جموعة مختارات الطيب صالح
خالد ربيع السيد
الرياض
بعد إنتظار وترقب دام سنوات طويلة لظهور أي عمل روائي له، أصدر الروائي السوداني الطيب صالح مجموعة كتب تحت عنوان رئيسي (مختارات)، وهي مجموعة تتأرجح الكتابة فيها بين أجناس متعددة تبدأ من الخاطرة والمذكرات ولا تنتهي والسرد والرواية فحسب، بل تتخطاها إلى كتابة حرة عن مشاهداته وتأملاته في رحلة الحياة، وقد بلغت المجموعة تسعة أجزاء كل في كتاب مستقل (منسي. المضيئون كالنجوم. للمدن تفرد وحديث. في صحبة المتنبي. في رحاب الجنادرية. وطني السودان. ذكريات المواسم. خواطر وترحال) والرواية التي يبدأ بها مجموعته - ليس لها سياقه الروائي المعتاد - عنوانها (مختارات باسم منسي)، صدرت عن دار رياض الريس. ويبدو أن المختارات قد إقتطفها من مقالات عديدة استمر يكتبها أسبوعياً في إحدى المجلات السعودية - العربية، وقد حرص القارئ على متابعتها منذ نحو خمسة عشر عاماً أو يزيد.
ومن المعروف أن روايات الكاتب السابقة كانت تدور عن الحياة في القرى السودانية خاصة تلك الواقعة في شمال السودان، حيث يكون مسقط رأسه في تلك البيئة الممتزجة عرقياً بين الأفريقي والعربي والنوبي، ومثلت رواياته في مجملها عن صراع الهوية بين مهاجر إلى بلاد الضباب بكل صخب حياتها وعائد إلى ريف بسيط متقشف راضخ لروتين الحياة البسيط، كما في «موسم الهجرة إلى الشمال» ومجموعة «دومة ود حامد» القصصية.
من خلال احتواء عنوان الكتاب الجديد على اسم (منسي)، يخيّل للأذهان أنه ربما يدور في مناخ مشابه لرواياته السابقة، إلا أن القارئ يكتشف، ومن الصفحة الأولى أن «منسي» هذا ما هو إلا بطل الرواية أو المختارات، فالإهداء جاء فيها الى روح «أحمد منسي» أو يوسف مايكل بسطاوروس. وهو شخص متفرد أو إنسان نادر على طريقته، كما جاء على الغلاف، فرأى الطيب صالح أن يكتب عنه ويسجل حياته ليدهش القراء كما أدهشه منسي لسنوات طويلة ظل فيها صديقاً حميماً للكاتب وملازماً له في معظم تنقلاته.
وقد يثار التساؤل: هل منسي يمثل رمزاً أم متخيلاً أم شخصية أسطورية أم هي فعلاً حقيقية؟. فلم يكن متوقعاً بعد طول انقطاع عن الكتابة أن يخرج الطيب صالح هذا النوع الجديد من البيوجرافيا إذا ما صحت التسمية، والتي جاءت في أسلوب سردي صحافي رشيق، أشبه بكتابة المذكرات اليومية. كما أن منسي هذا ليس شخصية سياسية بارزة أو فنية أو ثقافية أو دينية، وليس لها أي توجه يميزها عن غيرها، ليكتب عنها، بل هي شخصية فطرية التفرد، لفتت نظر الكاتب المتحفظ والدقيق، فصادقها بعمق، وفقاً لقانون تجاذب الأضداد.
إن منسي النادر على طريقته، رجل قبطي من صعيد مصر يدعى مايكل بسطاوروس، يختزل كل الحياة والألقاب والمراسيم والمناصب بكلمة «طز»، - كلمة طز تعني في اللغة التركية «ملح» وتقال للاستخفاف في دلالة على رخص الملح الطعام وتوفره - فمنسي القبطي له شخصية تفتح بشجاعتها وجسارتها كل الحواجز، وتذلل كل الصعاب وأحياناً تعقّد السهل على الآخرين.
صادقه الطيب صالح في بداية عمله بلندن، بهيئة الإذاعة البريطانية عندما كان منسي يعمل ممثلاً ثانوياً بالإذاعة، فقد كان يجيد بأونطجيته - كما يقول الطيب - كل شيء في الحياة إلا الفن، الذي لا تفلح فيه الأونطة. وكوّن الاثنان ثنائياً طريفاً، يكتب عنه الطيب صالح واصفا: (كنت أباً روحياً له، كما كنت أقوم في الوقت نفسه بدور الممثل المساند في العروض الكوميدية، كما عند لوريل وهاردي، تجد شخصين في هذا النوع من الكوميديا، بينهما تباين واضح جسمياً وعقلياً، فالنحيل إزاء السمين والطويل إزاء القصير. واحد ذكي واسع الحيلة يخرج من المشاكل مثل الشعرة من العجين، الثاني أهبل يتعثر فيقع، ويرتطم رأسه في الحائط، وهو الذي تقع على رأسه المشاكل عموما).
والكتاب يحكي بأسلوب طريف وبحس فيه الكثير من الدعابة، عن غرائب منسي. فهو ينجح في كسر حصن الكاتب المنعزل صمويل بكيت ويؤانسه، وينازل السياسي همرشولد ويهزمه، ويجادل المؤرخ توينبي بل ويخترق حاجز الملكة اليزابيث نفسها، فهو لا يهاب شيئاً، ويصادق نصف سكان بريطانيا بمختلف الطبقات، والطيب صالح من ورائه يتعجب ويسجّل، وإن أوقعه في عدة مقالب بلندن وبيروت والهند وأستراليا. . ثم يموت منسي في أميركا داعية إسلامياً ثرياً، وقد ولد وعاش معدماً.
وكما يتضح في الرواية أن الطيب صالح يمارس تأملاته الفلسفية في الحياة بين السطور ويسجل الوقائع التاريخية المهمة في حياة الأمة العربية في فترتي الخمسينات والستينات، ويكاد يكتب أوتوبيوجرافيا أيضاً في هوامش حياة منسي، فهو دائماً يعيش مسانداً له حسب قوله. ونتعرف من خلال الرواية على عشق الطيب صالح وارتباطه بعدة مدن كبيروت التي حل فيها هو وصديقه منسي ليلة الحرب وأنها أول من أخرجت مؤلفاته إلى النور، ثم الدوحة، وعمله كمستشار لوزير الثقافة هناك، وبالطبع لندن حيث عاش معظم حياته وتزوج فيها.
يوثق الطيب صالح أيضاً - لنفسه ربما - عن أفكاره، فرغم سنواته الطويلة التي قضاها في الغرب وما زال، إلا أنه يتساءل، كيف نحن العرب نرى أن الغرب هو كل العالم ولم نهتم بمد جسور الصداقة والتفاهم مع الشعوب الشرقية، فهذه لها حضاراتها وثقافاتها الزاهرة أيضاً، وربما يكون توجهاً يسعى إليه الآن بعض المثقفين العرب والدوريات العربية.. وجاءت دعوته هذه بعد زيارات له ولصديقه منسي لدلهي وطوكيو.. وكيف أن مسؤولي تلك الدول مستعدون ومتجاوبون للتفاهم والتعاون مع العرب من دون أي خلفيات تاريخية تشوّش الرؤية.. مختارات «منسي» للطيب صالح، طريفة وسريعة الإيقاع، وهي متعة للقراءة.
يزعم بعض الإنجليز أن مفردات لغتهم مصادرها ثلاثة: الإنجيل وشكسبير ولعبة الكركت. من بين مصطلحات لعبة الكركت: «All Rounder» وتعني اللاعب «الشامل» وتطلق على اللاعب المكتمل اللياقة والذي يجيد اللعب بمهارة في كل موقع. الطيب صالح - في رأيي- كاتب «شامل» مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة وإطلاعه الواسع باللغتين العربية والإنجليزية على علوم اللغة، والفقه، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، وعلم الأجناس، والأدب، والشعر، والمسرح، والإعلام، أن يروي، ويحكي، ويخبر، ويوصف، ويحلل، ويقارن، وينقد، ويترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ إلى الوجدان والفكر كما تشهد هذه المجموعة من «مختارات من الطيب صالح».
الرياض
خالد ربيع السيد
الرياض
بعد إنتظار وترقب دام سنوات طويلة لظهور أي عمل روائي له، أصدر الروائي السوداني الطيب صالح مجموعة كتب تحت عنوان رئيسي (مختارات)، وهي مجموعة تتأرجح الكتابة فيها بين أجناس متعددة تبدأ من الخاطرة والمذكرات ولا تنتهي والسرد والرواية فحسب، بل تتخطاها إلى كتابة حرة عن مشاهداته وتأملاته في رحلة الحياة، وقد بلغت المجموعة تسعة أجزاء كل في كتاب مستقل (منسي. المضيئون كالنجوم. للمدن تفرد وحديث. في صحبة المتنبي. في رحاب الجنادرية. وطني السودان. ذكريات المواسم. خواطر وترحال) والرواية التي يبدأ بها مجموعته - ليس لها سياقه الروائي المعتاد - عنوانها (مختارات باسم منسي)، صدرت عن دار رياض الريس. ويبدو أن المختارات قد إقتطفها من مقالات عديدة استمر يكتبها أسبوعياً في إحدى المجلات السعودية - العربية، وقد حرص القارئ على متابعتها منذ نحو خمسة عشر عاماً أو يزيد.
ومن المعروف أن روايات الكاتب السابقة كانت تدور عن الحياة في القرى السودانية خاصة تلك الواقعة في شمال السودان، حيث يكون مسقط رأسه في تلك البيئة الممتزجة عرقياً بين الأفريقي والعربي والنوبي، ومثلت رواياته في مجملها عن صراع الهوية بين مهاجر إلى بلاد الضباب بكل صخب حياتها وعائد إلى ريف بسيط متقشف راضخ لروتين الحياة البسيط، كما في «موسم الهجرة إلى الشمال» ومجموعة «دومة ود حامد» القصصية.
من خلال احتواء عنوان الكتاب الجديد على اسم (منسي)، يخيّل للأذهان أنه ربما يدور في مناخ مشابه لرواياته السابقة، إلا أن القارئ يكتشف، ومن الصفحة الأولى أن «منسي» هذا ما هو إلا بطل الرواية أو المختارات، فالإهداء جاء فيها الى روح «أحمد منسي» أو يوسف مايكل بسطاوروس. وهو شخص متفرد أو إنسان نادر على طريقته، كما جاء على الغلاف، فرأى الطيب صالح أن يكتب عنه ويسجل حياته ليدهش القراء كما أدهشه منسي لسنوات طويلة ظل فيها صديقاً حميماً للكاتب وملازماً له في معظم تنقلاته.
وقد يثار التساؤل: هل منسي يمثل رمزاً أم متخيلاً أم شخصية أسطورية أم هي فعلاً حقيقية؟. فلم يكن متوقعاً بعد طول انقطاع عن الكتابة أن يخرج الطيب صالح هذا النوع الجديد من البيوجرافيا إذا ما صحت التسمية، والتي جاءت في أسلوب سردي صحافي رشيق، أشبه بكتابة المذكرات اليومية. كما أن منسي هذا ليس شخصية سياسية بارزة أو فنية أو ثقافية أو دينية، وليس لها أي توجه يميزها عن غيرها، ليكتب عنها، بل هي شخصية فطرية التفرد، لفتت نظر الكاتب المتحفظ والدقيق، فصادقها بعمق، وفقاً لقانون تجاذب الأضداد.
إن منسي النادر على طريقته، رجل قبطي من صعيد مصر يدعى مايكل بسطاوروس، يختزل كل الحياة والألقاب والمراسيم والمناصب بكلمة «طز»، - كلمة طز تعني في اللغة التركية «ملح» وتقال للاستخفاف في دلالة على رخص الملح الطعام وتوفره - فمنسي القبطي له شخصية تفتح بشجاعتها وجسارتها كل الحواجز، وتذلل كل الصعاب وأحياناً تعقّد السهل على الآخرين.
صادقه الطيب صالح في بداية عمله بلندن، بهيئة الإذاعة البريطانية عندما كان منسي يعمل ممثلاً ثانوياً بالإذاعة، فقد كان يجيد بأونطجيته - كما يقول الطيب - كل شيء في الحياة إلا الفن، الذي لا تفلح فيه الأونطة. وكوّن الاثنان ثنائياً طريفاً، يكتب عنه الطيب صالح واصفا: (كنت أباً روحياً له، كما كنت أقوم في الوقت نفسه بدور الممثل المساند في العروض الكوميدية، كما عند لوريل وهاردي، تجد شخصين في هذا النوع من الكوميديا، بينهما تباين واضح جسمياً وعقلياً، فالنحيل إزاء السمين والطويل إزاء القصير. واحد ذكي واسع الحيلة يخرج من المشاكل مثل الشعرة من العجين، الثاني أهبل يتعثر فيقع، ويرتطم رأسه في الحائط، وهو الذي تقع على رأسه المشاكل عموما).
والكتاب يحكي بأسلوب طريف وبحس فيه الكثير من الدعابة، عن غرائب منسي. فهو ينجح في كسر حصن الكاتب المنعزل صمويل بكيت ويؤانسه، وينازل السياسي همرشولد ويهزمه، ويجادل المؤرخ توينبي بل ويخترق حاجز الملكة اليزابيث نفسها، فهو لا يهاب شيئاً، ويصادق نصف سكان بريطانيا بمختلف الطبقات، والطيب صالح من ورائه يتعجب ويسجّل، وإن أوقعه في عدة مقالب بلندن وبيروت والهند وأستراليا. . ثم يموت منسي في أميركا داعية إسلامياً ثرياً، وقد ولد وعاش معدماً.
وكما يتضح في الرواية أن الطيب صالح يمارس تأملاته الفلسفية في الحياة بين السطور ويسجل الوقائع التاريخية المهمة في حياة الأمة العربية في فترتي الخمسينات والستينات، ويكاد يكتب أوتوبيوجرافيا أيضاً في هوامش حياة منسي، فهو دائماً يعيش مسانداً له حسب قوله. ونتعرف من خلال الرواية على عشق الطيب صالح وارتباطه بعدة مدن كبيروت التي حل فيها هو وصديقه منسي ليلة الحرب وأنها أول من أخرجت مؤلفاته إلى النور، ثم الدوحة، وعمله كمستشار لوزير الثقافة هناك، وبالطبع لندن حيث عاش معظم حياته وتزوج فيها.
يوثق الطيب صالح أيضاً - لنفسه ربما - عن أفكاره، فرغم سنواته الطويلة التي قضاها في الغرب وما زال، إلا أنه يتساءل، كيف نحن العرب نرى أن الغرب هو كل العالم ولم نهتم بمد جسور الصداقة والتفاهم مع الشعوب الشرقية، فهذه لها حضاراتها وثقافاتها الزاهرة أيضاً، وربما يكون توجهاً يسعى إليه الآن بعض المثقفين العرب والدوريات العربية.. وجاءت دعوته هذه بعد زيارات له ولصديقه منسي لدلهي وطوكيو.. وكيف أن مسؤولي تلك الدول مستعدون ومتجاوبون للتفاهم والتعاون مع العرب من دون أي خلفيات تاريخية تشوّش الرؤية.. مختارات «منسي» للطيب صالح، طريفة وسريعة الإيقاع، وهي متعة للقراءة.
يزعم بعض الإنجليز أن مفردات لغتهم مصادرها ثلاثة: الإنجيل وشكسبير ولعبة الكركت. من بين مصطلحات لعبة الكركت: «All Rounder» وتعني اللاعب «الشامل» وتطلق على اللاعب المكتمل اللياقة والذي يجيد اللعب بمهارة في كل موقع. الطيب صالح - في رأيي- كاتب «شامل» مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة وإطلاعه الواسع باللغتين العربية والإنجليزية على علوم اللغة، والفقه، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، وعلم الأجناس، والأدب، والشعر، والمسرح، والإعلام، أن يروي، ويحكي، ويخبر، ويوصف، ويحلل، ويقارن، وينقد، ويترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ إلى الوجدان والفكر كما تشهد هذه المجموعة من «مختارات من الطيب صالح».
الرياض