معجزة الإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعلى بها شأنه، وكانت تخفيفاً لألم رسول الله وحزنه وما لاقاه من قومه من إعراض وأذى.لمزيد من المعلومات تابعوا معنا هذا المقال من منتدى عدلات.
جاء حادث الإسراء والمعراج ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاوة الملأ الأعلى بعد ما أصابه من أذى البشر في رحلة الطائف.
يقول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء1
ومعنى (سبحان) : أي تنزيهاً لله تعالى تنزيهاً مطلقاً، أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات، ولا في الصفات ، ولا في الأفعال.
وكلمة (سبحان) جاءت هنا لتشير إلى أن ما بعدها أمر خارج عن نطاق قدرات البشر، ، أو أن تخضع فعله لقوانين البشر ؛ فهو متعلق بقدرة الله عز وجل ، وإدراك هذه المعجزة التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقوله( أسرى) من السري، وهو السير ليلاً .
وقوله سبحانه(بعبده) أي: أسرى به؛ لأنه صادق العبودية لله، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقه رسوله بما حقق من عبودية لله.
(ليلاً) فزمن الإسراء ليلا وقد جاء نكرة للتقليل أي بعضا من الليل ومن المعلوم أنه بعد مفارقة الغلاف الجوي المحيط بالأرض هنالك ظلام تام كما في قوله تعالى : “أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) النازعات
أغطش : أظلم
هل الإسراء كان بالروح فقط أم بالروح والجسد ؟
الذي عليه معظم السلف والخلف من أئمة الأمة وعلمائها أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد معاً، يقظة لا مناماً.
يقول ابن حجر : وإلى هذا -يعني: الإسراء والمعراج بالروح والجسد- ذهب جمهور الأمة من العلماء المحدثين، والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة.
ومثله قال ابن القيم في زاد المعاد، قال العلماء: وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس
(يعني: أن الإسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً) ويرتاح إليه القلب، إذ لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط، وكان المقصود رؤيا منامية لم يستبعد المشركون ذلك، ولم ينكروه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في ذلك آية ولا معجزة، فـ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا.)
وعلى سبيل المثال : لو أني قلت لك الآن: لقد رأيت بالأمس في نومي أني ذهبت إلى مكة، وطفت بالبيت ، ومشيت بين الصفا والمروة ثم انطلقت إلى المدينة وعدت بعد ذلك، هل ستنكر علي؟
لن تنكر علي؛ لأنني أقول لك: رأيت في الرؤيا.. رأيت فيما يرى النائم، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنها رؤيا نوم ما أنكر المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وكما يقول الشيخ الشعراوي : هب أن قائلاً قال لك: أنا صعدت بابني الرضيع قمة جبل “إفرست”، هل تقول له: كيف صعد ابنك الرضيع قمة “إفرست”؟ هذا سؤال إذن في غير محله، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى: أنا أسريت بعبدي، فمن أراد أن يحيل المسألة وينكرها، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد.
والقاعدة تقول: إن الزمن يتناسب تناسباً عكسياً مع القوة أو القدرة.
بمعنى: لو ركبت سيارة إلى القاهرة فستقطع بك المسافة في زمن معين، ولو ركبت طائرة ستقطع بك المسافة في زمن أقل، فلو ركبت صاروخاً سيقطع بك المسافة في زمن أقل، فإن ركبت مركبة فضاء ستقطع بك المسافة في زمن أقل، وهكذا يقلّ الزمن مع قوة القدرة التي تحملك إلى هذا السفر، وإذا علمت ذلك فاعلم أن القوة التي حملت المصطفى هي قوة الله.
فإن قال قائل: مادام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يأت الإسراء لمحة فحسب، ولماذا استغرق ليلة؟
نقول: لأن هناك فرقاً بين قطع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مراء عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق، فرأى مواقف، وتكلم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي التي استغرقت الزمن.
حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قدر قوة الفاعل.
إذن لما تضاف القوة إلى الله العلى الأعلى القادر المقتدر كم تأخذ من الزمن ؟
الله جل وعلا يقول : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر )القمر 50، وقال تعالى ” إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ” النحل 40 ، فأمر الله لا يحتاج لزمن ، الزمن للمخلوق وفقا للقوانين البشرية ؛ قوانين الحركة والانتقال ، لكن لما تتكلم عن قدرة الله فالله جل وعلا لا يحتاج لزمان لإيجاد شيء من العدم لطلاقة قدرته وكمال عظمته .
زمن الفيمتو ثانية:
في موسوعة ويكبيديا كلاما مفاده عن الفيمتو ثانية :
(بالإنجليزية: Femtosecond) والفيمتو كلمة دانماركية تعني الرقم 15؛ والسر في هذه التسمية أنهم توصلوا لكاميرا عالية الدقة تتمكن من التقاط ما يحدث في جزء من مليون مليار جزء من الثانية، والمليون ستة أصفار والمليار تسعة أصفار المجموع 15صفر فمن هنا سموها الفيمتو ثانية ، وأول استخدام عملي لهذه الفترة الزمنية بالغة الضآلة كان ابتكار نظام تصوير من قبل العالم المصري “أحمد زويل ” يرصد حركة الجزيئات عند تكوينها وعند تكوين روابط كيميائية بين بعضها ببعض والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها هذه الصورة هي الفيمتو ثانية, وذلك حينما أراد أن يصور بالضبط ما يحصل خلال التفاعلات الكيميائية وقد كان هذا الشئ مستحيلا من قبل لأن هذه التفاعلات تحدث بسرعة كبيرة جداً وعند تسليط الضوء على هذه التفاعلات يسبب الضوء تشتت الإلكترونات فلا يمكن حينها تصوير تفكك الروابط بين المركبات أو إعادة ترابطها معا ولكن تمكن زويل من تسليط أشعة الليزر على التفاعلات وتصويرها بكاميرات دقيقة تمكنت من التقاط ما يحدث في جزء من مليون مليار جزء من الثانية.
هذا إدراك بشري يستطيع أن يرصد بكاميرا دقيقة جدا جدا هذا الزمن الذي يعجز العقل عن إدراكه ( مليون مليار )جزء من الثانية ؛ فلما نتكلم عن قدرة الله وأنه أسرى بعبده وانتقل به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من الأقصى إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى عندها ندرك عظمة الله جل جلاله وقدرته التي لا تحدها حدود .
الصعود للقمر واتساع آفاق الكون :
بعد رحلة الصعود للقمر التي قامت بها أمريكا وما زالت تفتخر بها وكالة ناسا الفضائية ، وبدأوا وقتها يتكلمون عن غزو الفضاء ، ومع مرور الوقت وبعد الطفرة العلمية والفلكية في معرفة الكون تبين لهم أن القمر ضاحية من ضواحي الأرض ، ثم اكتشفوا أن الكرة الأرضية عبارة عن رأس دبوس صغير في هذا الكون الواسع ، حتى قال أحد علماء الفلك حينما سئل كم تمثل الأرض بالنسبة للكون ؟ فأجاب : الكون مثل مكتبة فيها مليون مجلد تمثل الأرض نقطة فوق حرف من كتاب من كتب هذه المكتبة !!
قلت : وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء )
دنيانا هذه بكل ما فيها من أراضي وبحار وجبال وأموال وبلدان ومدن … والتي يعيش الملايين لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة!!!
أرأيت أرضنا التي تبدو لنا واسعة .. كم هي ضئيلة وصغيرة ليس في الكون كلّه بل في مجموعتنا الشمسيّة التي تحوي تسع كواكب ، والتي تعتبر ضئيلة للغاية في مجرّة درب التبّانة (أو اللبانة )؟؟؟
والتي تحوي مابين 200 إلى 400 بليون نجم ، ويبلغ عرضها أكثر من مائة ألف سنة ضوئيّة ( سرعة الضوء = 300000 كلم / ثانية أو مليار كم في الساعة .
وكان العلماء يعتقدون أنّ هناك مجرّة واحدة وهي التي يوجد فيها كوكبنا ومجموعتنا الشمسيّة .. لكن بتطوّر العلم اكتشفوا أنّ الكون يعجّ بالمجرّات وأنّ عددما اكتشفوه حتى الآن 100 مليون
فقياس معجزة الإسراء والمعراج بالقدرة الإلهية يبين لنا عظمة الله جل وعلا ، ولك أن تسرح بخيالك عن المسافة التي بلغ بها النبي العروج من المسجد الأقصى إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى كم تبلغ هذه المسافة بالسنين الضوئية ؟!!
ولذلك أقول : إن المعجزات لا تؤخذ بالعقول وإنما بالإيمان لأنه أمر تطيش معه العقول .
النبي يصف المسجد الأقصى :
عن جَابِرَ بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) رواه البخاري ومسلم
وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذب؛ فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وهم كاذبون في قولهم؛ لأن رسول الله لم يدع أنه سرى بل قال: أسرى بي.
ومعلوم أن قطع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة.
أي: أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى أي بلد سيختلف الزمن لو سرنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة، فكلما زادت القوة قل الزمن، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى، إذا كان الفعل من الله فلا زمن.
لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟
حدث الإسراء ليلاً، لتظل المعجزة غيباً يؤمن به من يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة ـ إذن ـ حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان بالغيب.
لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: إن صاحبكم يزعم أنه أسرى به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فمنهم من قلب كفيه تعجباً، ومنهم من أنكر.
أما الصديق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبال المؤمن المصدق، ومن هذا الموقف سمي الصديق، وقال قولته المشهورة: “إن كان قال فقد صدق”. إذن: عمدته أن يقول رسول الله، وطالما قال فهو صادق، هذه قضية مسلم بها عند الصديق رضي الله عنه. ثم قال: “إنا لنصدقه في أبعد من هذا، نصدقه في خبر السماء (الوحي)، فكيف لا نصدقه في هذا؟
إذن: الحق سبحانه جعل هذا الحادث محكاً للإيمان، وممحصاً ليقين الناس، حين يغربل من حول رسول الله، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع.
لذلك قال تعالى في آية أخرى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الإسراء 60
وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكن مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يكذبه أحد ولا يختلف فيه الناس.
لكن لماذا قال عن الإسراء (رؤيا) يعني المنامية، ولم يقل “رؤية” يعني البصرية؟ قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
متى حدثت معجزة الإسراء والمعراج ؟
ليس هناك تاريخ ثابت يحدد زمن حادثة الإسراء، والعلماء اختلفوا اختلافاً كبيراً في يوم الإسراء، وفي شهر الإسراء، وفي سنة الإسراء!!
قال السدي : كان الإسراء في شهر ذي القعدة.
قال الزهري : كان الإسراء في شهر ربيع الأول.
قال ابن عبد البر : كان الإسراء في شهر رجب.
قال النووي: كان الإسراء في شهر رجب.
قال الواقدي : كان الإسراء في شهر شوال.
وفى قول آخر قال: كان في شهر رمضان.
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بتسعة أشهر،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير،
ومن ثم فإن اليوم والشهر والعام للإسراء لا يعلمه إلا الله.
والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة من مكة .
دروس وعبر من رحلة الإسراء
لقد اشتمل الإسراء على دروس وعبر أهمها:
أولاً: إثبات القدرة الإلهية، وأنه لا يستعصي على قدرته شيء:
لهذا قال:” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا” أي: تنزه عن كل نقص وعيب، إنها قدرة لا يقف أمامها حدود، ولا تعطل سيرها سدود، قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
إن أبعد نجم أدركه الفلكيون في السماء الدنيا يبعد عنا مسافة تقدر بحوالي 36 بليون سنة ضوئية, والسنة الضوئية تقدر بنحو (9,5 مليون مليون كم(.
بمعنى أنه لو فرضنا جدلا أن الإنسان تمكن من صنع مركبة فضائية تتحرك بسرعة الضوء (وهذا مستحيل) فإنه سوف يحتاج إلى 36 بليون سنة ليصل إلى آخر ما نرى من نجوم السماء الدنيا. فما بالنا بست سموات فوق ذلك إلى سدرة المنتهى, حيث شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بالمثول بين يدي ربه, وتلقى منه الأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة.
