خبرُ الواحد يُعمل به، وإن خالف القياس:
بسم الله الرحمان الرحيم:
فصل:
خبر الواحد مقدمٌ على القياس.
ومعنى هذا: أنه يعمل به، وإن خالف القياس.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وقال أصحاب مالك: يقدم القياس عليه.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا كان مخالفاً لقياس الأصول، لم يقبل.
فصل في أدلتنا من جهة السنن:
ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعث به إلى اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتابِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنَةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهدُ رأيي، ولا آلو، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله"، فَرتَّبَ العملَ بالقياس على السُّنَةِ، فدل على تقديمِها على القياسِ، والسنةُ تعمُ الآحادَ وَالتواترَ.
ورويَ أنَّ عمر بن الخطاب ترك القياس في الجنين؛ لحديثِ حَمَلِ ابن مالك بن النابغة، وقال: لولا هذا لقضينا بغيره.
ورويَ أنه كان تقْسِمُ ديةَ الأصابعِ على قدرِ منافعها، وترَكَ ذلك لخبرِ الواحد الذي رُوِيَ له عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"في كلِّ إصبعٍ مما هنالك عشرٌ من الإبلِ"، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة.
وأيضاً من جهةِ المعنى والاستنباطِ: أنَّ القياسَ يدلُ على قصدِ صاحبِ الشرعِ من طريقِ الظن، والخبرُ يدلُّ على قصدِه من طريقِ الصريح، فكان الرجوعُ إلى الصريح أولى؛ يوضِّحُ هذا: أنَّه حثَّ على تبليغِ الأحكامِ مع علمِه بأنَّ الآراءَ كثيرةٌ، وأتى بالتحكماتِ الخارجةِ عن الرأي، ولم يأتِ بقولٍ مخالفٍ لقولٍ سبقَ له، إلا أن يكون ناسخاً ورافعاً.
ومنها: أنَّ الاجتهادَ في الخبر يقل خطرُه؛ لأنَّه لا يحتاج إلا إلى الاجتهادِ في عدالةِ الراوي فقط، وفي القياسِ يحتاجُ إلى الاجتهادِ في عِلَّةِ الأصلِ، ثمَّ في إلحاقِ الفرع به، ومن الناس من يمنعُ إلحاقَ الفرع بالأصلِ إلا بدليلٍ آخر، فكان المصيرُ إلى مَا قلَّ فيه الخطرُ، وقلَّ الاجتهادُ فيه والنظرُ، أَوْلى، لأنَّه أسلم من الغرر.
ومنها: أنه لو سُمعَ القياسُ والنصُّ المخالفُ له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقدِّمَ النَصُّ فيما تناولَه على القياس، فلأنْ يُقدَّمَ على قياس لم يُسمع من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى.
ومنها: أنَّ حكمَ الحاكمِ يُنقضُ إذا خالفَ النصَ، ولا ينقض إذا خالف القياسَ، وهذا دليل على أَنّه أقوى، فلا يجوزُ أن نتركَ الأقوى للأضعفِ.
ومنها: أنَّ الخبرَ قد ينتهي إلى العلمِ إذا كثرَ راوتُه، والقياسُ لا ينتهي إلى العلمِ، ولا يتجاوزُ الظنَّ، وإن كثرت من الأصولِ شواهدُه، وهذا أيضاً يدلُّ على قوةِ الخبرِ، وضعفِ القياس.
فصل في شبهاتهم:
فمنها: أن قالوا: إنَّ خبرَ الواحدِ يدخلُ عليه الفسادُ، والمنعُ من العملٍ به؛ من وجوه أربعة: أحدها: أن يكون فيِ خبرِه كاذباَّ، وأن يكون فاسقاً، لا كاذباً، وأن يكونَ خطأً، أو يكون في اعتقاده كافراً، وغايةُ ما يدخلُ على القائسِ: أن يكونَ في اجتهادهِ مخطئاً، وما قلَّت وجوهُ الفساد فيه، وكثرت وجوهُ الإصابةِ، وحصولِ السلامةِ، كان هو المرجحَ على ما كثرت وجوهُ الخطأ والفساد فيه وعليه.
فيقال: جميعُ ما ذكرتَ يَتسلَّطُ على القياس المستنبط؛ لأنَّ الخبرَ أصلُ القياس، وإذا كانَ أصلُه تتسلطُ عليه هذه الوجوهُ من الفساد، ويزيدُ عليهَ الخطأُ في الاجتهاد، لم يبق للقياس ميزة على الخبر؛ إذ كان فرعاً له.
ولأنَّ الترجيحَ إنَّما يحصلُ بوجوهِ الإثباتِ؛ ككثرةِ الأشباه بالأصول على ما هو أقلُّ شبهاً بها، وكذلك الخبرُ بكثرةِ الرواةِ على ما قل رواتُه، ولا يُرَجَّحُ خبرُ المغفلِ على خبرِ الفاسقِ، ولا ما وُجدَ فيه سببٌ من أسباب الفساد على ما وجدَ فيه سببانِ من أسباب الفسَاد.
ولأنه كان يجبُ أن يكونَ خبرُ الواحدِ أَوْلى من القياس، لاجتماعِ أربعةِ الأَوْجهِ من الفساد، والخامسِ؛ وهو الخطأ المُتطرِّقُ على الاجتهاد.
ومنها: أن قالوا: إن الخبرَ طريقُه اللفظُ المتطرق عليه المجازُ والإجمالُ والاحتمالُ، ولا يتطرقُ على المعنى المستنبط شيءٌ من ذلك.
فيقال: هذا موجودٌ في آي الكتابِ، والسُّنَةِ المتواترة، ولا يوجبُ ذلك تقديمَ القياسِ عليهما.
ولأنَّ الخبرَ يستندُ إلى قولِ المعصومِ، والاجتهادَ يستندُ إلى رأي غير المعصوم، ولأنَّه يستندُ إلى الخبر وهذه حالُه، فإِن ضَعُفَ الخبرُ لِمَا ذكرتَ من تَطرُّقِ هذه الوجوه، كانَ المستندُ إليه -وهو القياسُ- أضعفَ.
ومنها: أن قالوا: إنَّ الإجماعَ قد يقع على موجبِ القياس، وخبرُ الواحد لا يتأتى أن يجمعوا على موجبه، بل يخرج ذَلك إلى المتواتر، ولا يخرجُ الإجماعُ على موجبِ القياسِ عن كونه قياساً.
فيقال: إنَّ الإجماعَ إنَّما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه القياسُ، كما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه خبرُ الواحدِ، وأمَّا الإجماعُ على القياس، فلا يحصلُ، فإن حصَلَ، كان قياسَ الإجماعِ، كما يصير الخبرُ المجمعُ عليه أنَّه مرويّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصيرُ قياساً معصوماً، وهذا خبرَ تواترٍ قطعاً.
ومنها: أنَّ القياسَ يحصلُ من جهةِ رأيه واجتهاده، والإنسانُ لا يُكذِّبُ نفسَه، والخبرَ من جهة غيرِه، ولا ثقةَ إلى قولِ الغيرِ توازي ثقتَه بنفسِه، ونفسُه بمثابةِ ما سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ ما يسمعُه عنه غيرُه.
فيقال: باطلٌ بخبرِ التواترِ المخالفِ للرأي، وقياسِ الأصول.
ولأنَّه وإن كان بفعلِه واجتهادِه، إلا أن طريقَه غامضٌ، فقد يصدرُ عن رأيهِ ما يخالفُ الأولَ، فيبطلُ الأولُ، ولا يعملُ في حادثةٍ أخرى، والروايةُ تقضي للمُتأخِّرِ على المتقدِّمِ.
فصل:
وأمَّا ما يختصُّ أصحابَ أبي حنيفةَ، فيقال لهم: ما الذي تريدونَ بمخالفة الأصول؟
فإن قالوا: معنى الأصولِ، فهو كقولِ أصحاب مالك، وقد بيّنا فسادَه.
وأيضأ: فإنَّهم ناقضوا في هذا، فإنَّهم لا يزالون يتركونَ القياسَ بخبرِ الواحدِ، ويسمونَه موضع الاستحسان، فمن ذلك: قولُهم: من أكلَ ناسياً، بطلَ صومُه، إلا أنا تركناه لخبر أبي هريرة. وقالوا: القياسُ أنَّه لا يجوزُ التوضؤ بنبيذِ التمر، ولكن تركناه لخبرِ عبد الله ابن مسعود، وأمثالُ ذلك على أصلهم كثيرٌ.
وإن أرادوا بالأصول: الكتابَ والسنةَ والإجماعَ، فكذلكَ نقول، إلا أنَّهم يقولون ذلك في مواضع لا كتابَ فيها ولا سُنَّةَ ولا إجماعَ، وهي في خبرِ المُصرَّاةِ والتفليسِ والقرعةِ، فلا وجهَ لما قالوه.
وأيضاً: فإن خبرَ الواحدَ أصلٌ بنفسِه، وأصلٌ لغيره -وهي المعاني المستنبطة-، فلو جازَ أن يتركَ لأجلِ الأصلِ، لجازَ أن تتركَ الأصولُ له.
عن كتاب (الواضح في اصول الفقه، لابن عقيل الحنبلي).
بسم الله الرحمان الرحيم:
فصل:
خبر الواحد مقدمٌ على القياس.
ومعنى هذا: أنه يعمل به، وإن خالف القياس.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وقال أصحاب مالك: يقدم القياس عليه.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا كان مخالفاً لقياس الأصول، لم يقبل.
فصل في أدلتنا من جهة السنن:
ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعث به إلى اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتابِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنَةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهدُ رأيي، ولا آلو، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله"، فَرتَّبَ العملَ بالقياس على السُّنَةِ، فدل على تقديمِها على القياسِ، والسنةُ تعمُ الآحادَ وَالتواترَ.
ورويَ أنَّ عمر بن الخطاب ترك القياس في الجنين؛ لحديثِ حَمَلِ ابن مالك بن النابغة، وقال: لولا هذا لقضينا بغيره.
ورويَ أنه كان تقْسِمُ ديةَ الأصابعِ على قدرِ منافعها، وترَكَ ذلك لخبرِ الواحد الذي رُوِيَ له عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"في كلِّ إصبعٍ مما هنالك عشرٌ من الإبلِ"، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة.
وأيضاً من جهةِ المعنى والاستنباطِ: أنَّ القياسَ يدلُ على قصدِ صاحبِ الشرعِ من طريقِ الظن، والخبرُ يدلُّ على قصدِه من طريقِ الصريح، فكان الرجوعُ إلى الصريح أولى؛ يوضِّحُ هذا: أنَّه حثَّ على تبليغِ الأحكامِ مع علمِه بأنَّ الآراءَ كثيرةٌ، وأتى بالتحكماتِ الخارجةِ عن الرأي، ولم يأتِ بقولٍ مخالفٍ لقولٍ سبقَ له، إلا أن يكون ناسخاً ورافعاً.
ومنها: أنَّ الاجتهادَ في الخبر يقل خطرُه؛ لأنَّه لا يحتاج إلا إلى الاجتهادِ في عدالةِ الراوي فقط، وفي القياسِ يحتاجُ إلى الاجتهادِ في عِلَّةِ الأصلِ، ثمَّ في إلحاقِ الفرع به، ومن الناس من يمنعُ إلحاقَ الفرع بالأصلِ إلا بدليلٍ آخر، فكان المصيرُ إلى مَا قلَّ فيه الخطرُ، وقلَّ الاجتهادُ فيه والنظرُ، أَوْلى، لأنَّه أسلم من الغرر.
ومنها: أنه لو سُمعَ القياسُ والنصُّ المخالفُ له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقدِّمَ النَصُّ فيما تناولَه على القياس، فلأنْ يُقدَّمَ على قياس لم يُسمع من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى.
ومنها: أنَّ حكمَ الحاكمِ يُنقضُ إذا خالفَ النصَ، ولا ينقض إذا خالف القياسَ، وهذا دليل على أَنّه أقوى، فلا يجوزُ أن نتركَ الأقوى للأضعفِ.
ومنها: أنَّ الخبرَ قد ينتهي إلى العلمِ إذا كثرَ راوتُه، والقياسُ لا ينتهي إلى العلمِ، ولا يتجاوزُ الظنَّ، وإن كثرت من الأصولِ شواهدُه، وهذا أيضاً يدلُّ على قوةِ الخبرِ، وضعفِ القياس.
فصل في شبهاتهم:
فمنها: أن قالوا: إنَّ خبرَ الواحدِ يدخلُ عليه الفسادُ، والمنعُ من العملٍ به؛ من وجوه أربعة: أحدها: أن يكون فيِ خبرِه كاذباَّ، وأن يكون فاسقاً، لا كاذباً، وأن يكونَ خطأً، أو يكون في اعتقاده كافراً، وغايةُ ما يدخلُ على القائسِ: أن يكونَ في اجتهادهِ مخطئاً، وما قلَّت وجوهُ الفساد فيه، وكثرت وجوهُ الإصابةِ، وحصولِ السلامةِ، كان هو المرجحَ على ما كثرت وجوهُ الخطأ والفساد فيه وعليه.
فيقال: جميعُ ما ذكرتَ يَتسلَّطُ على القياس المستنبط؛ لأنَّ الخبرَ أصلُ القياس، وإذا كانَ أصلُه تتسلطُ عليه هذه الوجوهُ من الفساد، ويزيدُ عليهَ الخطأُ في الاجتهاد، لم يبق للقياس ميزة على الخبر؛ إذ كان فرعاً له.
ولأنَّ الترجيحَ إنَّما يحصلُ بوجوهِ الإثباتِ؛ ككثرةِ الأشباه بالأصول على ما هو أقلُّ شبهاً بها، وكذلك الخبرُ بكثرةِ الرواةِ على ما قل رواتُه، ولا يُرَجَّحُ خبرُ المغفلِ على خبرِ الفاسقِ، ولا ما وُجدَ فيه سببٌ من أسباب الفساد على ما وجدَ فيه سببانِ من أسباب الفسَاد.
ولأنه كان يجبُ أن يكونَ خبرُ الواحدِ أَوْلى من القياس، لاجتماعِ أربعةِ الأَوْجهِ من الفساد، والخامسِ؛ وهو الخطأ المُتطرِّقُ على الاجتهاد.
ومنها: أن قالوا: إن الخبرَ طريقُه اللفظُ المتطرق عليه المجازُ والإجمالُ والاحتمالُ، ولا يتطرقُ على المعنى المستنبط شيءٌ من ذلك.
فيقال: هذا موجودٌ في آي الكتابِ، والسُّنَةِ المتواترة، ولا يوجبُ ذلك تقديمَ القياسِ عليهما.
ولأنَّ الخبرَ يستندُ إلى قولِ المعصومِ، والاجتهادَ يستندُ إلى رأي غير المعصوم، ولأنَّه يستندُ إلى الخبر وهذه حالُه، فإِن ضَعُفَ الخبرُ لِمَا ذكرتَ من تَطرُّقِ هذه الوجوه، كانَ المستندُ إليه -وهو القياسُ- أضعفَ.
ومنها: أن قالوا: إنَّ الإجماعَ قد يقع على موجبِ القياس، وخبرُ الواحد لا يتأتى أن يجمعوا على موجبه، بل يخرج ذَلك إلى المتواتر، ولا يخرجُ الإجماعُ على موجبِ القياسِ عن كونه قياساً.
فيقال: إنَّ الإجماعَ إنَّما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه القياسُ، كما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه خبرُ الواحدِ، وأمَّا الإجماعُ على القياس، فلا يحصلُ، فإن حصَلَ، كان قياسَ الإجماعِ، كما يصير الخبرُ المجمعُ عليه أنَّه مرويّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصيرُ قياساً معصوماً، وهذا خبرَ تواترٍ قطعاً.
ومنها: أنَّ القياسَ يحصلُ من جهةِ رأيه واجتهاده، والإنسانُ لا يُكذِّبُ نفسَه، والخبرَ من جهة غيرِه، ولا ثقةَ إلى قولِ الغيرِ توازي ثقتَه بنفسِه، ونفسُه بمثابةِ ما سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ ما يسمعُه عنه غيرُه.
فيقال: باطلٌ بخبرِ التواترِ المخالفِ للرأي، وقياسِ الأصول.
ولأنَّه وإن كان بفعلِه واجتهادِه، إلا أن طريقَه غامضٌ، فقد يصدرُ عن رأيهِ ما يخالفُ الأولَ، فيبطلُ الأولُ، ولا يعملُ في حادثةٍ أخرى، والروايةُ تقضي للمُتأخِّرِ على المتقدِّمِ.
فصل:
وأمَّا ما يختصُّ أصحابَ أبي حنيفةَ، فيقال لهم: ما الذي تريدونَ بمخالفة الأصول؟
فإن قالوا: معنى الأصولِ، فهو كقولِ أصحاب مالك، وقد بيّنا فسادَه.
وأيضأ: فإنَّهم ناقضوا في هذا، فإنَّهم لا يزالون يتركونَ القياسَ بخبرِ الواحدِ، ويسمونَه موضع الاستحسان، فمن ذلك: قولُهم: من أكلَ ناسياً، بطلَ صومُه، إلا أنا تركناه لخبر أبي هريرة. وقالوا: القياسُ أنَّه لا يجوزُ التوضؤ بنبيذِ التمر، ولكن تركناه لخبرِ عبد الله ابن مسعود، وأمثالُ ذلك على أصلهم كثيرٌ.
وإن أرادوا بالأصول: الكتابَ والسنةَ والإجماعَ، فكذلكَ نقول، إلا أنَّهم يقولون ذلك في مواضع لا كتابَ فيها ولا سُنَّةَ ولا إجماعَ، وهي في خبرِ المُصرَّاةِ والتفليسِ والقرعةِ، فلا وجهَ لما قالوه.
وأيضاً: فإن خبرَ الواحدَ أصلٌ بنفسِه، وأصلٌ لغيره -وهي المعاني المستنبطة-، فلو جازَ أن يتركَ لأجلِ الأصلِ، لجازَ أن تتركَ الأصولُ له.
عن كتاب (الواضح في اصول الفقه، لابن عقيل الحنبلي).