الخوف من الله: نعيم في الدنيا والآخرة
الخوف من الله: تنمية للبلاد والعباد
إنَّ المديرَ في إدارته، والمهندِسَ في مكتبِه، والمبَرْمِج في برمَجته، والمدرِّس في مدرسته، والعامِلَ في معملِه، والشرطيَّ في مخفرِه، والقاضيَ في محكَمَتِه، والصحفيَّ في جريدته، والكاتبَ في كتاباته، عمومًا: كلّ مسؤولٍ من موقِع مهمَّته؛ كما قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، فالأميرُ الذي على النَّاس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجُل راعٍ على أهل بيْتِه، وهو مسؤول عنْهم، والمرأةُ راعية على بيْتِ بعْلِها وولَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده، وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته))؛ صحيح مسلم.
كلٌّ في عملِه، لوِ استحضروا مُراقبةَ الله وعظَمَتَه وجلالَه، وقُدرتَه - سبحانه - على أن يقتصَّ من عبْدِه الضَّعيف، من جرَّاء عملٍ يُؤْذي ويهدِّد أمْنَ بلدِه الاقتِصاديّ والاجتِماعي والسياسي، لتحقَّقتْ رفاهية البُلدان، وانتشر العدْل، وسادَ تكافُؤُ الفُرَص، وقلَّت البطالة التي تنهش في فلذات أكْباد أبناء هذه الأُمَّة.
يُخطئ - وربِّ الكعبة - مَن يظنُّ أنَّ القوانين وحدَها هي الزَّاجِرة والرَّادِعة لكلِّ المُخالفات، هل تَمكَّنتْ من قطْعِ الطَّريق على الرَّاشي والمُرْتشي؟! هل منعتِ الزَّانيَ من الزِّنا؟! هلْ منعتِ الفَساد الإداري (البيروقراطيَّة)؟! هل حدَّت من حوادث السَّير؟! هل منَعَتِ الغِشَّ في الأسواق والمؤسَّسات؟! هل قلَّصتْ من عدد الجرائم؟!
أخي القارئ الكريم، هذه القصص الواقعيَّة عن السَّلف - رضْوان الله عليهم - عِظاتٌ وعِبر لِمنْ له قلبٌ أو ألقى السَّمْع وهو شهيد.
* القصَّة الأولى من عهْد الخليفةِ عُمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه -:
لمَّا نهى عمر - رضي الله عنه - في خلافته عن خلْطِ اللَّبن بالماء، وخرج ذات ليلةٍ في حواشي المدينة، وأسند ظهْرَهُ إلى جدارٍ ليرْتاح، فإذا بامرأةٍ تقول لابنتها: ألا تَمْذُقين اللَّبنَ بالماء؟ فقالت الجارية: كيف أمذُقُ وقد نَهى أميرُ المؤمنين عن المذق؟! فقالت الأم: فما يُدْرِي أميرَ المؤمنين؟ فقالت الجارية: إن كان عُمر لا يعلمُه فإلهُ عمر يعلَم، ما كنت لأفعله وقد نَهى عنه.
فوقعتْ مقالتُها من عمر - رضي الله عنه- فلمَّا أصبح دعا عاصمًا ابنَه فوصفها له ومكانَها، وقال: اذهب يا بنَيَّ فتزوَّجْها، فتزوَّجها عاصمُ بن عُمر، فولدتْ له بنتًا فتزوَّجَها عبدالعزيز بن مَرْوان بن الحَكَم، فأتتْ بِعُمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه.
إنَّها ذرِّيَّة بعضُها من بعضٍ، ذرِّيَّة خيْرٍ لأمَّتِه وعقيدتِه، وإنَّها ثَمرةُ التَّمكين لهذا الدين في الأرض، ودفعة قويَّة لتوحيد شَمْلِ الأُمَّة الإسلاميَّة على تسخير ما وهبها الله من خوف وإخلاص لله - تعالى - في خِدْمة دينِها أوَّلاً، وفي السياقِ نفسِه توفيرُ إنتاجٍ غذائي يحدُّ من الأمراض القلبيَّة والجسديَّة، ومَن يُساعد على تقوية الإنتاج المحلِّي وتطويره.
انظروا معي - إخواني وأحبَّائي - إلى هذا الزَّمان الَّذي كثُر فيه التَّدليس والغِشُّ في الأَسواق، وَما يتْبَع ذلك من مُضارباتٍ اقتصاديَّة تُهدِّد الاقتِصادَ المحلِّي لبلدان العالم الإسلامي؛ وبالتَّالي تَجعلُه لقمةً سائغة لشرِكات النَّهْب العالميَّة.
* القصَّة الثانية مع عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -:
ذكر ابنُ الجوْزي - رحِمه الله - في "صفة الصفوة" قصَّة عجيبةً - واللهِ - تنمُّ عن عُمْق الخوْفِ من الله - سبحانه وتعالى - والأَوْلى - أخي الحبيب - أن تُكْتَب بماء العيون بدَلَ ماءِ الذَّهَب.
تأمَّلْ معي - أخي القَارئ الكريم - هذا الحوارَ، وأعِرْ فؤادَك وقلبَك وخَشْيَتك للحيِّ القيُّوم.
قال نافع: خرجت مع ابْنِ عُمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بِهم راعٍ، فقال له عبدالله: هلمَّ يا راعي، فأصِبْ من هذه السُّفرة.
فقال: إنِّي صائم.
فقال له عبدالله: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديد حرُّه، وأنت في هذه الشِّعاب في آثارِ هذِه الغنَم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائم!
فقال الراعي: أُبادر أيَّامي الخالية، فعجِب ابنُ عمر.
وقال: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غنمِك نجتَزِرُها، ونُطْعِمك من لَحمها ما تفطِرُ عليه، ونعطيك ثَمنَها؟
قال: إنَّها ليستْ لي، إنَّها لمولاي.
قال: فما عسيْتَ أن يقول لكَ مولاك إن قُلْتَ: أكلها الذئب؟
فمضى الرَّاعي وهو رافعٌ إصبعَه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟
قال: فلمْ يزل ابنُ عُمر يقول: قال الراعي: فأين الله.
فما عدا أن قدِم المدينةَ، فبعث إلى سيِّده فاشترى منه الرَّاعي والغنم، فأعتق الرَّاعيَ، ووهبَ له الغَنم - رحِمه الله. (صفة الصفوة:2 / 188).
وهنا درسٌ عظيمُ الأثَر لِمَنْ كان له قلبٌ أو ألقى السَّمع وهُو شهيد، وهو تنمِية الصِّلة بالله وخشْيَته في الغَيْبِ والشَّهادة، وغرْس رُوح المراقبة في النُّفوس، ولله دَرُّ الشَّاعر الذي قال:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً وَلا أَنَّ مَا تُخْفِي عَلَيْهِ يَغِيبُ
كثيرةٌ هي التَّقارير الدَّولية، التي تُرْفَع كلَّ شهْرٍ وكلَّ سنة؛ لقياس مدى تخلُّف وتقدُّم البلْدان والسَّعْي لتنمِيَتها؛ ففي بداية الخمسينيَّات تَمَّ اعتِماد مِعْيار الدَّخْل الفَرْدِي، وفي السبعينيَّات تبنَّت منظَّمة الأُمَم المتَّحدة مِعْيَار إشْباع الحاجيات الأساسيَّة، إلى أن اكتشف المفكِّر الاقتِصادي الهندي "أمارتيا إسين" ما يسمَّى بِمؤشِّر التنمية البشريَّة، الذي يمزج بين ثلاثةِ مستويات أساسيَّة: مستوى المعرفة (الذي يمثل نسبة الأمَّة، نسبة التمدرس)، ومستوى الدَّخْل (الذي يمثل معدَّل النَّاتج الداخلي لبلدٍ معين)، ومستوى الصِّحَّة (الذي يمثِّل معدل أمدَ الحياة لمجتمع معين)، لكن أين التنمية الربانيَّة؟! لمَ الجري وراء السراب؟!
وحتَّى نكونَ على بيِّنة من الأمر؛ فحكومات الدُّول الصناعيَّة ليستْ على استِعْدادٍ لقبول توزيعٍ حقيقي للقوَّة الاقتصاديَّة على النِّطاق الدولي، ويتأكَّد الاتِّجاه السلبي للدُّول الصناعيَّة من موقفِها في التَّصويت على اعتِبار الحقِّ في التَّنمية حقًّا إنسانيًّا في لجنة حقوق الإنسان، والجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة؛ حيثُ درجتِ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة على التَّصويت بالرَّفض، بيْنَما اكتفتِ الدُّول الأوربيَّة بالامتناع عن التَّصويت!
ما أروع كلامَ الأستاذ عبدالمجيد البصير! إذ يقول: "ثُمَّ إنَّ الاستِنادَ إلى مفاهيم الإسْلام في التَّنمية يَجعل منها تنميةً ربَّانيَّة، يتحصَّل بِها نَماءُ العمران على المُسْتوى الكمِّي، وطهارتُه على المستوى الكيفي، فيتحقَّق المقصِد العامُّ من التَّكليف، وهو التَّزكية النفسيَّة الاجتماعية للأفراد والجماعات والمؤسَّسات، فيغمر المجتمعَ نماءٌ نفساني بالإيمان، وزيادةٌ في الخيرات بالعمل الصالح.
إنَّ التنمية البشرية بشكْلِها المجسَّد في الواقع، وهي تتَّجه إلى ما يُحيط بالإنسان إلى حدٍّ ما، مع إهْمال ما يرفع من مستوى آدميَّته ذات الصِّبغة التربوية المبنيَّة على العلم بالله، تُعيق التنمية الربَّانيَّة المنشودة، التي يَختزلها مفهوم التزكية القرآني، وهو مفهومٌ أصيل في منظَّمتِنا الإسلاميَّة، مُحيلٌ على البعد الأخلاقي في مشروعِها التنموي، الذي هو ديدنُ الحركات الإصلاحيَّة الرَّاشدة، ذلك في كنف الحِفاظ على الهوية الإسلاميَّة".
جميلٌ ما قام به الغَرْبُ في مَجال العُمران، لا يُنْكِر ذلك إلا جاحد، لكن - أخي القارئ الكريم - إنَّ كلَّ ذلك، في غياب البعد الإيماني الأخلاقي، والخوف من الله - سبحانه - المتصرِّف في هذا الكون - يظلُّ استدراجًا؛ فقد قال - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((إذا رأيتَ اللهَ - تعالى - يعطي العبدَ من الدنيا ما يُحِبُّ، وهو مقيم على معاصيه، فإنَّما ذلك منه استِدراج))، ثُمَّ تلا قولَه تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]؛ رواه أحمدُ بإسنادٍ حسن.
وفي القصَّة السَّابقة العاقبةُ الحميدة لِمَنْ نال هذه الصِّفات؛ فالرَّاعي - الذي سمِعْنا عنه في هذه القصَّة - كان عاملاً يأكُل من تعَبِ يدِه برعْي الغنم، وكان - مع ذلك - عابدًا يصومُ في النَّهار، حتَّى في الأيَّام الحارَّة، وكان أمينًا في عملِه؛ يُراقِبُ الله - عزَّ وجلَّ - في نفْسِه، وأنَّ الله مطَّلع عليه، فصلته بالله قويَّة؛ ولذلك رفض المكسَبَ الحرام، مع أنَّه قادرٌ عليْه ومتمكِّن منه، ولَم يستغلَّ عملَه وأمانتَه، ولم يسرِقْ منها، فأعقبه الله الحسنى؛ فعندما رأى عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - تلك الصفات أعتقَه واشترى له الغنم ووهبهَا له؛ فمِن عبدٍ يرْعَى غنَمَ صاحبِه إلى حُرٍّ يَملِك حلالاً كثيرًا!!
