم تأسّفت لأنّي لم ألتقه إذ كنت وقتها في الرياض، ثم اتصل بي، ووعدني بزيارة لتبوك في العام المقبل، فسعدت بذلك الوعد كثيراً، ومضت الأشهر، وأنا أنتظر الإجازة أن تأتي، وأتت الإجازة!
فانطلق غانم كما وعد، تسوقه الأشواق، وتحدوه الشهامة الأخويّة، محتسباً الأجر عند ربّه، وقبل أن يصل تبوك بقليل، يحدث له حادث مروّع، يفارق على إثره الحياة.. يفارقها وقد وقّع بدمه على سجل الشهامة.. أسأل الله أن إذ حرمت من لقائه في الدنيا، أن ألقاه في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
أي تعليق على هذه القصة لن يعبّر عن شيء .. ألا تكفي دماء الشهامة لتعلّق وتعبّر وترسم التفاصيل..
زحام الرجولة
ومن معاني الشهامة والتي مازالت آثارها وإن قلّت كثيراً (زيارة المريض..)
انقلبت بأحد الأصحاب سيارته قرب مدينة أملج..
فترقّد في مستشفى أملج، وهو لا يعرف في هذه المدينة أحداً..
فما كان منّا إلا ان هاتفنا صديقاً لنا من أهل أملج الأشاوس، حتى يشرف على حالة صاحبنا ريثما نصل..
انطلقنا بعد الدوام مباشرة، وصلنا بعد صلاة العصر بقليل، كانت مستشفى أملج مكتظة بأهل الخير، وأصحاب الأوجه الوضيئة! قلنا في أنفسنا: لا شكّ أن شيخاً أو خطيباً شهيراً مرقد في المستشفى اليوم.. ومن بين أكوام البشر، أخذنا نسأل عن غرفة صاحبنا ونقترب، وإذ بالزحام يزداد، وصلنا الغرفة فإذا بها ممتلئة بالناس والهدايا والقهوة والحلوى!
أخبرنا صديقنا الذي هاتفناه وقد لقيناه في الغرفة أن كل من رأيناه في المستشفى إنّما أتوا لزيارة صاحبنا!
وأدباً منهم لمّا علموا أننا أصحابه خرجوا وودعونا وودعوه.. وقد ملأوا قلوبنا بمعنى الأخوّة في الله الصادقة!
وكان من معهود ما يفعله شباب تلك الحقبة أنهم إذا ذهبوا لزيارة مريض من أهلهم أو أصدقائهم أن يمرّوا على غالبية المرقدين في الممر الذي يكون فيه ويسلّموا عليهم ويواسوهم! ليس شيئاً يفعلونه مرّة أو مرتين، بل دائماً!!
أجمل..
وهنا أحسب أنّي قد أشرعت في قلوبكم نافذة على ماضيكم الجميل، وأيامكم الرائعة، وذكرياتكم المليئة بالشهامة .. أترككم الآن في رعاية الله وحفظه، لتتذوقوا ذلك الجمال.. ولتهمسوا في آذان صغاركم بـ: ستكون الحياة أجمل، إذا مزجناها بشيء من الشهامة..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين