مفهوم الغزوات -والمفرد غزوة- في التشكُّل منذ هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة وانتهى استخدامه بوفاته -عليه الصلاة والسلام-، فجميع الحروب التي خاضها المسلمون بعد ذلك أُطلق عليها اسم المعارك، فالغزوات هي خروج جيش المسلمين بقيادة النبي الكريم لقتال أعداء الله من الكفار والمشركين سواءً انتهى الأمر بقتالٍ أم دون قتالٍ كما في غزوة السويق وغيرها، والدافع وراء تلك الغزوات النبوية نشر الدين الإسلامي والذّود عن حياضه وردّ الحقوق إلى أهلها والدافع على حياة المسلمين وأموالهم وأعراضهم من طمع المشركين والحاقدين، ومن تلك الغزوات التي سُجلتْ في السيرة النبوية غزوة ذي أمر. بحث عن غزوة ذي أمر تُعتبر غزوة ذي أمر من الغزوات أو الحملات العسكرية التي خرجت من المدينة المنورة بقيادة النبي -عليه الصلاة والسلام- لقتال المتربصين بالمسلمين من القبائل العربية ومن والاهم من اليهود والمنافقين في الفترة الواقعة ما بين غزوة بدرٍ وغزوة أُحدٍ أي في السنة الثالثة للهجرة النبوية، وجرت أحداث غزوة ذي أمر -بفتح الألف والميم- عند موضع ماءٍ يقال له ذي أمر.[١] بعد هزيمة قريشٍ في غزوة بدرٍ تعاظم العداء للإسلام والمسلمين في نفوس القبائل العربية واليهودية في شبه الجزيرة العربية؛ فكان ذلك سببًا في تشكُّل تحالفٍ عربيٍّ يهوديٍّ بين قبيلتيْ بني محارب وهي واحدةٌ من أهم وأبرز القبائل العربية وقبيلة بني ثعلبة اليهودية والقاطنة في المساحة الممتدة ما بين المدينة المنورة وتيماء -مدينة سعودية حاليًا- نجم عنه جيشٌ كبير العدد من كلا القبيلتيْن غايته الهجوم المباغت على المدينة المنورة للقضاء على الإسلام وكسر شوكة المسلمين، في أثناء ذلك استطاعت عيون المسلمين المنتشرة هنا وهناك من رصد هذا التحالف والجيش الخارج للمدينة بعدده وعتاده، فوصلت تلك الأنباء للنبي -عليه الصلاة والسلام- والذي أمر بضرورة الخروج للقاء العدو قبل وصولهم إلى المدينة، وكانت تلك من سياسته الحكيمة في منع الأعداء من مهاجمة المدينة وأهلها من منطلقٍ عسكريٍّ أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم كما أنّ في الخروج لمهاجمة الجيش الزاحف نحو المدينة رسالة قويةٌ مفادها امتلاك المسلمين للقدرات العسكرية التي تُمكِّنهم من الهجوم ومباغتة العدو وعدم الاكتفاء بدور المدافع، خرج المسلمون بجيشٍ قوامه أربعمائةٍ وخمسون مقاتلًا ما بين فارسٍ وراجلٍ تحت إمرة النبي -عليه الصلاة والسلام- في مستهل السنة الثالثة للهجرة بعد فراغه من غزوة السويق بوقت قصيرٍ.[٢] في غزوة ذي أمر تحرّك الجيش النبوي من المدينة المنورة بإتجاه قبيلتيْ بني محاربٍ وبني ثعلبة في هضبة نجدٍ الواقعة في شمال ووسط شبه الجزيرة العربية بعد أن استعمل -عليه الصلاة والسلام- على المدينة المنورة قائمًا بمهامه وأعماله عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، في أثناء سير الجيش النبوي ناحية حشد القبيلتيْن ألقى المسلمون القبض على رجلٍ يُدعى جُبَار من بني ثعلبة، فأُخِذ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أحسن معاملته ودعاه إلى اعتناق الإسلام فأسلم الرجل، وتولى بلال بن رباح -رضي الله عنه- أمر تعليمه أمور الدِّين وأحكامه ومبادئه التي يرتكز عليها، وقد حَسُن إسلام الرجل فكان عونًا للمسلمين ودليلًا أمينًا لهم في أرض عدوهم يدلهم على الطرق والمسالك الآمنة والمُيسرة، لكن ما إن علم بنو محارب وبنو ثعلبة بنبأ خروج النبي -عليه تاصلاة والسلام- على رأس جيشٍ لقتالهم حتى دبّ الهلع والذعر في قلوبهم؛ فخلوا مواقعهم وانطلقوا فارين إلى رؤوس الجبال.[٣] بعد فرار مقاتلي قبيلتيْ محارب وثعلبة إلى الجبال أقام المسلمون كما ذكر المؤرخون قرابة الشهر عند موضع ماءٍ لقبيلة محارب يقال له ذي أمر لذا سُميت غزوة ذي أمر بهذا الاسم، كما أطلق المؤرخون على هذه الغزوة اسم غزوة غطفان؛ فأحداثها وقعت عند ماء ذي أمر من أرض قبيلة غطفان والتي ينتمي إليها بنو محارب، وعلى الرغم من أنّ غزوة ذي أمر انتهت دون قتالٍ أو خسائر مادية أو معنوية من جانب المسلمين إلا أنها حققت أهدافها والتي من أجلها تحرّك النبي -عليه الصلاة والسلام- بجيشه من المدينة إلى مساكن القبيلتيْن -محارب وثعلبة- وأبرزها إثارة الرعب والخوف والهلع في قلوب كل من تسول له نفسه التربص بالمسلمين أو حياكة المكائد ضدهم أو المشاركة في أي عملٍ عسكريٍّ موجّهٍ نحو المسلمين في عاصمتهم الدينية والسياسية خاصةً بعد فرار محاربي قبيلتيْ محارب وثعلبة دون قتالٍ وبقاء المسلمين مرابطين في أرضهم قرابة شهرٍ دون أن يلقوا أي هجومٍ أو قتالٍ فرديٍّ أو جماعيٍّ، مما حدا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- العودة إلى المدينة المنورة مُكللًّا بالنصر، كما أسفرت غزوة ذي أمر عن إسلام واحدٍ من سادات غطفان يدعى دعثور بن الحارث -رضي الله عنه- بعد عفو النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد أن همّ بقتله -صلى الله عليه وسلم- وهو قائمٌ ينشر ثيابه كي تجف من مطرٍ أصابها، إذ سأل دعثور بن الحارث وهو قائمٌ بسيفه النبي -عليه الصلاة والسلام- من يمنعك مني؟ أي من يحول بيني وبين قتلك وأنت أعزل، فأجابه نبي الهدى: الله يمنعني، فوقع السيف من يده فأخذه -صلى الله عليه وسلم- فسأل دعثورًا من يمنعك مني؟ فأجاب الأخير: لا أحد، فعفى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان ذلك دافعًا وحافزًا كي يعلن إسلامه بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي سمى بحُسن خلقه وعفوه وصفحه