الذي يريدالمغفره ماذا يعمل من أجل أن يأخذ المغفرة في شهر رمضان؟، ينظر إلى أبواب المغفرة التي فتحها الله لعباد الله، والتي بيَّنها ووضَّحها سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيأخذ بها جميعاً، ولا يترك باباً واحداً منها، عسى أن ينظر الله عزَّ وجلَّ إليه
وهو على هذا العمل فيمن عليه بمغفرته سبحانه وتعالى، فعليه أن يصوم إيماناً واحتساباً وكلمة إيماناً يعني عن اقتناع.
يعرف حكمة الصيام، ويتعلم الأسباب التي من أجلها فرض الله علينا الصيام سواء كانت أسباباً طبية، أو أسباباً نفسية، أو أسباباً اجتماعية، أو أسباباً شرعية، وإن لم يستطع أن يحصلها بنفسه يسأل فيها العلماء، حتى يصوم عن اقتناع تام
لأن الصيام فيه مصلحة عاجلة له في الدنيا في جسمه، وفيه منفعة أكيدة له في الدنيا في نفسه، وفيه أجر كبير في العقبى عند ربه عزَّ وجلَّ، فيصوم كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم في شأن هؤلاء:
{ لَوْ يَعْلَمُ العِبَادُ مَا فِي رَمضانَ لتمنَّتْ أُمَّتِي أَنْ تَكونَ السَّنَةُ كُلُّها رمضانَ }(1)
فالذي يعلم هذا الخير، والذي يعلم هذا البر، يتمنى أن يكون هذا الشهر طوال العام، لا يتبرم منه ولا يشكو منه، ولا يصدر منه في يوم من أيام الصيام كلمات
مثلما يقوله بعض العوام: لماذا طال اليوم هكذا؟ لماذا تأخر المغرب اليوم؟ لماذا طال هذا الشهر؟ كل هذه الكلمات عقوبات وحسرات على من يقولها، يا إخواني جماعة المؤمنين، لأن المؤمن علم الحكمة التي من أجلها فرض الله عزَّ وجلَّ علينا الصوم.
فهو سبحانه وتعالى غنيٌّ عن تعذيب خلقه بالجوع، وخيره سبحانه وتعالى ملأ أرضه وملأ سمواته، وليس في حاجة إلى صيام خلقه ليوفر النفقات أو يدخر الأقوات والأرزاق
وإنما لمنافع عاجلة ومنافع آجلة فالمسلم لابد أن يتعلمها حتى يصوم وهو راض عن أمر الله، وهو راض عن شرع الله، فيكون من الذين يقول فيهم الله:
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (8البينة).
فإذا صام عن إيمان جعل صيامه احتساباً يعنى: طلباً لما عند الله، لا خوفاً من الخلق، ولا إعجاباً من النفس، ولا طلباً للشهرة ولا للسمعة، وإنما الصيام عمل يدرِّب المرء على الإخلاص في المعاملة للملك العلام عزَّ وجلَّ،
فالصوم سرٌّ بين العبد وربِّه، لا يطلع عليه إلا الله، ولذلك لا يعطي الأجر والثواب عليه إلا الله عزَّ وجلَّ، فعندما ترتفع الملائكة الكرام بعمل الصائمين إلى الملك العلام، فقد أعطاهم عزَّ وجلَّ وهم الكرام الكاتبون قائمة بأسعار الحسابات الإلهية
والأخبار الربانية لعبادات المسلمين في كل وقت وحين، فينظرون إلى الصيام فلا يجدون فيما معهم من صحف أجره ولا ثوابه ولا فضله، فيرفعون الأمر لله عزَّ وجلَّ فيقول الله سبحانه وتعالى:
{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ اللّهُ عزَّ وجلَّ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ}(2)
فهو عزَّ وجلَّ الذي يحدد الأجر ويحدد الثواب ويحدد المكافأة على حسب نيَّة المرء عند صومه لله عزَّ وجلَّ.فمن نوى بعمله المغفرة، أعطاه الله المغفرة،
ومن نوى بعمله العتق من النيران، أدرجه الله عزَّ وجلَّ في كشوف العتق من النيران التي تنزل كل ليلة من ساحة الرضوان إلى ملائكة الرحمن، مكتوب تحتها: هؤلاء عتقاء الله عزَّ وجلَّ في تلك الليلة من النيران
عدد مَنْ في الكشف في كل ليلة سبعون ألفاً، وفي ليلة الجمعة مثل باقي الأسبوع، وفي آخر ليلة من شهر رمضانينزل كشف جامع من عند الرحمن فيه مثل عدد ما أعتق الله في سائر الشهر فمن نوى بصيامه العتق من النيران أدرجه الرحمن في كشوفه.
ومن نوى بعمله أن يكرمه الكريم في ليلة القدر بدرجة من الدرجات العالية ومنزلة من المنازل الراقية، كأن تسلِّم عليه الملائكة وتصافحه، أو يحظى بالسلام من الأمين جبريل عليه السلام، أو يتمتع في تلك الليلة برؤية المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام،
أو يحظى في هذه الليلة بسماع السلام بلا كيفية من حضرة السلام عزَّ وجلَّ، يعطيه الله على قدر نيَّته، وعلى قدر سريرته، وعلى قدر إخلاصه في قصده لله عزَّ وجلَّ، يعطي الله كل واحد على قدر نيَّته.
قال سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان فقال:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ فَرِيضَةً وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعاً، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى? فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يُزَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِماً كَانَ لَهِ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ، يُعْطِي اللَّهُ تَعَالَى هذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِماً عَلَى مُذْقَةِ لَبَنٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِماً سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لاَ يَظْمَا حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ: أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ، خَصْلَتَينِ تُرْضُونَ بِهَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَينِ لاَ غِنَىً لَكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ وَأَمَّا اللَّتَانِ لاَ غِنى بِكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ}(3)
(1)مجمع الزوائد وجامع المسانيد والمراسيل عن ابن مسعود رَضِيَ الله عنه.
(2)رواه الدارمى في سننه وأحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه وأبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة.
(3)رواه ابن خزيمة في صحيحه وأورده صاحب مشكاة المصلبيح عن سلمان الفارسي رَضِيَ الله عنه.