ثانياً: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم:
صلى رسول الله بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودليل على عالمية الإسلام، وعموم رسالة محمد ، وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا، تحمَّلها رسول الله بأمانة وقوة، وقام بحقها على خير وجه، ثم ورَّثها لأمته من بعده، وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس، ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ثالثاً: فضل وأهمية الصلاة:
لقد فرضت الصلاة من بين أركان الإسلام في السماء السابعة، وفي هذا دليل على أهمية هذه الرحلة العظيمة وأهمية الصلاة، وعظمها في الإسلام؛ ولذلك شدّد الإسلام عليها كل التشديد، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض.
وهي على ذلك تعتبر معراج المسلم إذا أدى حقها بالخشوع والاطمئنان المطلوبين, حتى يستشعر لذة مناجاة الله في الصلاة.
رابعا / فضل ومكانة الرسول صلى الله عليه وسلم:
التأكيد على مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند رب العالمين , فهو أحب خلق الله إلى الله- تعالى-, ولذلك أوصله إلى مقام من السماء لم يصل إليه غيره من البشر, ووضعه على رأس سلسلة الأنبياء والمرسلين, وهو خاتمهم أجمعين, ولذلك صلى بهم إماما في القدس الشريف تأكيدا على مقامه عند رب العالمين ؛ وعلى نسخ شريعته الخاتمة لجميع شرائعهم.
وفي ذلك إشارة إلى من يدعون إتباع نبي من الأنبياء السابقين إلى ضرورة الإيمان بهذا النبي الخاتم, وبالقرآن الكريم الذي أوحى إليه واتباع الدين الذي جاء به, كما تبعه جميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بالمسجد الأقصى, إعلانا بعموم رسالته التي اكتمل بها الدين, وتمت بها النعمة التي أصبحت واجبة على الخلق أجمعين.
خامسا / الإسلام دين الهداية والفطرة:
من أحداث تلك الليلة المباركة أن رسول الله قد اختار إناء اللبن وشرب منه، جاء في الحديث أن جبريل قال له عندما أخذ اللبن: “هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ”. قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة. وفي رواية: “هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ”.
إن سلامة الفطرة هي لب الإسلام؛ لأن عقيدته وشريعته وأحكامه كلها تتناسب مع مقتضيات الفطرة التي خلق الله الناس عليها، قبل أن تدنسها الشهوات والأطماع والأغراض الذاتية، وقد وصف الله هذا الدين بأنه دين الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم: 30].
سادسا/ التأكيد على أن الابتلاءات هي من سنن أصحاب الدعوات :
في كل زمان ومكان, وأنها من وسائل التطهير والتزكية للنفس الإنسانية, وعلى ذلك فإنه يجب على المسلم ضرورة الالتجاء إلى الله- تعالى- في كل شدة, واليقين بأنه إذا انقطعت حبال الناس فإن حبل الله المتين لا ينقطع أبدا ما دام العبد متوكلا على الله حق التوكل, وأنه ليس بعد العسر إلا اليسر.
سابعا / فضل المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] قال القاسمي: والأقصى بمعنى: الأبعد، سمي بذلك لبعده عن مكة، وفي قوله: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] أي: جوانبه، وذلك ببركات الدنيا والدين؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء، ومهبط وحيهم، ومنمى الزروع والثمار.
ومن فضائله: ما رواه أحمد والحاكم والنسائي وصححه الحاكم عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وإني أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد -يعني: بيت المقدس- إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونحن نرجوا أن يكون الله قد أعطاه هذا)، قال العلامة أحمد شاكر : إسناده صحيح.
لماذا لم يعرج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلا؟
هذا يدلنا على أن المرور ببيت المقدس، كان مقصوداً، والصلاة بالأنبياء الذين استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيت المقدس، وأنه أمهم، هذا له معناه ودلالته، أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان، فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمراً لا بد منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى، وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإسحاق وموسى وعيسى إيذان بانتقال القيادة.. القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة.
جاء حادث الإسراء والمعراج ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاوة الملأ الأعلى بعد ما أصابه من أذى البشر في رحلة الطائف.
يقول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء1
ومعنى (سبحان) : أي تنزيهاً لله تعالى تنزيهاً مطلقاً، أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات، ولا في الصفات ، ولا في الأفعال.
وكلمة (سبحان) جاءت هنا لتشير إلى أن ما بعدها أمر خارج عن نطاق قدرات البشر، ، أو أن تخضع فعله لقوانين البشر ؛ فهو متعلق بقدرة الله عز وجل ، وإدراك هذه المعجزة التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقوله( أسرى) من السري، وهو السير ليلاً .
وقوله سبحانه(بعبده) أي: أسرى به؛ لأنه صادق العبودية لله، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقه رسوله بما حقق من عبودية لله.
(ليلاً) فزمن الإسراء ليلا وقد جاء نكرة للتقليل أي بعضا من الليل ومن المعلوم أنه بعد مفارقة الغلاف الجوي المحيط بالأرض هنالك ظلام تام كما في قوله تعالى : “أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) النازعات
أغطش : أظلم
هل الإسراء كان بالروح فقط أم بالروح والجسد ؟
الذي عليه معظم السلف والخلف من أئمة الأمة وعلمائها أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد معاً، يقظة لا مناماً.
يقول ابن حجر : وإلى هذا -يعني: الإسراء والمعراج بالروح والجسد- ذهب جمهور الأمة من العلماء المحدثين، والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة.
ومثله قال ابن القيم في زاد المعاد، قال العلماء: وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس
(يعني: أن الإسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً) ويرتاح إليه القلب، إذ لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط، وكان المقصود رؤيا منامية لم يستبعد المشركون ذلك، ولم ينكروه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في ذلك آية ولا معجزة، فـ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا.)
وعلى سبيل المثال : لو أني قلت لك الآن: لقد رأيت بالأمس في نومي أني ذهبت إلى مكة، وطفت بالبيت ، ومشيت بين الصفا والمروة ثم انطلقت إلى المدينة وعدت بعد ذلك، هل ستنكر علي؟
لن تنكر علي؛ لأنني أقول لك: رأيت في الرؤيا.. رأيت فيما يرى النائم، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنها رؤيا نوم ما أنكر المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وكما يقول الشيخ الشعراوي : هب أن قائلاً قال لك: أنا صعدت بابني الرضيع قمة جبل “إفرست”، هل تقول له: كيف صعد ابنك الرضيع قمة “إفرست”؟ هذا سؤال إذن في غير محله، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى: أنا أسريت بعبدي، فمن أراد أن يحيل المسألة وينكرها، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد.
والقاعدة تقول: إن الزمن يتناسب تناسباً عكسياً مع القوة أو القدرة.
بمعنى: لو ركبت سيارة إلى القاهرة فستقطع بك المسافة في زمن معين، ولو ركبت طائرة ستقطع بك المسافة في زمن أقل، فلو ركبت صاروخاً سيقطع بك المسافة في زمن أقل، فإن ركبت مركبة فضاء ستقطع بك المسافة في زمن أقل، وهكذا يقلّ الزمن مع قوة القدرة التي تحملك إلى هذا السفر، وإذا علمت ذلك فاعلم أن القوة التي حملت المصطفى هي قوة الله.
فإن قال قائل: مادام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يأت الإسراء لمحة فحسب، ولماذا استغرق ليلة؟
نقول: لأن هناك فرقاً بين قطع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مراء عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق، فرأى مواقف، وتكلم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي التي استغرقت الزمن.
حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قدر قوة الفاعل.
إذن لما تضاف القوة إلى الله العلى الأعلى القادر المقتدر كم تأخذ من الزمن ؟
الله جل وعلا يقول : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر )القمر 50، وقال تعالى ” إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ” النحل 40 ، فأمر الله لا يحتاج لزمن ، الزمن للمخلوق وفقا للقوانين البشرية ؛ قوانين الحركة والانتقال ، لكن لما تتكلم عن قدرة الله فالله جل وعلا لا يحتاج لزمان لإيجاد شيء من العدم لطلاقة قدرته وكمال عظمته .
زمن الفيمتو ثانية:
في موسوعة ويكبيديا كلاما مفاده عن الفيمتو ثانية :
(بالإنجليزية: Femtosecond) والفيمتو كلمة دانماركية تعني الرقم 15؛ والسر في هذه التسمية أنهم توصلوا لكاميرا عالية الدقة تتمكن من التقاط ما يحدث في جزء من مليون مليار جزء من الثانية، والمليون ستة أصفار والمليار تسعة أصفار المجموع 15صفر فمن هنا سموها الفيمتو ثانية ، وأول استخدام عملي لهذه الفترة الزمنية بالغة الضآلة كان ابتكار نظام تصوير من قبل العالم المصري “أحمد زويل ” يرصد حركة الجزيئات عند تكوينها وعند تكوين روابط كيميائية بين بعضها ببعض والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها هذه الصورة هي الفيمتو ثانية, وذلك حينما أراد أن يصور بالضبط ما يحصل خلال التفاعلات الكيميائية وقد كان هذا الشئ مستحيلا من قبل لأن هذه التفاعلات تحدث بسرعة كبيرة جداً وعند تسليط الضوء على هذه التفاعلات يسبب الضوء تشتت الإلكترونات فلا يمكن حينها تصوير تفكك الروابط بين المركبات أو إعادة ترابطها معا ولكن تمكن زويل من تسليط أشعة الليزر على التفاعلات وتصويرها بكاميرات دقيقة تمكنت من التقاط ما يحدث في جزء من مليون مليار جزء من الثانية.
هذا إدراك بشري يستطيع أن يرصد بكاميرا دقيقة جدا جدا هذا الزمن الذي يعجز العقل عن إدراكه ( مليون مليار )جزء من الثانية ؛ فلما نتكلم عن قدرة الله وأنه أسرى بعبده وانتقل به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من الأقصى إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى عندها ندرك عظمة الله جل جلاله وقدرته التي لا تحدها حدود .
الصعود للقمر واتساع آفاق الكون :
بعد رحلة الصعود للقمر التي قامت بها أمريكا وما زالت تفتخر بها وكالة ناسا الفضائية ، وبدأوا وقتها يتكلمون عن غزو الفضاء ، ومع مرور الوقت وبعد الطفرة العلمية والفلكية في معرفة الكون تبين لهم أن القمر ضاحية من ضواحي الأرض ، ثم اكتشفوا أن الكرة الأرضية عبارة عن رأس دبوس صغير في هذا الكون الواسع ، حتى قال أحد علماء الفلك حينما سئل كم تمثل الأرض بالنسبة للكون ؟ فأجاب : الكون مثل مكتبة فيها مليون مجلد تمثل الأرض نقطة فوق حرف من كتاب من كتب هذه المكتبة !!
قلت : وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء )
دنيانا هذه بكل ما فيها من أراضي وبحار وجبال وأموال وبلدان ومدن … والتي يعيش الملايين لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة!!!
أرأيت أرضنا التي تبدو لنا واسعة .. كم هي ضئيلة وصغيرة ليس في الكون كلّه بل في مجموعتنا الشمسيّة التي تحوي تسع كواكب ، والتي تعتبر ضئيلة للغاية في مجرّة درب التبّانة (أو اللبانة )؟؟؟
والتي تحوي مابين 200 إلى 400 بليون نجم ، ويبلغ عرضها أكثر من مائة ألف سنة ضوئيّة ( سرعة الضوء = 300000 كلم / ثانية أو مليار كم في الساعة .
