الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلو نظرنا في السيرة النبوية العطرة، لوجدناها هي وتاريخ المسلمين مليئة بالدرر والنفائس في هذا السياق - الرجال مواقف - فنجد موقف سيدنا أبي بكر رضي الله عنه حينما قال له بعض المشركين: هل علمت ما قال صاحبك؟ فقال: ما قال؟ قالوا: يزعم أنه أُسْرِي به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعاد في نفس الليلة! فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن كان قال فقد صدق، صَدَّقْتُه في خبر السماء، أفلا أصَدِّقه في ذلك؟! فسُمِّي الصِّدِّيقَ من يومها، ولا يهمني بماذا لُقِّب أبو بكر رضي الله عنه؛ لأن الإنسان هو الذي يعطي القيمة لاسمه من شخصيته، ولكن الثبات والتصديق يُظْهِران مَعْدِن الرجل، ولكنْ سؤالٌ ما مُلِحٌّ، ويطرح نفسه:
أوَلسنا نؤمن بالله كلنا، ونصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فلِمَ تتباين المواقف من إنسان إلى آخر؟
الجواب: لعدة عوامل تتردد ما بين المكتسَب والفِطْري، ولكن الشيء الأهم هنا هو علاقة الإنسان بربه، فهي من أهم المحدِّدات التي تبنى عليها مواقف الرجال وثباتهم وإخفاقاتهم، فالرجل الذي لديه رصيد من الإيمان واليقين يتبلغ به مع ما يأخذ من النوافل، مع حفاظه على الفرائض وإصلاح سريرته، فهو الذي يثبت بتوفيق الله له، ثم بهذه العوامل التي ذكرْتُ آنفًا.
فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فاللهَ اللهَ في السرائر؛ فإنه لا يصلح مع فسادها صلاح ظاهر، ولذلك نجد كثيرًا من الناس والعلماء زلَّت أقدامهم، وقليل من ثبتوا في المواقف المتباينة، التي تحتاج لثباتهم ليُثَبِّتوا الأمة وقتذاك، من هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي ثبت حال وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثبَّت الأمة، وثبت في حروب الرِّدَّة، وعزم على قتالهم حتى إنه قال لعمر رضي الله عنه: أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام؟! والله لو منعوني عِقالَ بعير كانوا يؤدُّونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، فانشرح صدر عمر لهذا الأمر.
ومن هؤلاء الرجال الذين ثَبَتوا في وجه الطغاة سعيد بن جبير، والحسن البصري، ثبتا في وجه الحجاج الطاغية مُبيرِ - الذي يسرع بالقتل في أبنائها - هذه الأمَّةِ، حتى هلك الحجاج، وكذلك صلاح الدين الذي ثبت في وجه الصليبيين وقاتلهم حتى حرّر بيت المقدس، وكان رحمه الله يُؤَطِّر لقاعدة عظيمة في الثبات ألا وهي: أنه حينما كان يمر على خيام الجنود فيجد خيمة عامرة بالقرآن والذكر وقيام الليل، وأخرى خربة بالسهر والسمر واللهو، فيقول - وهي قاعدة نورانية في الثبات والنصر والهزيمة -:من هنا يأتي النصر ومن هنا تأتي الهزيمة؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45، 46].
ومن هؤلاء الرجال حسن رحمه الله الذي وقف في وجه التغريب والهجمة الشرسة التي أتت من بلاد الغرب على الشرق بالويلات والانحلال والميوعة والإباحية، وخاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية، فنهض بالأمة، وواجه هذه الموجة العاتية بتربية الرجال الذين قاموا جميعًا بالعمل على تجديد هذا الدين، وإزالة الغبار المتراكم على مفاهيمه ومبادئه، فأخرجوه للناس بِلُغَة العصر ناصعًا في حُلَّة قَشِيبة، يسهل فَهمه، فقاوموا هذا التغريب وعَلْمَنَة بلاد الشرق المسلم، حتى انحسرت على أيديهم هذه الهجمة الشرسة، وقام المسلمون فنهضوا من جديد، وما زلنا نحتاج إلى بعث جديد لهذه الأمة، ينتشلنا مما نحن فيه من تخلف ما زال يعشش في أركان مجتمعاتنا، وجهل يلف أركاننا.
ولكن ما هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الرجال الذين ذكرْتُ؟
أتصور أنها الغاية التي يَحْيون من أجلها، والرسالة التي يعيشون أو يموتون من أجلها، إنه الصبر واليقين اللذان نالوا بهما الإمامة في الدين؛ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
هذا هو السر، الصبر على لأواء هذا الدين وهذه الدعوة، واليقين في موعود الله تعالى، ولكن مع الزاد الذي يُبَلِّغهم هذا الأمر، فيُبَلِّغون رسالة الله، ويَحْيَون من أجل نصرة الإسلام والمسلمين، ويتحققون بالغاية التي يشتاقون إليها، حتى هتف بها أحدهم: أَمَلي أن يرضى الله عني، ولقد تحقق بها حتى نالها، فمن أراد أن يكون مثلهم، فليلزمْ غرزهم، وليتشبّه بهم؛ فإن التشبه بالرجال فلاح.
وصلى الله على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.