الصلح بين الناس
الحمد لله ﴿ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 61، 62]، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن الإصلاح بين المتخاصمين له منزلة كبيرة عند الله تعالى، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
معنى الصلح:
الصلح في اللغة: اسم من المصالحة، وهي المسالَمة بعد المنازعة؛ (التعريفات للجرجاني صـ 176 رقم 877).
الصلح في الشرع: معاقدةٌ يتوصل بها إلى الإصلاح بين الناس؛ (المغني لابن قدامة بتحقيق التركي جـ 7 صـ 5).
جاءت كلمة الصلح بمشتقاتها في القرآن الكريم ثلاثين مرة؛ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم صـ 410).
الإصلاح بين الناس وصية ربِّ العالَمين:
جاءت آيات كثيرة في القرآن تتحدث عن الإصلاح بين الناس.
قال سبحانه: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].
قال القرطبي (رحمه الله): مَن شفع شفاعةً حسنةً ليصلح بين اثنين، استوجب الأجرَ؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 5 صـ 295).
وقال ابن كثير (رحمه الله): من سعى في أمرٍ، فترتب عليه خيرٌ، كان له نصيبٌ من ذلك؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 4 صـ 281).
ويقول الله تعالى أيضًا: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].
قال ابن جرير الطبري (رحمه الله): لا تجعلوا الله قوةً لأيمانكم في ألَّا تبَرُّوا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس، ولكن إذا حلَف أحدكم، فرأى الذي هو خيرٌ مما حلف عليه؛ مِن ترك البر والإصلاح بين الناس - فليحنَثْ في يمينه، ولْيَبَرَّ، وليتقِ الله، وليُصلِحْ بين الناس، وليُكفِّرْ عن يمينه؛ (جامع البيان لابن جرير الطبري جـ 2 صـ 402).
روى مسلمٌ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّرْ عن يمينه))؛ (مسلم - كتاب الإيمان حديث 13).
يقول الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
قال ابن جرير الطبري (رحمه الله): لا خير في كثيرٍ من نجوى الناس جميعًا ﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ [النساء: 114]، والمعروف: هو كل ما أمر الله به أو ندَب إليه من أعمال البر والخير، ﴿ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وهو الإصلاح بين المتبايِنَيْنِ أو المختصِمَيْنِ بما أباح الله الإصلاح بينهما؛ ليتراجعا إلى ما فيه الأُلفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به،ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد مَن فعل ذلك، فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 114] يقول: ومَن يأمر بصدقةٍ أو معروفٍ من الأمر، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله، يعني طلبَ رضا الله بفعله ذلك - ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لِما فعل مِن ذلك عظيمًا، ولا حدَّ لمبلَغ ما سمى الله عظيمًا يعلَمُه سواه؛ (جامع البيان للطبري جـ 4 صـ 276).
نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يحثُّنا على الإصلاح بين الناس:
(1) روى الشيخانِ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقةٌ، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وكل خطوةٍ يخطوها إلى الصلاة صدقةٌ، ويميط الأذى عن الطريق صدقةٌ))؛ (البخاري حديث 2989 / مسلم حديث 1009).
قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله صلى الله عليه وسلم: (يعدل بين الاثنين صدقةٌ)؛ أي: يصلح بينهما بالعدل؛ (مسلم بشرح النووي جـ 4 صـ 103).
(2) روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضلَ مِن درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البَيْنِ، وفساد ذات البَيْنِ الحالقة))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 4111).
قال شمس الحق آبادي (رحمه الله): في الحديث حثٌّ وترغيب في إصلاح ذات البَيْن، واجتناب عن الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البَيْن ثُلمة في الدِّين، فمَن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها، نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه؛ (عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ 13 صـ 178).
(3) روى البيهقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما عمِل ابن آدم شيئًا أفضلَ من الصلاة، وصلاحِ ذات البَيْن، وخُلقٍ حسنٍ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع الصغير للألباني حديث 5645).