وإنَّها سنَّة تَحقيق مفهوم (لا إله إلا الله) في حياة الناس، إنَّها سنَّة عظميةٌ، يَجب تربية الأبناء والأجيال القادمة عليها، إنَّها سنَّة جليلة لو استحضرها الكبار، وترسَّخت عبر الأجيال، إنَّها تنمية مستديمة بمعناها الحقيقي، إنَّها لبُّ الوجود الإنساني الفِعْلي حقًّا وحقيقة، إنَّها ثمرة العبديَّة الخالصة لله تعالى.
"من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منْه":
قاعدةٌ - والله - عظيمة وجليلة لِمن فهِمَها وطبَّقها، والعِوَض من الله أنواعٌ مختلفة، وأجلُّ ما يعوّض به: الأنس بالله، ومحبَّته، وطمأنينة القَلْب بذِكْره، وقوَّته، ونشاطه، ورضاه عن ربِّه - تبارك وتعالى - مع ما يلقاه من جزاءٍ في هذه الدنيا - يغدق عليه الخيرات، ... - ومع ما ينتظِره من الجزاء الأوفى في العُقْبى.
فحريٌّ بالعاقل الحازم، أن يتبصَّر في الأمور، وينظُر في العواقب، وألا يؤْثِرَ اللَّذَّة الحاضرة الفانية، التي أنعم الله بِها على أهْلِ الباطل من الغرب الحاقد على ديننا وعقيدتنا، على اللَّذَّة الآجلة الدَّائمة الباقية، البدارَ البدارَ.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجْمعين.
الخوف من الله: تنمية للبلاد والعباد
إنَّ المديرَ في إدارته، والمهندِسَ في مكتبِه، والمبَرْمِج في برمَجته، والمدرِّس في مدرسته، والعامِلَ في معملِه، والشرطيَّ في مخفرِه، والقاضيَ في محكَمَتِه، والصحفيَّ في جريدته، والكاتبَ في كتاباته، عمومًا: كلّ مسؤولٍ من موقِع مهمَّته؛ كما قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، فالأميرُ الذي على النَّاس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجُل راعٍ على أهل بيْتِه، وهو مسؤول عنْهم، والمرأةُ راعية على بيْتِ بعْلِها وولَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده، وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته))؛ صحيح مسلم.
كلٌّ في عملِه، لوِ استحضروا مُراقبةَ الله وعظَمَتَه وجلالَه، وقُدرتَه - سبحانه - على أن يقتصَّ من عبْدِه الضَّعيف، من جرَّاء عملٍ يُؤْذي ويهدِّد أمْنَ بلدِه الاقتِصاديّ والاجتِماعي والسياسي، لتحقَّقتْ رفاهية البُلدان، وانتشر العدْل، وسادَ تكافُؤُ الفُرَص، وقلَّت البطالة التي تنهش في فلذات أكْباد أبناء هذه الأُمَّة.
يُخطئ - وربِّ الكعبة - مَن يظنُّ أنَّ القوانين وحدَها هي الزَّاجِرة والرَّادِعة لكلِّ المُخالفات، هل تَمكَّنتْ من قطْعِ الطَّريق على الرَّاشي والمُرْتشي؟! هل منعتِ الزَّانيَ من الزِّنا؟! هلْ منعتِ الفَساد الإداري (البيروقراطيَّة)؟! هل حدَّت من حوادث السَّير؟! هل منَعَتِ الغِشَّ في الأسواق والمؤسَّسات؟! هل قلَّصتْ من عدد الجرائم؟!
أخي القارئ الكريم، هذه القصص الواقعيَّة عن السَّلف - رضْوان الله عليهم - عِظاتٌ وعِبر لِمنْ له قلبٌ أو ألقى السَّمْع وهو شهيد.
* القصَّة الأولى من عهْد الخليفةِ عُمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه -:
لمَّا نهى عمر - رضي الله عنه - في خلافته عن خلْطِ اللَّبن بالماء، وخرج ذات ليلةٍ في حواشي المدينة، وأسند ظهْرَهُ إلى جدارٍ ليرْتاح، فإذا بامرأةٍ تقول لابنتها: ألا تَمْذُقين اللَّبنَ بالماء؟ فقالت الجارية: كيف أمذُقُ وقد نَهى أميرُ المؤمنين عن المذق؟! فقالت الأم: فما يُدْرِي أميرَ المؤمنين؟ فقالت الجارية: إن كان عُمر لا يعلمُه فإلهُ عمر يعلَم، ما كنت لأفعله وقد نَهى عنه.
فوقعتْ مقالتُها من عمر - رضي الله عنه- فلمَّا أصبح دعا عاصمًا ابنَه فوصفها له ومكانَها، وقال: اذهب يا بنَيَّ فتزوَّجْها، فتزوَّجها عاصمُ بن عُمر، فولدتْ له بنتًا فتزوَّجَها عبدالعزيز بن مَرْوان بن الحَكَم، فأتتْ بِعُمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه.
إنَّها ذرِّيَّة بعضُها من بعضٍ، ذرِّيَّة خيْرٍ لأمَّتِه وعقيدتِه، وإنَّها ثَمرةُ التَّمكين لهذا الدين في الأرض، ودفعة قويَّة لتوحيد شَمْلِ الأُمَّة الإسلاميَّة على تسخير ما وهبها الله من خوف وإخلاص لله - تعالى - في خِدْمة دينِها أوَّلاً، وفي السياقِ نفسِه توفيرُ إنتاجٍ غذائي يحدُّ من الأمراض القلبيَّة والجسديَّة، ومَن يُساعد على تقوية الإنتاج المحلِّي وتطويره.
انظروا معي - إخواني وأحبَّائي - إلى هذا الزَّمان الَّذي كثُر فيه التَّدليس والغِشُّ في الأَسواق، وَما يتْبَع ذلك من مُضارباتٍ اقتصاديَّة تُهدِّد الاقتِصادَ المحلِّي لبلدان العالم الإسلامي؛ وبالتَّالي تَجعلُه لقمةً سائغة لشرِكات النَّهْب العالميَّة.
* القصَّة الثانية مع عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -:
ذكر ابنُ الجوْزي - رحِمه الله - في "صفة الصفوة" قصَّة عجيبةً - واللهِ - تنمُّ عن عُمْق الخوْفِ من الله - سبحانه وتعالى - والأَوْلى - أخي الحبيب - أن تُكْتَب بماء العيون بدَلَ ماءِ الذَّهَب.
تأمَّلْ معي - أخي القَارئ الكريم - هذا الحوارَ، وأعِرْ فؤادَك وقلبَك وخَشْيَتك للحيِّ القيُّوم.
قال نافع: خرجت مع ابْنِ عُمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سُفرةً، فمرَّ بِهم راعٍ، فقال له عبدالله: هلمَّ يا راعي، فأصِبْ من هذه السُّفرة.
فقال: إنِّي صائم.
فقال له عبدالله: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديد حرُّه، وأنت في هذه الشِّعاب في آثارِ هذِه الغنَم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائم!
فقال الراعي: أُبادر أيَّامي الخالية، فعجِب ابنُ عمر.
وقال: هل لك أن تبيعَنا شاةً من غنمِك نجتَزِرُها، ونُطْعِمك من لَحمها ما تفطِرُ عليه، ونعطيك ثَمنَها؟
قال: إنَّها ليستْ لي، إنَّها لمولاي.
قال: فما عسيْتَ أن يقول لكَ مولاك إن قُلْتَ: أكلها الذئب؟
فمضى الرَّاعي وهو رافعٌ إصبعَه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟
قال: فلمْ يزل ابنُ عُمر يقول: قال الراعي: فأين الله.
فما عدا أن قدِم المدينةَ، فبعث إلى سيِّده فاشترى منه الرَّاعي والغنم، فأعتق الرَّاعيَ، ووهبَ له الغَنم - رحِمه الله. (صفة الصفوة:2 / 188).
وهنا درسٌ عظيمُ الأثَر لِمَنْ كان له قلبٌ أو ألقى السَّمع وهُو شهيد، وهو تنمِية الصِّلة بالله وخشْيَته في الغَيْبِ والشَّهادة، وغرْس رُوح المراقبة في النُّفوس، ولله دَرُّ الشَّاعر الذي قال:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً وَلا أَنَّ مَا تُخْفِي عَلَيْهِ يَغِيبُ
كثيرةٌ هي التَّقارير الدَّولية، التي تُرْفَع كلَّ شهْرٍ وكلَّ سنة؛ لقياس مدى تخلُّف وتقدُّم البلْدان والسَّعْي لتنمِيَتها؛ ففي بداية الخمسينيَّات تَمَّ اعتِماد مِعْيار الدَّخْل الفَرْدِي، وفي السبعينيَّات تبنَّت منظَّمة الأُمَم المتَّحدة مِعْيَار إشْباع الحاجيات الأساسيَّة، إلى أن اكتشف المفكِّر الاقتِصادي الهندي "أمارتيا إسين" ما يسمَّى بِمؤشِّر التنمية البشريَّة، الذي يمزج بين ثلاثةِ مستويات أساسيَّة: مستوى المعرفة (الذي يمثل نسبة الأمَّة، نسبة التمدرس)، ومستوى الدَّخْل (الذي يمثل معدَّل النَّاتج الداخلي لبلدٍ معين)، ومستوى الصِّحَّة (الذي يمثِّل معدل أمدَ الحياة لمجتمع معين)، لكن أين التنمية الربانيَّة؟! لمَ الجري وراء السراب؟!
وحتَّى نكونَ على بيِّنة من الأمر؛ فحكومات الدُّول الصناعيَّة ليستْ على استِعْدادٍ لقبول توزيعٍ حقيقي للقوَّة الاقتصاديَّة على النِّطاق الدولي، ويتأكَّد الاتِّجاه السلبي للدُّول الصناعيَّة من موقفِها في التَّصويت على اعتِبار الحقِّ في التَّنمية حقًّا إنسانيًّا في لجنة حقوق الإنسان، والجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة؛ حيثُ درجتِ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة على التَّصويت بالرَّفض، بيْنَما اكتفتِ الدُّول الأوربيَّة بالامتناع عن التَّصويت!
ما أروع كلامَ الأستاذ عبدالمجيد البصير! إذ يقول: "ثُمَّ إنَّ الاستِنادَ إلى مفاهيم الإسْلام في التَّنمية يَجعل منها تنميةً ربَّانيَّة، يتحصَّل بِها نَماءُ العمران على المُسْتوى الكمِّي، وطهارتُه على المستوى الكيفي، فيتحقَّق المقصِد العامُّ من التَّكليف، وهو التَّزكية النفسيَّة الاجتماعية للأفراد والجماعات والمؤسَّسات، فيغمر المجتمعَ نماءٌ نفساني بالإيمان، وزيادةٌ في الخيرات بالعمل الصالح.
إنَّ التنمية البشرية بشكْلِها المجسَّد في الواقع، وهي تتَّجه إلى ما يُحيط بالإنسان إلى حدٍّ ما، مع إهْمال ما يرفع من مستوى آدميَّته ذات الصِّبغة التربوية المبنيَّة على العلم بالله، تُعيق التنمية الربَّانيَّة المنشودة، التي يَختزلها مفهوم التزكية القرآني، وهو مفهومٌ أصيل في منظَّمتِنا الإسلاميَّة، مُحيلٌ على البعد الأخلاقي في مشروعِها التنموي، الذي هو ديدنُ الحركات الإصلاحيَّة الرَّاشدة، ذلك في كنف الحِفاظ على الهوية الإسلاميَّة".
جميلٌ ما قام به الغَرْبُ في مَجال العُمران، لا يُنْكِر ذلك إلا جاحد، لكن - أخي القارئ الكريم - إنَّ كلَّ ذلك، في غياب البعد الإيماني الأخلاقي، والخوف من الله - سبحانه - المتصرِّف في هذا الكون - يظلُّ استدراجًا؛ فقد قال - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((إذا رأيتَ اللهَ - تعالى - يعطي العبدَ من الدنيا ما يُحِبُّ، وهو مقيم على معاصيه، فإنَّما ذلك منه استِدراج))، ثُمَّ تلا قولَه تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]؛ رواه أحمدُ بإسنادٍ حسن.
وفي القصَّة السَّابقة العاقبةُ الحميدة لِمَنْ نال هذه الصِّفات؛ فالرَّاعي - الذي سمِعْنا عنه في هذه القصَّة - كان عاملاً يأكُل من تعَبِ يدِه برعْي الغنم، وكان - مع ذلك - عابدًا يصومُ في النَّهار، حتَّى في الأيَّام الحارَّة، وكان أمينًا في عملِه؛ يُراقِبُ الله - عزَّ وجلَّ - في نفْسِه، وأنَّ الله مطَّلع عليه، فصلته بالله قويَّة؛ ولذلك رفض المكسَبَ الحرام، مع أنَّه قادرٌ عليْه ومتمكِّن منه، ولَم يستغلَّ عملَه وأمانتَه، ولم يسرِقْ منها، فأعقبه الله الحسنى؛ فعندما رأى عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - تلك الصفات أعتقَه واشترى له الغنم ووهبهَا له؛ فمِن عبدٍ يرْعَى غنَمَ صاحبِه إلى حُرٍّ يَملِك حلالاً كثيرًا!!
وإنَّها سنَّة تَحقيق مفهوم (لا إله إلا الله) في حياة الناس، إنَّها سنَّة عظميةٌ، يَجب تربية الأبناء والأجيال القادمة عليها، إنَّها سنَّة جليلة لو استحضرها الكبار، وترسَّخت عبر الأجيال، إنَّها تنمية مستديمة بمعناها الحقيقي، إنَّها لبُّ الوجود الإنساني الفِعْلي حقًّا وحقيقة، إنَّها ثمرة العبديَّة الخالصة لله تعالى.
"من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منْه":
قاعدةٌ - والله - عظيمة وجليلة لِمن فهِمَها وطبَّقها، والعِوَض من الله أنواعٌ مختلفة، وأجلُّ ما يعوّض به: الأنس بالله، ومحبَّته، وطمأنينة القَلْب بذِكْره، وقوَّته، ونشاطه، ورضاه عن ربِّه - تبارك وتعالى - مع ما يلقاه من جزاءٍ في هذه الدنيا - يغدق عليه الخيرات، ... - ومع ما ينتظِره من الجزاء الأوفى في العُقْبى.
فحريٌّ بالعاقل الحازم، أن يتبصَّر في الأمور، وينظُر في العواقب، وألا يؤْثِرَ اللَّذَّة الحاضرة الفانية، التي أنعم الله بِها على أهْلِ الباطل من الغرب الحاقد على ديننا وعقيدتنا، على اللَّذَّة الآجلة الدَّائمة الباقية، البدارَ البدارَ.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجْمعين.