الميزانُ يومَ القيامةِ
صفته، وأدلته، وحكمته، وآثار الإيمانِ بهِ
الحمد لله الذي أرسلَ رسولَهُ بالْهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَهُ على الدِّين كُلِّهِ وكفى باللهِ شهيداً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريك لهُ إقراراً به وتوحيداً، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آله وسلَّمَ تسليماً مزيداً.
أما بعد: أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، واعلَمُوا أنَّ من الإيمانِ باليومِ الآخرِ: الإيمانُ بالميزان، قالَ الإمامُ أحمد: (والميزانُ حقٌّ تُوزنُ به الحسناتُ والسيئاتُ كما يَشَاءُ الله أنْ تُوزن) انتهى.
والميزان لا يَعْلَمُ قَدْرَهُ إلاَّ اللهُ، وهو من أعظمِ المواطنِ الْمَهُولَةِ يومَ القيامةِ، قال ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: (للناسِ عندَ الميزانِ تَجَادُلٌ وزِحامٌ) رواه البيهقيُّ في البعث والنشورِ بسندٍ حَسَنٍ.
و(قالَ أبو الأحْوَصِ: تَدْرِي مِنْ أيِّ شَيْءٍ يُخَافُ؟ إذا ثقُلَتْ مِيزَانُ عَبْدٍ نُودِيَ في مَجْمَعٍ فيهِ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ: ألا إنَّ فُلانَ ابنَ فُلانٍ قدْ سَعِدَ سَعَادَةً لا يَشْقَى بعْدَهَا أبَداً، وإذا خَفَّتْ ميزَانُهُ نُودِيَ على رُؤوسِ الخلائِقِ: ألا إنَّ فُلانَ ابْنَ فُلانٍ قَدْ شَقِيَ شَقَاوَةً لا يَسْعَدُ بَعْدَها أبداً) انتهى.
عبادَ اللهِ: لقد دلَّ الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ على أنَّ أعمالَ العبادِ تُوزَنُ يومَ القيامةِ، قالَ تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 8، 9]، وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (يُصَاحُ برَجُلٍ مِنْ أُمَّتي يومَ القيامَةِ على رُءُوسِ الخلائِقِ، فيُنْشَرُ لهُ تِسْعَةٌ وتسْعُونَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثمَّ يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: هلْ تُنْكِرُ مِنْ هذا شيئاً؟ فيقولُ: لا، يا رَبِّ، فيقُولُ: أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتي الحافظُونَ؟ فيقُولُ: لا، ثمَّ يقولُ: ألَكَ عُذْرٌ، ألَكَ حَسَنَةٌ؟ فيُهَابُ الرَّجُلُ، فيقُولُ: لا، فيقُولُ: بَلَى، إنَّ لَكَ عِنْدَنا حَسَنَاتٍ، وإنهُ لا ظُلْمَ علَيْكَ اليوْمَ، فتُخْرَجُ لَهُ بطَاقَةٌ فيهَا: أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، قالَ: فيَقُولُ: يا رَبِّ ما هذهِ البطَاقَةُ معَ هذهِ السِّجِلاَّتِ؟ فيقولُ: إنكَ لا تُظْلَمُ، فتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ في كِفَّةٍ والبطَاقَةُ في كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وثقُلَتِ البطَاقَةُ) رواه ابن ماجه، وقال الكنانيُّ: (وهوَ منْ أحسنِ الحديث).
و(قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يومَ القيامَةِ، فيُؤْتَى بالرَّجُلِ فَيُوضَعُ في كِفَّةٍ، فيُوضَعُ ما أُحْصِيَ عليهِ، فتَمَايَلَ بهِ الْمِيزَانُ، قالَ: فَيُبْعَثُ بهِ إلى النَّارِ، فإذا أُدْبِرَ بهِ إذا صَائِحٌ يَصيحُ مِنْ عندِ الرَّحْمَنِ، يقولُ: لا تَعْجَلُوا، لا تَعْجَلُوا، فإنهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ، فيُؤْتَى ببطَاقَةٍ فيها: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ في كِفَّةٍ، حتَّى يَمِيلَ بهِ الْمِيزَانُ) رواه الإمام أحمدُ وحسَّنه الهيثمي.
قال ابنُ أبي العِزّ: (وفي هذا السِّيَاقِ فائدةٌ جَليلَةٌ وهِيَ: أنَّ العامِلَ يُوزَنُ مَعَ عَمَلِهِ) انتهى.
وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (كَلِمَتَانِ خَفيفَتَانِ على اللِّسَانِ، ثقِيلَتَانِ في الميزانِ، حَبيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللهِ وبحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ) رواه البخاري ومسلم.
(قالَ أبو إسحاقَ الزَّجَّاجُ: أجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ على الإيمانِ بالْمِيزَانِ، وأنَّ أَعْمَالَ العِبَادِ تُوزَنُ يومَ القيامَةِ، وأنَّ الْمِيزَانَ لهُ لِسَانٌ وكِفَّتَانِ ويَمِيلُ بالأعمالِ) انتهى.
وقالَ ابنُ بطَّة في وُجوب الإيمان بالميزان: (وقدِ اتَّفَقَ أهلُ العِلْمِ بالأخبارِ والعُلَمَاءُ والزُّهَّادُ والعُبَّادُ في جميعِ الأمْصَارِ أنَّ الإيمانَ بذلكَ واجِبٌ لازِمٌ) انتهى.
عباد الله: إن الوزنَ والميزانَ من المواطنِ الرهيبةِ يومَ القيامةِ، يَنْسى فيهِ العبدُ نفْسَهُ وأهلَهُ وأحبابه، ويَنشغلُ بالشيء الذي أمامه، فعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها (أنها ذكَرَتِ النَّارَ فبَكَتْ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما يُبْكيكِ؟ قالتْ: ذكَرْتُ النارَ فبَكَيْتُ فهَلْ تَذكُرُونَ أهْلِيكُمْ يومَ القيامَةِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أمَّا في ثلاثةِ مَوَاطِنَ فلا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً: عِنْدَ الْمِيزانِ حتى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أوْ يَثْقُلُ، وعِنْدَ الكِتَابِ حينَ يُقَالُ: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ) ، حتَّى يَعْلَمَ أيْنَ يَقَعُ كِتابُهُ أفي يَمينِهِ أمْ في شِمَالِهِ أمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وعِنْدَ الصِّرَاطِ إذا وُضِعَ بينَ ظَهْرَيْ جَهنَّمَ) رواه أبو داود وجوَّد إسناده العراقي.
ولشدَّةِ الهولِ عندَ الميزانِ يومَ القيامةِ، وكثرةِ زِحامِ الْخَلْقِ، فالكلُّ ينتظرُ نتيجةَ وَزْنِهِ إمَّا إلى الجنةِ وإمَّا إلى السعيرِ، في هذا الموقفِ يتواجدُ رسولُنا صلَّى اللهِ عليه وسلَّمَ، فعن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه قال: (سَأَلْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يَشْفَعَ لي يومَ القيامةِ، فقالَ: أَنا فاعِلٌ، قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ فأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قالَ: اطْلُبْني أوَّلَ ما تَطْلُبُني على الصِّرَاطِ، قالَ: قُلْتُ: فإنْ لَمْ أَلْقَكَ على الصِّرَاطِ؟ قالَ: فَاطْلُبْني عندَ الْميزَانِ، قُلْتُ: فإنْ لَمْ أَلْقَكَ عندَ الْميزَانِ؟ قالَ: فاطْلُبْني عندَ الحَوْضِ، فإني لا أُخْطِئُ هذهِ الثلاثَ الْمَوَاطِنَ) رواه الترمذي وصحَّحه الألبانيُّ.
واللهُ سيزنُ كُلَّ أعمال عباده في ساعةٍ واحدةٍ، فعنْ سلمانَ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: (يُوضَعُ الْمِيزَانُ يومَ القيامةِ، فلَوْ أنَّ فيهِ السَّمَاواتُ والأرضُ لَوُسِعَتْ، فتقُولُ الْمَلائِكَةُ: يا رَبِّ لِمَنْ تَزِنُ بهذا؟ فيقُولُ: لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقي، فيقُولُونَ: سُبحانكَ ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ) رواه الآجُرِيُّ في الشريعة وقال الألبانيُّ: (وإسنادَهُ صحيحٌ، وله حُكم المرفوع) انتهى، وقال الإمامُ ابنُ تيمية: (واللهُ سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة، لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا) انتهى.
عبادَ اللهِ: مِنَ الحِكَمِ في وَزْنِ الأعمالِ يوم القيامةِ: ظُهورُ عَدْلِهِ سُبحانَهُ، قال ابن أبي العِزِّ: (ولَوْ لَمْ يكُنْ مِنَ الحِكْمَةِ في وَزْنِ الأعْمَالِ إلاُّ ظُهُورُ عَدْلِهِ سُبحانهُ لجميعِ عِبَادِهِ، فلا أحَدَ أحَبُّ إليهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ) انتهى، ومن الحِكَمِ: إقامةِ الحُجَّةِ على الخلْقِ، وإظهار علامةِ السعادةِ والشقاوةِ يومَ القيامةِ.
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدُهُ ورسولُهُ.
أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و(لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
عبدَ اللهِ: إنَّ لإيمانكَ بالميزانِ يومَ القيامة آثاراً عظيمةً عليكَ في دينكَ وخُلُقِكَ وتعامُلاتِك، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَا شَيْءٌ أَثقَلُ في مِيزَانِ المؤْمِنِ يومَ القيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وإنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ) رواه الترمذيُّ وقال: (حسَنٌ صحيحٌ)، وهو سببٌ لاستقامتكَ على دينِ اللهِ لأنكَ تعلمُ أنك موقوفٌ للحساب والجزاء يوم القيامة، وهو سببٌ لبثُّ الطَّمأنينة والرِّضا وراحةِ البال، وهو سببٌ لتهوين ما تلقاهُ من ظُلْمِ ظالمٍ لإيمانكَ بأن الله سيقتصُّ لَكَ منه يومَ القيامة، وسببٌ لمسارعتك للخيرات، لإيمانكَ بأنَّ مَنْ ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وسببٌ لمراقبتكَ لله في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، لعلمك أن الله مُحصي ذلك عليك، فتمتنع عن الظلم والعصيان والبغي وأكل أموال الناس بالباطل والوقوع في أعراضهم، كما أنه سببٌ لمسارعتك للتوبة والاستغفار من الزلل وإرجاع الحُقوق لأهلها، فيكون قلبك مُتعلِّقاً بالله وحده، وهو سببٌ للحرص على الأعمال التي تُثقِّل بها ميزانك، من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وقراءة القرآن والخُلُق الحسن، والحذر من الأعمال التي تخسفِ ميزانكَ من الشرك والكفر والنفاق والرياء أو تُخفِّفُ ميزانكَ كسوء الخلق وانتهاك الحُرُمات من الفرُوج والأعراض وظُلم العباد.
والخلاصةُ: أن عليك أنْ تَزِنَ أفعالَكَ وأقوالَكَ بميزانِ الشرعِ رَجَاءَ أن يثقُلَ ميزانُكَ يومَ القيامةِ.
صفته، وأدلته، وحكمته، وآثار الإيمانِ بهِ
الحمد لله الذي أرسلَ رسولَهُ بالْهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَهُ على الدِّين كُلِّهِ وكفى باللهِ شهيداً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريك لهُ إقراراً به وتوحيداً، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آله وسلَّمَ تسليماً مزيداً.
أما بعد: أيها الناسُ اتقوا الله تعالى، واعلَمُوا أنَّ من الإيمانِ باليومِ الآخرِ: الإيمانُ بالميزان، قالَ الإمامُ أحمد: (والميزانُ حقٌّ تُوزنُ به الحسناتُ والسيئاتُ كما يَشَاءُ الله أنْ تُوزن) انتهى.
والميزان لا يَعْلَمُ قَدْرَهُ إلاَّ اللهُ، وهو من أعظمِ المواطنِ الْمَهُولَةِ يومَ القيامةِ، قال ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: (للناسِ عندَ الميزانِ تَجَادُلٌ وزِحامٌ) رواه البيهقيُّ في البعث والنشورِ بسندٍ حَسَنٍ.
و(قالَ أبو الأحْوَصِ: تَدْرِي مِنْ أيِّ شَيْءٍ يُخَافُ؟ إذا ثقُلَتْ مِيزَانُ عَبْدٍ نُودِيَ في مَجْمَعٍ فيهِ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ: ألا إنَّ فُلانَ ابنَ فُلانٍ قدْ سَعِدَ سَعَادَةً لا يَشْقَى بعْدَهَا أبَداً، وإذا خَفَّتْ ميزَانُهُ نُودِيَ على رُؤوسِ الخلائِقِ: ألا إنَّ فُلانَ ابْنَ فُلانٍ قَدْ شَقِيَ شَقَاوَةً لا يَسْعَدُ بَعْدَها أبداً) انتهى.
عبادَ اللهِ: لقد دلَّ الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ على أنَّ أعمالَ العبادِ تُوزَنُ يومَ القيامةِ، قالَ تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 8، 9]، وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (يُصَاحُ برَجُلٍ مِنْ أُمَّتي يومَ القيامَةِ على رُءُوسِ الخلائِقِ، فيُنْشَرُ لهُ تِسْعَةٌ وتسْعُونَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثمَّ يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: هلْ تُنْكِرُ مِنْ هذا شيئاً؟ فيقولُ: لا، يا رَبِّ، فيقُولُ: أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتي الحافظُونَ؟ فيقُولُ: لا، ثمَّ يقولُ: ألَكَ عُذْرٌ، ألَكَ حَسَنَةٌ؟ فيُهَابُ الرَّجُلُ، فيقُولُ: لا، فيقُولُ: بَلَى، إنَّ لَكَ عِنْدَنا حَسَنَاتٍ، وإنهُ لا ظُلْمَ علَيْكَ اليوْمَ، فتُخْرَجُ لَهُ بطَاقَةٌ فيهَا: أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، قالَ: فيَقُولُ: يا رَبِّ ما هذهِ البطَاقَةُ معَ هذهِ السِّجِلاَّتِ؟ فيقولُ: إنكَ لا تُظْلَمُ، فتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ في كِفَّةٍ والبطَاقَةُ في كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ وثقُلَتِ البطَاقَةُ) رواه ابن ماجه، وقال الكنانيُّ: (وهوَ منْ أحسنِ الحديث).
و(قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يومَ القيامَةِ، فيُؤْتَى بالرَّجُلِ فَيُوضَعُ في كِفَّةٍ، فيُوضَعُ ما أُحْصِيَ عليهِ، فتَمَايَلَ بهِ الْمِيزَانُ، قالَ: فَيُبْعَثُ بهِ إلى النَّارِ، فإذا أُدْبِرَ بهِ إذا صَائِحٌ يَصيحُ مِنْ عندِ الرَّحْمَنِ، يقولُ: لا تَعْجَلُوا، لا تَعْجَلُوا، فإنهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ، فيُؤْتَى ببطَاقَةٍ فيها: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ في كِفَّةٍ، حتَّى يَمِيلَ بهِ الْمِيزَانُ) رواه الإمام أحمدُ وحسَّنه الهيثمي.
قال ابنُ أبي العِزّ: (وفي هذا السِّيَاقِ فائدةٌ جَليلَةٌ وهِيَ: أنَّ العامِلَ يُوزَنُ مَعَ عَمَلِهِ) انتهى.
وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (كَلِمَتَانِ خَفيفَتَانِ على اللِّسَانِ، ثقِيلَتَانِ في الميزانِ، حَبيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللهِ وبحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ) رواه البخاري ومسلم.
(قالَ أبو إسحاقَ الزَّجَّاجُ: أجْمَعَ أهْلُ السُّنَّةِ على الإيمانِ بالْمِيزَانِ، وأنَّ أَعْمَالَ العِبَادِ تُوزَنُ يومَ القيامَةِ، وأنَّ الْمِيزَانَ لهُ لِسَانٌ وكِفَّتَانِ ويَمِيلُ بالأعمالِ) انتهى.
وقالَ ابنُ بطَّة في وُجوب الإيمان بالميزان: (وقدِ اتَّفَقَ أهلُ العِلْمِ بالأخبارِ والعُلَمَاءُ والزُّهَّادُ والعُبَّادُ في جميعِ الأمْصَارِ أنَّ الإيمانَ بذلكَ واجِبٌ لازِمٌ) انتهى.
عباد الله: إن الوزنَ والميزانَ من المواطنِ الرهيبةِ يومَ القيامةِ، يَنْسى فيهِ العبدُ نفْسَهُ وأهلَهُ وأحبابه، ويَنشغلُ بالشيء الذي أمامه، فعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها (أنها ذكَرَتِ النَّارَ فبَكَتْ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما يُبْكيكِ؟ قالتْ: ذكَرْتُ النارَ فبَكَيْتُ فهَلْ تَذكُرُونَ أهْلِيكُمْ يومَ القيامَةِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أمَّا في ثلاثةِ مَوَاطِنَ فلا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً: عِنْدَ الْمِيزانِ حتى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أوْ يَثْقُلُ، وعِنْدَ الكِتَابِ حينَ يُقَالُ: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ) ، حتَّى يَعْلَمَ أيْنَ يَقَعُ كِتابُهُ أفي يَمينِهِ أمْ في شِمَالِهِ أمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وعِنْدَ الصِّرَاطِ إذا وُضِعَ بينَ ظَهْرَيْ جَهنَّمَ) رواه أبو داود وجوَّد إسناده العراقي.
ولشدَّةِ الهولِ عندَ الميزانِ يومَ القيامةِ، وكثرةِ زِحامِ الْخَلْقِ، فالكلُّ ينتظرُ نتيجةَ وَزْنِهِ إمَّا إلى الجنةِ وإمَّا إلى السعيرِ، في هذا الموقفِ يتواجدُ رسولُنا صلَّى اللهِ عليه وسلَّمَ، فعن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه قال: (سَأَلْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يَشْفَعَ لي يومَ القيامةِ، فقالَ: أَنا فاعِلٌ، قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ فأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قالَ: اطْلُبْني أوَّلَ ما تَطْلُبُني على الصِّرَاطِ، قالَ: قُلْتُ: فإنْ لَمْ أَلْقَكَ على الصِّرَاطِ؟ قالَ: فَاطْلُبْني عندَ الْميزَانِ، قُلْتُ: فإنْ لَمْ أَلْقَكَ عندَ الْميزَانِ؟ قالَ: فاطْلُبْني عندَ الحَوْضِ، فإني لا أُخْطِئُ هذهِ الثلاثَ الْمَوَاطِنَ) رواه الترمذي وصحَّحه الألبانيُّ.
واللهُ سيزنُ كُلَّ أعمال عباده في ساعةٍ واحدةٍ، فعنْ سلمانَ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: (يُوضَعُ الْمِيزَانُ يومَ القيامةِ، فلَوْ أنَّ فيهِ السَّمَاواتُ والأرضُ لَوُسِعَتْ، فتقُولُ الْمَلائِكَةُ: يا رَبِّ لِمَنْ تَزِنُ بهذا؟ فيقُولُ: لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقي، فيقُولُونَ: سُبحانكَ ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ) رواه الآجُرِيُّ في الشريعة وقال الألبانيُّ: (وإسنادَهُ صحيحٌ، وله حُكم المرفوع) انتهى، وقال الإمامُ ابنُ تيمية: (واللهُ سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة، لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا) انتهى.
عبادَ اللهِ: مِنَ الحِكَمِ في وَزْنِ الأعمالِ يوم القيامةِ: ظُهورُ عَدْلِهِ سُبحانَهُ، قال ابن أبي العِزِّ: (ولَوْ لَمْ يكُنْ مِنَ الحِكْمَةِ في وَزْنِ الأعْمَالِ إلاُّ ظُهُورُ عَدْلِهِ سُبحانهُ لجميعِ عِبَادِهِ، فلا أحَدَ أحَبُّ إليهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ) انتهى، ومن الحِكَمِ: إقامةِ الحُجَّةِ على الخلْقِ، وإظهار علامةِ السعادةِ والشقاوةِ يومَ القيامةِ.
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدُهُ ورسولُهُ.
أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و(لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
عبدَ اللهِ: إنَّ لإيمانكَ بالميزانِ يومَ القيامة آثاراً عظيمةً عليكَ في دينكَ وخُلُقِكَ وتعامُلاتِك، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَا شَيْءٌ أَثقَلُ في مِيزَانِ المؤْمِنِ يومَ القيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وإنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ) رواه الترمذيُّ وقال: (حسَنٌ صحيحٌ)، وهو سببٌ لاستقامتكَ على دينِ اللهِ لأنكَ تعلمُ أنك موقوفٌ للحساب والجزاء يوم القيامة، وهو سببٌ لبثُّ الطَّمأنينة والرِّضا وراحةِ البال، وهو سببٌ لتهوين ما تلقاهُ من ظُلْمِ ظالمٍ لإيمانكَ بأن الله سيقتصُّ لَكَ منه يومَ القيامة، وسببٌ لمسارعتك للخيرات، لإيمانكَ بأنَّ مَنْ ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وسببٌ لمراقبتكَ لله في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، لعلمك أن الله مُحصي ذلك عليك، فتمتنع عن الظلم والعصيان والبغي وأكل أموال الناس بالباطل والوقوع في أعراضهم، كما أنه سببٌ لمسارعتك للتوبة والاستغفار من الزلل وإرجاع الحُقوق لأهلها، فيكون قلبك مُتعلِّقاً بالله وحده، وهو سببٌ للحرص على الأعمال التي تُثقِّل بها ميزانك، من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وقراءة القرآن والخُلُق الحسن، والحذر من الأعمال التي تخسفِ ميزانكَ من الشرك والكفر والنفاق والرياء أو تُخفِّفُ ميزانكَ كسوء الخلق وانتهاك الحُرُمات من الفرُوج والأعراض وظُلم العباد.
والخلاصةُ: أن عليك أنْ تَزِنَ أفعالَكَ وأقوالَكَ بميزانِ الشرعِ رَجَاءَ أن يثقُلَ ميزانُكَ يومَ القيامةِ.