جواز الأخذ من الزكاة للإصلاح بين الناس:
مما يدل على عناية الشريعة الإسلامية المباركة بالإصلاح بين الناس أنه يجوز للمصلِح بين المتخاصِمَين أن يعطى من الزكاة أو من بيت المال لأداء ما تحمَّله من ديون في سبيل الإصلاح بين الناس، وإن كان غنيًّا؛ وذلك بدليل ما يلي:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
قال الإمام القرطبي (رحمه الله) ـ عند تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ وَالْغَارِمِينَ ﴾ [التوبة: 60]: يجوز للمتحمِّل في صلاحٍ وبر أن يعطَى من الصدقة ما يؤدي ما تحمَّل به إذا وجب عليه، وإن كان غنيًّا، إذا كان ذلك يجحف بماله، كالغريم،وهو قول الشافعي وأصحابه، وأحمدَ بن حنبل وغيرهم؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 8 صـ 171).
روى مسلمٌ عن قَبيصة بن مخارقٍ الهلالي قال: تحمَّلت حَمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها،فقال: ((أقِمْ حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها))، قال: ثم قال: ((يا قَبيصة، إن المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حَمَالةً فحلَّتْ له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك))؛ (مسلم حديث 1044).
قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله: (تحمَّلت حَمالة) هي بفتح الحاء، وهي المال الذي يتحمله الإنسان؛ أي: يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين؛ كالإصلاح بين قبيلتين، ونحو ذلك، وإنما تحل له المسألة ويعطَى من الزكاة بشرط أن يستدينَ لغير معصيةٍ؛ (مسلم بشرح النووي جـ 4 صـ 144).
جماعة الإصلاح بين الناس:
إن الله عز وجل قد أكمل لنا الدِّين، وأتم علينا نعمتَه، وبيَّن لنا المنهج القويم لنسير عليه؛ ليصبح المجتمع الإسلامي مجتمعًا تسُودُه المحبة والمودة والأُلفة بين أفراده، ولا يخلو مجتمع من مشاكلَ أو منازعات بين أفراده؛ ولذا يجب أن يكونَ في كل مسجد، وفي كل حي، وفي كل شركة، أو مصنع، أو مدرسة، أو مؤسسة حكومية أو خاصة - جماعةٌ مِن أهل الدين والفضل والعلم تقوم بالإصلاح، وتوقِف الظالم عن ظلمه، وترده إلى رشده وصوابه،ولقد حثنا الله على ذلك؛ حيث يقول سبحانه في محكم التنزيل: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
وقال تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 181].
وينبغي على هذه الطائفة المباركة أن تبذل من أموالها وجهدها ووقتها قدر طاقتها لحل المنازعات بين المتخاصمين؛ لتعود المودة بين أفراد المجتمع المسلم؛ مِن أجل ذلك فإن هذه الطائفة المصلحة العادلة في حُكمها لها منزلة عظيمة عند الله تعالى يوم القيامة.
روى مسلمٌ عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المُقسِطين (أي العادلين) عند الله على منابرَ من نورٍ، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمينٌ، الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا "أي: مَن كانت لهم عليه ولاية"))؛ (مسلم حديث 1827).
فهنيئًا لك يا مَن تُصلح بين الناس ابتغاء وجه الله تعالى.
الشيطان يقف بالمرصاد لمن يريد الإصلاح:
يجب على كل مسلم أن يعلم أن الشيطان هو عدوُّه الأكبر، وأنه له بالمرصاد؛ فليكُنْ على حذَر منه.
يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): (إن الشيطان مبارزٌ لكم بالعداوة، فعادُوه أنتم أشد العداوة، وخالِفوه وكذبوه فيما يغركم به، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]؛ أي: إنما يقصِد أن يُضلَّكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين؛فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان، وأن يرزقنا اتباعَ كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قديرٌ، وبالإجابة جديرٌ؛ (تفسير ابن كثير جـ 6 صـ: 534).
ويحاول الشيطان الرجيم جاهدًا أن يُبعِد المسلم عن القيام بالصلح بين المتخاصمين، ويوسوس له أنه سوف يتعرض للأذى، أو ينال الناس من عِرضه، وأن هذا الصلح سوف يجعله يفقد ماله وجهده ووقته، وأن غيره من الناس يمكن أن يكفيَه الصلحَ بين المتخاصمين، فعند ذلك يجب أن يستعيذَ المسلم بالله من الشيطان الرجيم، ويتذكر قوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 200، 201].
وعلى المسلِم أن يتذكر أيضًا أن الصلح بين الناس له منزلة عظيمة عند الله تعالى، وهو باب عظيم من أبواب مغفرة الذنوب، يجب عليه أن يسارع إليه.
يقول الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].
صفات الذي يُصلح بين الناس:
ذكر أهل العلم صفات ينبغي توافرها فيمن يتصدى للإصلاح بين الناس، ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولًا: إخلاص العمل لله وحده:
يجب على من يقوم بالإصلاح بين الناس أن يعلم أن أساس الثواب وقبول الأعمال عند الله تعالى يكون بإخلاص العمل لله وحده، وأن يكون بعيدًا عن الرياء والسمعة، وألا ينظرَ العبد مدح الناس له على أعماله؛ فعدمُ إخلاص النية لله تعالى يحبط الأعمال الصالحة؛يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
روى البخاري عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))؛ (البخاري حديث 1).
ثانيًا: العلم:
يجب على مَن يتصدى لمهمة الإصلاح بين الناس أن يكون على علم بأحكام الشريعة الإسلامية في القضية التي يُصلح فيها، وبأحوال مَن يُصلح بينهم؛ حتى يقتصر تصرفه في حدود الشرع الشريف؛ لأنه إذا كان جاهلًا بهذه الأمور فإنه سوف يفسد أكثر مما يُصلح.
ثالثًا: الرِّفق وحُسن الخُلق:
الرِّفق وحُسن الخُلق من الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن يصلح بين الناس؛ لأن العنف المفرِط قد يؤدي إلى مفسدة عظيمة لا يُحمَد عقباها،وهذا الخُلق الحميد من الرِّفق ولِين الجانب هو الذي تربى عليه الأنبياء والمرسلون وساروا عليه عند الإصلاح بين الناس، والإسلام يحثنا على الرِّفق وحُسن الخُلق مع الناس.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وقال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
روى مسلمٌ عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَه))؛ (مسلم حديث 2594).
قال الإمام النووي (رحمه الله): هذا الحديث فيه فضل الرِّفق، والحث على التخلُّق وذمِّ العنف، والرِّفق سببُ كل خيرٍ، ومعنى: يُعطي على الرفق؛ أي: يُثيب عليه ما لا يُثيب على غيره؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 391).
روى الشيخان عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: ((إن مِن خياركم أحسنَكم أخلاقًا))؛ (البخاري حديث 3559 / مسلم حديث 2321).
قال القاضي عِياض (رحمه الله): أصل الفُحش: الزيادة والخروج عن الحد.
قال الطبري (رحمه الله): الفاحش: البذيء.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن خياركم أحاسنَكم أخلاقًا))، فيه الحثُّ على حُسن الخُلق، وبيان فضيلة صاحبه، وهو صفة أنبياء الله تعالى وأوليائه.
قال الحسن البصري (رحمه الله): حقيقة حُسن الخُلق: بذل المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه.
قال القاضي عياضٌ (رحمه الله): حُسن الخُلق: هو مخالطة الناس بالجميل والبِشْر، والتودُّد لهم والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحِلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكِبْر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغِلَظ والغضَب والمؤاخَذة؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 87).
روى الترمذيُّ عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن خُلُقٍ حسَنٍ، وإن اللهَ ليُبغِضُ الفاحشَ البذيءَ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1628).
والبَذِيء: هو الذي يتكلم بالفُحْش، ورَدِيء الكلام.
أخي المسلم الكريم:
الرفق في الموعظة كثيرًا ما يَهدي القلوب الشاردة، ويؤلِّف القلوب النافرة، ويأتي بخير، وهذا أفضل من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
رابعًا: الصبر وتحمُّل الأذى:
الصبر وتحمُّل الأذى من الصفات الهامة التي يجب أن يتحلى بها مَن يقوم بالإصلاح بين الناس، وطالما هناك مهمة سامية، فالغالب أن يصاحبَها أذًى من المتخاصمين، ويظهر هذا جليًّا في وصية لقمان لابنه؛ حيث يقول الحقُّ تبارك وتعالى حكاية عن لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
وينبغي لمن يُصلح أن يصبر ويتحمَّل الأذى ابتغاء وجه الله عز وجل؛ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وقال سبحانه: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
الحمد لله ﴿ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 61، 62]، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن الإصلاح بين المتخاصمين له منزلة كبيرة عند الله تعالى، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
معنى الصلح:
الصلح في اللغة: اسم من المصالحة، وهي المسالَمة بعد المنازعة؛ (التعريفات للجرجاني صـ 176 رقم 877).
الصلح في الشرع: معاقدةٌ يتوصل بها إلى الإصلاح بين الناس؛ (المغني لابن قدامة بتحقيق التركي جـ 7 صـ 5).
جاءت كلمة الصلح بمشتقاتها في القرآن الكريم ثلاثين مرة؛ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم صـ 410).
الإصلاح بين الناس وصية ربِّ العالَمين:
جاءت آيات كثيرة في القرآن تتحدث عن الإصلاح بين الناس.
قال سبحانه: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].
قال القرطبي (رحمه الله): مَن شفع شفاعةً حسنةً ليصلح بين اثنين، استوجب الأجرَ؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 5 صـ 295).
وقال ابن كثير (رحمه الله): من سعى في أمرٍ، فترتب عليه خيرٌ، كان له نصيبٌ من ذلك؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ 4 صـ 281).
ويقول الله تعالى أيضًا: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].
قال ابن جرير الطبري (رحمه الله): لا تجعلوا الله قوةً لأيمانكم في ألَّا تبَرُّوا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس، ولكن إذا حلَف أحدكم، فرأى الذي هو خيرٌ مما حلف عليه؛ مِن ترك البر والإصلاح بين الناس - فليحنَثْ في يمينه، ولْيَبَرَّ، وليتقِ الله، وليُصلِحْ بين الناس، وليُكفِّرْ عن يمينه؛ (جامع البيان لابن جرير الطبري جـ 2 صـ 402).
روى مسلمٌ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّرْ عن يمينه))؛ (مسلم - كتاب الإيمان حديث 13).
يقول الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
قال ابن جرير الطبري (رحمه الله): لا خير في كثيرٍ من نجوى الناس جميعًا ﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ [النساء: 114]، والمعروف: هو كل ما أمر الله به أو ندَب إليه من أعمال البر والخير، ﴿ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وهو الإصلاح بين المتبايِنَيْنِ أو المختصِمَيْنِ بما أباح الله الإصلاح بينهما؛ ليتراجعا إلى ما فيه الأُلفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به،ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد مَن فعل ذلك، فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 114] يقول: ومَن يأمر بصدقةٍ أو معروفٍ من الأمر، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله، يعني طلبَ رضا الله بفعله ذلك - ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لِما فعل مِن ذلك عظيمًا، ولا حدَّ لمبلَغ ما سمى الله عظيمًا يعلَمُه سواه؛ (جامع البيان للطبري جـ 4 صـ 276).
نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يحثُّنا على الإصلاح بين الناس:
(1) روى الشيخانِ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقةٌ، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وكل خطوةٍ يخطوها إلى الصلاة صدقةٌ، ويميط الأذى عن الطريق صدقةٌ))؛ (البخاري حديث 2989 / مسلم حديث 1009).
قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله صلى الله عليه وسلم: (يعدل بين الاثنين صدقةٌ)؛ أي: يصلح بينهما بالعدل؛ (مسلم بشرح النووي جـ 4 صـ 103).
(2) روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضلَ مِن درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البَيْنِ، وفساد ذات البَيْنِ الحالقة))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني، حديث 4111).
قال شمس الحق آبادي (رحمه الله): في الحديث حثٌّ وترغيب في إصلاح ذات البَيْن، واجتناب عن الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البَيْن ثُلمة في الدِّين، فمَن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها، نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه؛ (عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ 13 صـ 178).
(3) روى البيهقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما عمِل ابن آدم شيئًا أفضلَ من الصلاة، وصلاحِ ذات البَيْن، وخُلقٍ حسنٍ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الجامع الصغير للألباني حديث 5645).
جواز الأخذ من الزكاة للإصلاح بين الناس:
مما يدل على عناية الشريعة الإسلامية المباركة بالإصلاح بين الناس أنه يجوز للمصلِح بين المتخاصِمَين أن يعطى من الزكاة أو من بيت المال لأداء ما تحمَّله من ديون في سبيل الإصلاح بين الناس، وإن كان غنيًّا؛ وذلك بدليل ما يلي:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
قال الإمام القرطبي (رحمه الله) ـ عند تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ وَالْغَارِمِينَ ﴾ [التوبة: 60]: يجوز للمتحمِّل في صلاحٍ وبر أن يعطَى من الصدقة ما يؤدي ما تحمَّل به إذا وجب عليه، وإن كان غنيًّا، إذا كان ذلك يجحف بماله، كالغريم،وهو قول الشافعي وأصحابه، وأحمدَ بن حنبل وغيرهم؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جـ 8 صـ 171).
روى مسلمٌ عن قَبيصة بن مخارقٍ الهلالي قال: تحمَّلت حَمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها،فقال: ((أقِمْ حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها))، قال: ثم قال: ((يا قَبيصة، إن المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حَمَالةً فحلَّتْ له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك))؛ (مسلم حديث 1044).
قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله: (تحمَّلت حَمالة) هي بفتح الحاء، وهي المال الذي يتحمله الإنسان؛ أي: يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين؛ كالإصلاح بين قبيلتين، ونحو ذلك، وإنما تحل له المسألة ويعطَى من الزكاة بشرط أن يستدينَ لغير معصيةٍ؛ (مسلم بشرح النووي جـ 4 صـ 144).
جماعة الإصلاح بين الناس:
إن الله عز وجل قد أكمل لنا الدِّين، وأتم علينا نعمتَه، وبيَّن لنا المنهج القويم لنسير عليه؛ ليصبح المجتمع الإسلامي مجتمعًا تسُودُه المحبة والمودة والأُلفة بين أفراده، ولا يخلو مجتمع من مشاكلَ أو منازعات بين أفراده؛ ولذا يجب أن يكونَ في كل مسجد، وفي كل حي، وفي كل شركة، أو مصنع، أو مدرسة، أو مؤسسة حكومية أو خاصة - جماعةٌ مِن أهل الدين والفضل والعلم تقوم بالإصلاح، وتوقِف الظالم عن ظلمه، وترده إلى رشده وصوابه،ولقد حثنا الله على ذلك؛ حيث يقول سبحانه في محكم التنزيل: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
وقال تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 181].
وينبغي على هذه الطائفة المباركة أن تبذل من أموالها وجهدها ووقتها قدر طاقتها لحل المنازعات بين المتخاصمين؛ لتعود المودة بين أفراد المجتمع المسلم؛ مِن أجل ذلك فإن هذه الطائفة المصلحة العادلة في حُكمها لها منزلة عظيمة عند الله تعالى يوم القيامة.
روى مسلمٌ عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المُقسِطين (أي العادلين) عند الله على منابرَ من نورٍ، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمينٌ، الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا "أي: مَن كانت لهم عليه ولاية"))؛ (مسلم حديث 1827).
فهنيئًا لك يا مَن تُصلح بين الناس ابتغاء وجه الله تعالى.
الشيطان يقف بالمرصاد لمن يريد الإصلاح:
يجب على كل مسلم أن يعلم أن الشيطان هو عدوُّه الأكبر، وأنه له بالمرصاد؛ فليكُنْ على حذَر منه.
يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): (إن الشيطان مبارزٌ لكم بالعداوة، فعادُوه أنتم أشد العداوة، وخالِفوه وكذبوه فيما يغركم به، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]؛ أي: إنما يقصِد أن يُضلَّكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين؛فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان، وأن يرزقنا اتباعَ كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قديرٌ، وبالإجابة جديرٌ؛ (تفسير ابن كثير جـ 6 صـ: 534).
ويحاول الشيطان الرجيم جاهدًا أن يُبعِد المسلم عن القيام بالصلح بين المتخاصمين، ويوسوس له أنه سوف يتعرض للأذى، أو ينال الناس من عِرضه، وأن هذا الصلح سوف يجعله يفقد ماله وجهده ووقته، وأن غيره من الناس يمكن أن يكفيَه الصلحَ بين المتخاصمين، فعند ذلك يجب أن يستعيذَ المسلم بالله من الشيطان الرجيم، ويتذكر قوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 200، 201].
وعلى المسلِم أن يتذكر أيضًا أن الصلح بين الناس له منزلة عظيمة عند الله تعالى، وهو باب عظيم من أبواب مغفرة الذنوب، يجب عليه أن يسارع إليه.
يقول الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].
صفات الذي يُصلح بين الناس:
ذكر أهل العلم صفات ينبغي توافرها فيمن يتصدى للإصلاح بين الناس، ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولًا: إخلاص العمل لله وحده:
يجب على من يقوم بالإصلاح بين الناس أن يعلم أن أساس الثواب وقبول الأعمال عند الله تعالى يكون بإخلاص العمل لله وحده، وأن يكون بعيدًا عن الرياء والسمعة، وألا ينظرَ العبد مدح الناس له على أعماله؛ فعدمُ إخلاص النية لله تعالى يحبط الأعمال الصالحة؛يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
روى البخاري عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))؛ (البخاري حديث 1).
ثانيًا: العلم:
يجب على مَن يتصدى لمهمة الإصلاح بين الناس أن يكون على علم بأحكام الشريعة الإسلامية في القضية التي يُصلح فيها، وبأحوال مَن يُصلح بينهم؛ حتى يقتصر تصرفه في حدود الشرع الشريف؛ لأنه إذا كان جاهلًا بهذه الأمور فإنه سوف يفسد أكثر مما يُصلح.
ثالثًا: الرِّفق وحُسن الخُلق:
الرِّفق وحُسن الخُلق من الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن يصلح بين الناس؛ لأن العنف المفرِط قد يؤدي إلى مفسدة عظيمة لا يُحمَد عقباها،وهذا الخُلق الحميد من الرِّفق ولِين الجانب هو الذي تربى عليه الأنبياء والمرسلون وساروا عليه عند الإصلاح بين الناس، والإسلام يحثنا على الرِّفق وحُسن الخُلق مع الناس.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وقال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
روى مسلمٌ عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَه))؛ (مسلم حديث 2594).
قال الإمام النووي (رحمه الله): هذا الحديث فيه فضل الرِّفق، والحث على التخلُّق وذمِّ العنف، والرِّفق سببُ كل خيرٍ، ومعنى: يُعطي على الرفق؛ أي: يُثيب عليه ما لا يُثيب على غيره؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 391).
روى الشيخان عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: ((إن مِن خياركم أحسنَكم أخلاقًا))؛ (البخاري حديث 3559 / مسلم حديث 2321).
قال القاضي عِياض (رحمه الله): أصل الفُحش: الزيادة والخروج عن الحد.
قال الطبري (رحمه الله): الفاحش: البذيء.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن خياركم أحاسنَكم أخلاقًا))، فيه الحثُّ على حُسن الخُلق، وبيان فضيلة صاحبه، وهو صفة أنبياء الله تعالى وأوليائه.
قال الحسن البصري (رحمه الله): حقيقة حُسن الخُلق: بذل المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه.
قال القاضي عياضٌ (رحمه الله): حُسن الخُلق: هو مخالطة الناس بالجميل والبِشْر، والتودُّد لهم والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحِلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكِبْر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغِلَظ والغضَب والمؤاخَذة؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 87).
روى الترمذيُّ عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن خُلُقٍ حسَنٍ، وإن اللهَ ليُبغِضُ الفاحشَ البذيءَ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1628).
والبَذِيء: هو الذي يتكلم بالفُحْش، ورَدِيء الكلام.
أخي المسلم الكريم:
الرفق في الموعظة كثيرًا ما يَهدي القلوب الشاردة، ويؤلِّف القلوب النافرة، ويأتي بخير، وهذا أفضل من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
رابعًا: الصبر وتحمُّل الأذى:
الصبر وتحمُّل الأذى من الصفات الهامة التي يجب أن يتحلى بها مَن يقوم بالإصلاح بين الناس، وطالما هناك مهمة سامية، فالغالب أن يصاحبَها أذًى من المتخاصمين، ويظهر هذا جليًّا في وصية لقمان لابنه؛ حيث يقول الحقُّ تبارك وتعالى حكاية عن لقمان: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].
وينبغي لمن يُصلح أن يصبر ويتحمَّل الأذى ابتغاء وجه الله عز وجل؛ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وقال سبحانه: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].