وكان العلماء يعتقدون أنّ هناك مجرّة واحدة وهي التي يوجد فيها كوكبنا ومجموعتنا الشمسيّة .. لكن بتطوّر العلم اكتشفوا أنّ الكون يعجّ بالمجرّات وأنّ عددما اكتشفوه حتى الآن 100 مليون
فقياس معجزة الإسراء والمعراج بالقدرة الإلهية يبين لنا عظمة الله جل وعلا ، ولك أن تسرح بخيالك عن المسافة التي بلغ بها النبي العروج من المسجد الأقصى إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى كم تبلغ هذه المسافة بالسنين الضوئية ؟!!
ولذلك أقول : إن المعجزات لا تؤخذ بالعقول وإنما بالإيمان لأنه أمر تطيش معه العقول .
النبي يصف المسجد الأقصى :
عن جَابِرَ بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) رواه البخاري ومسلم
وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذب؛ فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وهم كاذبون في قولهم؛ لأن رسول الله لم يدع أنه سرى بل قال: أسرى بي.
ومعلوم أن قطع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة.
أي: أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى أي بلد سيختلف الزمن لو سرنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة، فكلما زادت القوة قل الزمن، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى، إذا كان الفعل من الله فلا زمن.
لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟
حدث الإسراء ليلاً، لتظل المعجزة غيباً يؤمن به من يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة ـ إذن ـ حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان بالغيب.
لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: إن صاحبكم يزعم أنه أسرى به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فمنهم من قلب كفيه تعجباً، ومنهم من أنكر.
أما الصديق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبال المؤمن المصدق، ومن هذا الموقف سمي الصديق، وقال قولته المشهورة: “إن كان قال فقد صدق”. إذن: عمدته أن يقول رسول الله، وطالما قال فهو صادق، هذه قضية مسلم بها عند الصديق رضي الله عنه. ثم قال: “إنا لنصدقه في أبعد من هذا، نصدقه في خبر السماء (الوحي)، فكيف لا نصدقه في هذا؟
إذن: الحق سبحانه جعل هذا الحادث محكاً للإيمان، وممحصاً ليقين الناس، حين يغربل من حول رسول الله، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع.
لذلك قال تعالى في آية أخرى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الإسراء 60
وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكن مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يكذبه أحد ولا يختلف فيه الناس.
لكن لماذا قال عن الإسراء (رؤيا) يعني المنامية، ولم يقل “رؤية” يعني البصرية؟ قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
متى حدثت معجزة الإسراء والمعراج ؟
ليس هناك تاريخ ثابت يحدد زمن حادثة الإسراء، والعلماء اختلفوا اختلافاً كبيراً في يوم الإسراء، وفي شهر الإسراء، وفي سنة الإسراء!!
قال السدي : كان الإسراء في شهر ذي القعدة.
قال الزهري : كان الإسراء في شهر ربيع الأول.
قال ابن عبد البر : كان الإسراء في شهر رجب.
قال النووي: كان الإسراء في شهر رجب.
قال الواقدي : كان الإسراء في شهر شوال.
وفى قول آخر قال: كان في شهر رمضان.
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بتسعة أشهر،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر،
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير،
ومن ثم فإن اليوم والشهر والعام للإسراء لا يعلمه إلا الله.
والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة من مكة .
دروس وعبر من رحلة الإسراء
لقد اشتمل الإسراء على دروس وعبر أهمها:
أولاً: إثبات القدرة الإلهية، وأنه لا يستعصي على قدرته شيء:
لهذا قال:” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا” أي: تنزه عن كل نقص وعيب، إنها قدرة لا يقف أمامها حدود، ولا تعطل سيرها سدود، قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
إن أبعد نجم أدركه الفلكيون في السماء الدنيا يبعد عنا مسافة تقدر بحوالي 36 بليون سنة ضوئية, والسنة الضوئية تقدر بنحو (9,5 مليون مليون كم(.
بمعنى أنه لو فرضنا جدلا أن الإنسان تمكن من صنع مركبة فضائية تتحرك بسرعة الضوء (وهذا مستحيل) فإنه سوف يحتاج إلى 36 بليون سنة ليصل إلى آخر ما نرى من نجوم السماء الدنيا. فما بالنا بست سموات فوق ذلك إلى سدرة المنتهى, حيث شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بالمثول بين يدي ربه, وتلقى منه الأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة.
ثانياً: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم:
صلى رسول الله بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودليل على عالمية الإسلام، وعموم رسالة محمد ، وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا، تحمَّلها رسول الله بأمانة وقوة، وقام بحقها على خير وجه، ثم ورَّثها لأمته من بعده، وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس، ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ثالثاً: فضل وأهمية الصلاة:
لقد فرضت الصلاة من بين أركان الإسلام في السماء السابعة، وفي هذا دليل على أهمية هذه الرحلة العظيمة وأهمية الصلاة، وعظمها في الإسلام؛ ولذلك شدّد الإسلام عليها كل التشديد، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض.
وهي على ذلك تعتبر معراج المسلم إذا أدى حقها بالخشوع والاطمئنان المطلوبين, حتى يستشعر لذة مناجاة الله في الصلاة.
رابعا / فضل ومكانة الرسول صلى الله عليه وسلم:
التأكيد على مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند رب العالمين , فهو أحب خلق الله إلى الله- تعالى-, ولذلك أوصله إلى مقام من السماء لم يصل إليه غيره من البشر, ووضعه على رأس سلسلة الأنبياء والمرسلين, وهو خاتمهم أجمعين, ولذلك صلى بهم إماما في القدس الشريف تأكيدا على مقامه عند رب العالمين ؛ وعلى نسخ شريعته الخاتمة لجميع شرائعهم.
وفي ذلك إشارة إلى من يدعون إتباع نبي من الأنبياء السابقين إلى ضرورة الإيمان بهذا النبي الخاتم, وبالقرآن الكريم الذي أوحى إليه واتباع الدين الذي جاء به, كما تبعه جميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بالمسجد الأقصى, إعلانا بعموم رسالته التي اكتمل بها الدين, وتمت بها النعمة التي أصبحت واجبة على الخلق أجمعين.
خامسا / الإسلام دين الهداية والفطرة:
من أحداث تلك الليلة المباركة أن رسول الله قد اختار إناء اللبن وشرب منه، جاء في الحديث أن جبريل قال له عندما أخذ اللبن: “هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ”. قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة. وفي رواية: “هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ”.
إن سلامة الفطرة هي لب الإسلام؛ لأن عقيدته وشريعته وأحكامه كلها تتناسب مع مقتضيات الفطرة التي خلق الله الناس عليها، قبل أن تدنسها الشهوات والأطماع والأغراض الذاتية، وقد وصف الله هذا الدين بأنه دين الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم: 30].
سادسا/ التأكيد على أن الابتلاءات هي من سنن أصحاب الدعوات :
في كل زمان ومكان, وأنها من وسائل التطهير والتزكية للنفس الإنسانية, وعلى ذلك فإنه يجب على المسلم ضرورة الالتجاء إلى الله- تعالى- في كل شدة, واليقين بأنه إذا انقطعت حبال الناس فإن حبل الله المتين لا ينقطع أبدا ما دام العبد متوكلا على الله حق التوكل, وأنه ليس بعد العسر إلا اليسر.
سابعا / فضل المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] قال القاسمي: والأقصى بمعنى: الأبعد، سمي بذلك لبعده عن مكة، وفي قوله: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] أي: جوانبه، وذلك ببركات الدنيا والدين؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء، ومهبط وحيهم، ومنمى الزروع والثمار.
ومن فضائله: ما رواه أحمد والحاكم والنسائي وصححه الحاكم عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وإني أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد -يعني: بيت المقدس- إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونحن نرجوا أن يكون الله قد أعطاه هذا)، قال العلامة أحمد شاكر : إسناده صحيح.
لماذا لم يعرج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلا؟
هذا يدلنا على أن المرور ببيت المقدس، كان مقصوداً، والصلاة بالأنبياء الذين استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيت المقدس، وأنه أمهم، هذا له معناه ودلالته، أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان، فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمراً لا بد منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى، وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإسحاق وموسى وعيسى إيذان بانتقال القيادة.. القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة.