تمهيـــــــــد :
تعرضت الفلسفة لأزمة حادة مع الفلسفة الوضعية حين جعل أوڤوست كونت دور الفلسفة لاحقا عن دور العلم ورأى أن المعرفة الحقيقة هي المعرفة العلمية ، وأن العلم وحده هو الذي يفكر، والفلسفة لا يزيد دورها عن تنظيم العلوم والربط بينها، وفي المرحلة الوضعية لا نهتم إلا بما هو وقائع تصلح لنقيم عليها التجربة ...
ـ أصبح أعلام الفكر الفلسفي بعد ذلك يخجلون من هذا الخطاب الوضعي الذي يقصي الفلسفة خاصة وأن العلماء أنفسهم شعروا بالحاجة إلى الفلسفة لشموليتها وبحثها فيما لا يطاله العلم رغم أهميته كالجانب النفسي والتربوي والخُلقي و الماورائي وكالابستيمولوجيا وغير ذلك ...
ـ ظهرت لذلك نزعة مقاومة للوضعية ، يقول "هيدڤر" في الرد على " كونت " " العلم لا يفكر " و هو لا يعدو أن يكون تقنية . على هذا الأساس نستطيع أن نقول :
إن ما يجري اليوم في مجال التكوين هو من قبيل التقنية لا التعلم.
إذا تخلينا عن أهداف التربية أصبحنا نعلّم ، ويمكن عندها أن نعلم الطفل ما نشاء ولكنه قد يتعلم كثيرا ويحصل على شهائد ويكون فاشلا .
القول الفلسفي في مجال التربية يجعلنا نجعل مسافة نقدية بين الأهداف والغايات (بمعنى ما يجب أن يكون ).
عندما نفكر في ما هو موجود نحاول أن نتعالى به.
لا بد أن نتفتح ونرفض الانغلاق والإقصاء.
التربية هي المجال الأرحب الذي يجب أن يقبل كل ألوان الفكر، ولا يجب أن تكون أنية فردانية ضيقة.
التفكير في التربية يجعلنا نكتشف مشاكل أكثر من النتائج فالحقيقة لها الوجه والوجه الآخر .
إذا علّمنا الطفل أخلاقا وقيما فقد ناقضنا الأخلاق التي يجب أن تقوم على الحرية أي أن يختار الطفل ما يشاء أن يريد أن يُقبل على ما يريد بذاته فيجب أن تصدر هذه الأخلاق من ذاته .
هذه التناقضات هي المجال الذي لا نقول تتخبط فيه التربية بل نقول تعيش فيه التربية فهذه المشاكل والمتناقضات هي روح التربية. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل عن أسباب هذه التناقضات وعلاقتها بالإنسان وعلاقة الإنسان بها، وعن منزلة القول الفلسفي في التربية والقضايا المركزية التي دار عليها الخطاب الفلسفي، وعن شرعية القول الفلسفي في قضايا التربية اليوم ...
فلسفة التربية وعلوم التربية :
1 ـ هل ما زال يمكننا أن نحدد مكانة فلسفة التربية في زمن كادت العلوم الإنسانية فيه تحتل فضاء البحث ، وتبين التوجهات الكبرى وتعيّن مراحل الفعل التربوي ووسائله ؟
أ ـ علوم التربية تصبح معيار العقلانية : إن علم اجتماع التربية وعلم النفس النشوئي وعلم التحليل النفسي وتاريخ المؤسسات التربوية هي من الآن فصاعدا علوم تامة التكوين، وتقريبا واثقة من نفسها لتكوّن معرفة داعمة للفعل التربوي وعلى سبيل المثال علم النفس النشوئي يوفر لنا معرفة بمستوى النمو الذهني للطفل الذي يجب أن ندرّس فيه مفهوما لغويا أو رياضيا معينا .
ـ إن مجلوبات علوم التربية تجيب عن تساؤلات صاغها البيداغوجيون أو أصحاب القرار، وهكذا تساهم في بلورة الممارسة في حقل " الأفعال التربوية " فعلوم التربية هي إذن علوم عملية ... إنها علوم تشترك في تحسين نتائج التربية وهي ليست مجرد معارف وإنما هي معارف من أجل التطبيق .
ـ نتحدث عن " علوم تربية " بصيغة الجمع لأن من خصائص التربية أن ننظر إليها من زوايا مختلفة : وجدانية / عرفانية / اجتماعية / بيولوجية ...ولذلك تحدث " أردوانو" عن تعدد المرجعية والمقاربة المتعددة المرجعيات .
ب ـ المكانة الغامضة لفلسفة التربية :
في الواقع لا يمكن للبحوث في علوم التربية أن تغفل الحديث عن فلسفة التربية ، لكننا نجد أن المكانة التي يجب أن تحتلها فلسفة التربية في بحث في علوم التربية باهتة غامضة : فكيف يمكن الحديث بعد عن فلسفة التربية في حين أن العلوم الإنسانية كما يبدو هيمنت على المجال النظري والعملي للبحث ، لتجد فلسفة التربية نفسها ـ في نفس الوقت ـ مرفوضة لتؤدي ضريبة التفكير العقيم ، ومطلوبة كمقاربة ابستيمولوجية قادرة على توفير التوضيح، وتحقيق وحدة العلوم الخاصة .
ج ـ هل يمكن اختزال فلسفة التربية في دور محدد وجعلها مجرد" مساعد ابستيمولوجي " ؟
لقد رفضت الفلسفة الوضعية كل فلسفة غير مواجهة مباشرة للوقائع ، ولكنها انتظرت في نفس الوقت من الفلسفة ـ كفكر نقدي ـ جهدا لبلورة مبادئ تؤسس المعارف التجريبية من أجل تنظيمها . في هذا الاتجاه شاركت الفلسفة في إنتاج إشكاليات خاصة بشروط إمكانية التربية وغاياتها : إصلاحات الأنظمة التربوية ، القلق حول المردود ، إدماج المدرسة في الحياة ...
فما هو رأي الفيلسوف في هذا الدور " ابستيمولوجي " الذي وجد نفسه محصورا فيه ؟ وهل أن المشاكل التي تطرحها التربية لا تتجاوز التفكير الابستيمولوجي ؟
د ـ الحدود بين : الفلسفة والعلوم الإنسانية :
لقد تطورت العلوم الإنسانية وتوسعت دائرة اختصاصها على حساب الفلسفة التي وجدت صعوبة في التواجد في مجالها الخاص بها وأصبح الدور الذي اختزلت فيه " كإبستيمولوجيا" ثانويا هامشيا ..
لا شك أننا حضرنا مقاربات وتوضيحات مثمرة في سؤال يمس بالأخلاق أو بغايات التكوين أو بالوضع الابستيمولوجي للعلوم الإنسانية أو بحدود التربية... في إقامتها العلاقة بين الطبيعة والثقافة هذه المقاربات التي يمكن اعتبارها بعثا أعقب القطيعة التي أحدثتها الفلسفة الوضعية في المعرفة يمكن أن ترد الاعتبار للفلسفة. ويبقى التساؤل قائما فيما إذا لم يشكل ردّ الاعتبار هذا مشكلا.
في الأول بدأت العودة إلى الفلسفة انطلاقا من الإرساء التجريبي لعلوم التربية ... ثم بدت الحدود بين الفلسفة والعلوم الإنسانية هشة ..
إن مهمة الفلسفة هي إعادة صياغة الأسئلة ذات المعنى والتأكيد على أنه لاشيء يسير لوحده ، والقول بأن فلسفة التربية ضرورية في الممارسة التربوية يؤدي إلى جعل سؤال الضرورة نفسه موضع التساؤل الفلسفي : إن الفلسفة ليس من مهمتها أن تملي سلوكات وإذا سألتاها : ما هي التربية الأخلاقية ؟ يجيب الحس المشترك : " هي أن نجعل الناس يتصرفون أخلاقيا " . ويكفي أن نتفكر في الجواب لنرى كم هو قابل للنقاش بل كم هو خطير ، لأن التربية إذا كانت مهمتها تكمن فقط في تدريب الأطفال على ألا يسرقوا، وألا يكذبوا ، وأن يخضعوا للمبادئ الموجودة فإنها لن تــُخرج لنا إلا أناسا آليين ، عاجزين عن فهم ما يفعلونه ولماذا هم يفعلونه أصلا كما يرى "أوليفيي ريبول " في كتابه ( فلسفة التربية ). وهنا تبدو الحاجة إلى الفلسفة لتُقنع الناس بالفضيلة والخير ، وتمكن المتعلم من التعليل والتفسير والفهم ...
ـ " التربية :الجوهر النادر " ( سبينوزا) في فلسفة التربية :
1 ـ المادة السابقة للتساؤل الفلسفي :
خاصية فلسفة التربية أن تصعد إلى منابع الفائدة الإنسانية للتربية ،وفي هذه النقطة بالذات يصبح التفكير الفلسفي جذريا . في الواقع إذا سألنا فيلسوفا : ما الإنسان ؟ وما الذي يميزه عن الحيوان ؟ فإنه يجيب : يتميز الإنسان بالعمل أو باللغة أو بالثقافة . ونحن نعرف حسب "ريبول " أنه لا وجود للعمل ولا للغة ولا للثقافة دون تربية . فالأمر إذن يتعلق بجوهر الإنسان الذي لا يستطيع إنسانا إلا بالتربية حسب كانط .
L’homme ne peut devenir homme que par l’éducation / KANT
وهكذا ننتقل من سؤال : ما الإنسان ؟ إلى سؤال : ما التربية ؟ . وإذا لم يكن الإنسان إنسانا إلا بالتربية فلا شيء إذن أكثر "حيوية" من التنقيب عن رهاناتها .
ـ السؤال عن التربية "حيوي " لأنها تعني قدر الأطفال ومصيرهم : وهو رهان وجودي يتأثر بالاختيارات
الأخلاقية والسياسية والاجتماعية ..
ـ السؤال " جوهري " لأنه لا يطلب معرفة كيف نعلـــّم ، ولكن يطلب معرفة فِعـْـل التعلّم ذاته، و المعنى الذي نعطيه لاتساع العملية التربوية التي هي سبب تعاسة عند الأولياء والمدرسين ، والتي هي أولوية من أولويات المجتمعات الإنسانية . وفي صورة ما إذا طوّرت التربية نظريات ، فما هي الأهداف التي تتبعها وما هي الحدود التي تقف عندها ؟ وما هي العلاقة البيداغوجية بين المعلّم والمتعلم؟ والقيم التي تستخدمها كل تربية ، هل هي كونية ؟
إذا كانت هذه القيم نسبية فبأي حق نفرضها على أبنائنا ؟ وعندما نعلن أننا نربي أبناءنا لمصلحتهم نجد أنفسنا على حد تعبير " ريبول " أمام السؤال الرهيب :" هل من الممكن أن نفعل خيْرَ شخصٍ رغما عنه؟
2 ـ الفلسفة والتربية :
On peut aller jusqu’à définir la philosophie comme la théorie générale de l’éducation
تعتبر التربية المشكل الفلسفي بامتياز على معنى أن كل فلسفة عظيمة تتحدد أساسا :" كتربية =paideïa " ،
أو" كتكوين " أو تربية عامة . فأفلاطون وأرسطو ومونتاني وروسّو وكانط وفيخته وهيڤل وآلان وديوي ...كلهم تناولوا قضية التربية وجعلوا منها محورا مركزيا في تفكيرهم ...
أفلاطــــون :
يرى أفلاطون أن التربية (paideïa ) والسياسة ( polis )يهدفان إلى ترقية الفرد. وهما ينطلقان من النقص الطبيعي في الفرد ويدفعانه ليكون ما لم يكن .
ـ يجب معرفة التمفصل القائم بين التربية والسياسة ومعرفة أن النقص الذي يشكو منه الفرد لا يمكن تجاوزه إلا بالوساطة التي تحمل محبة الآخر ... التربية إذن هي مهمة متميزة تربط بين المحبة والحكمة و تتموقع في قلب المؤسسة الفلسفية ...
ـ فكرة " الإنسان " مركزية في بيداغوجيا أفلاطون ، إنه المشكل الأكبر المطروح على مجتمع القرن الرابع ق.م : وهو كيف يمكن تربية أطر هذا المجتمع ؟ فكان جواب أفلاطون : إنه في الخمسين من العمر فقط يمكن للذين أتمّوا تكوينهم الأخلاقي أن يصلوا أخيرا إلى الهدف : تأمل الخير في ذاته . هكذا " يجب خمسين سنة لتكوين رجل "
وليس أدل من خمسين سنة يحتاجها الإنسان الذي يريد أن يكتسب تربية تمكنه من أن يكون عارفا للخير في ذاته، قادرا على التصرف السليم ونفع المجتمع...
روســّـــــــــو :
نفس هذا المشكل الكبير " مشكل الإنسان " نجده مطروحا في كتاب روســّو " إميل " هذا الإنسان المضطرّ إلى مصارعة الطبيعة أو المؤسسات الاجتماعية ، فيجب الاختيار لتكوين إنسان أو مواطن ، لأنه لا يمكن ( حسب روسو) أن يكون الفرد في نفس الوقت هذا وذاك . وهكذا نلاحظ أنه ما كان متجمعا عند أفلاطون أصبح مفرّقا عند روسّو، حتى يمكن التفريق بين "إنسان" و "مواطن" .
ـ " فمواطن" مفهوم جليّ، وهو يُحيل إلى قوانين وحقوق وقومية. وبهذا المفهوم للمواطن هناك خطر الانغلاق في القومية.
بينما " إنسان " مفهوم أقل تحديدا، وهو يحيل إلى الفرد الذي يجب عليه أن ينمّي قدراته أي طبيعته، وبعيش الفرد على طبيعته يصبح إنسانا ..
ولكي يحقق الإنسان ذاته حسب ما جاء في ( إميل ) يجب عليه تحطيم الحدود القومية ففكرة الإنسان هي التي تحتوي فكرة المواطن . و يمكن للفرد العيش كإنسان في مدينة سيئة التكوين وذلك بإتباع قانون (داخلي / ذاتي ) منقوش في القلب ويكون هذا القانون أخلاقيا أو سياسيا. فالحرية إذن لا توجد في أي شكل من أشكال الحكومة، إنها مستقرة في قلب الإنسان الحر, وهو يحملها معه أينما ذهب. أما الإنسان الوضيع فإنه يعيش في كل مكان في يقين لأنه لا يفكر ولا يهتم بالفضيلة، ولذلك يمكن أن يكون عبدا في جنيف و حرا في باريس.. يتعلق الأمر هنا بأطروحة أفلاطونية.
السؤال البيداغوجي المركزي إذن هو : كيف يمكن تكوين إنسان فاضل مستقل ؟
فالسؤال عن التربية لا يُطرح إذن إلا انطلاقا من الفارق بين الفرد الذي يعيش دائما في دولة والإنسان الذي يتصرف طبق قواعد عامة.
كيف يمكن لحكومة فاسدة لا يعبر القانون فيها إلا عن النزوات والمصالح الفردية أن تربي الإنسان على الفضيلة ؟ يجب حسب روسو إحياء معنى المثل الأعلى للحكمة الذي يؤكد ضرورة الحياة الاجتماعية والحاجة الأكيدة للقيم الأخلاقية . وهذا النموذج هو من إهداء الحكيم ( سقراط ) .
كـــانــــــــــــط :
L’éducation est le plus grand et le plus difficile problème qui puisse être proposé à l’homme
هكذا يقر كانط بأن التربية هي أعوص المشاكل التي يواجهها الإنسان ، فما هي أسباب هذه الصعوبة ؟
نقطة الانطلاق هي أن هذا المشكل خاص بالشرف ولا يمكن أن يطرح على الحيوان الذي يولد بغرائز تسيّره وتحمله على أن يكون ما سيكونه طيلة حياته .
أما الإنسان فهو ليس في الأصل شيئا ، ويجب عليه أن يصبح بعد ذلك شيئا ( باكتساب التربية والتعليم والثقافة ) وفي هذه المرحلة تُطرح ثلاثة أسئلة :
ماذا يجب على الإنسان أن يكون ؟ ماذا يقدر أن يفعل ؟ ما هي حدود قدراته ؟
يجب أن ننظر هنا إلى فكرة( أن يكون الإنسان إنسانا) من ثلاث زوايا هي : الوجهة والقدرة والحدود . وإذا وجدنا صعوبة في توجيه الإنسان في صيرورته الإنسانية أي في تأسيس تربية فذلك لكون المكلف بتربيته هو أيضا إنسان متأثر بطبيعته الخشنة ويجب عليه أن يعطي للآخر ما هو نفسه في حاجة إليه ، وهذا ما يجعل الإنسان يحيد دوما عن غايته .
الإنسان ـ حسب كانط ـ في حاجة إلى معلم ، وهذا طبيعي ، ولكن هذا المعلم هو بدوره في حاجة إلى معلم ، وهنا تظهر الصعوبة لأن الإنسان نفسه الذي كلفَ غيره بتعليم الإنسان ليس بعدُ إنسانا عند كانط ...
ويفسر كانط هذه الصعوبة بأن الإنسان حيوان في حاجة إلى معلم ، لكن أين سيجد هذا المعلم ؟ لن يجده في أي مكان إلا في النوع البشري . إذن هذا المعلم بدوره حيوان مثله وفي حاجة إلى معلم. وهكذا فإن الحل حسب كانط هو ربط صيرورة الإنسان به لا بغيره فليس هناك كائن أرقى منه يسيره ، ولو تحقق هذا سنرى ماذا يمكن أن نفعل بالإنسان والقول بأن صيرورة الإنسان بيده هو قول بأن الإنسان حرّ. وهذه الحرية هي سبب صعوبة المشكل التربوي ، لأن حريتنا تضعنا في مواجهة مسؤوليتنا ، ولا تعني أن تفعل أي سلطة أي شيء ، فأن يكون الإنسان حرا هو بالأساس أن يكون مسؤولا عن نفسه .
فوائد هذا القول بالحرية هي :
ـ إن الإنسان قادر على التطور المستمر، وهذا أفضل من القول بأن طبيعة الإنسان تتطور دوما بالتربية ( لأن الأمر يصبح بيده )
ـ إن الإنسان لكونه حرا فهو المخلوق الوحيد الذي يجب أن يتلقى تربية
ـ القول بأن الإنسان حر قول بأنه يملك مستقبلا، ويقدر أن يصنع تاريخا
ـ أنه مسؤول عن سعادته وشقائه
ـ أنه مركز التاريخ وأن الطبيعة بكليتها خاضعة له
ولكن لكون الإنسان حرا يجب عليه أن يتـثـقـف بنفسه وأن يختار، فالحرية مطلب ثقافي، أي أن هذه الحرية في حاجة إلى أن تتهذب وتُصقل من خشونتها. المقصود هنا تقييد هذه الحرية في شكل " حرية اختيار " إذ لو تبقى هذه الحرية دون تنظيم وتهذيب فإنها ستتسبب في الاضطرابات الأكثر والأخطر في تاريخ البشرية، فالعدو الأكثر قسوة للإنسان هو الإنسان. وقد أشار أرسطو إلى أن " إتباع الإنسان لهواه وميله للرذيلة أخطر من حيوانية الحيوان" وذلك حسب رأيي لأن حيوانية الحيوان طبيعية ومحدودة فالحيوان الذي تُشبع غرائزه أقل خطرا من الإنسان الذي يسير حسب هواه و غرائزه لأنه لا يشبع ولا يقف عند حد...
هذه الحرية الثمينة والهشة في نفس الوقت وسبب الخير كما هي سبب الشر، هي التي أسست المؤسسة التربوية ولكن هي أيضا التي جعلتها ضعيفة والأكيد أن التطور ممكن لكنه لن يسير دون تعثر.
في إطار هذا التطور و هذا التعثر الممكن فإن الإنسانية كلها هي المعنية. فالتربية إذن هي تجربة الإنسانية، ولو أصبحت علما بالمعنى الصارم للكلمة فالنتيجة هي أن يكون الإنسان غير حر أو أن يرتفع العقل ليبلغ المعرفة المطلقة التي لا يملكها إلا الله.
فالتربية إذن تجربة وليست معرفة، وهي تعني الإنسانية كلها ومن هنا تتصل بفلسفة التاريخ...
والإنسان مطالب بالعمل والترقي ليعطي معنى لذاته ولوجوده. وأن يكون الشخص معلما لا يعني أن يعطي معنى لحياته فقط وإنما يعني أيضا مساعدة الآخرين على إعطاء معنى لحياتهم... وبذلك يتجاوز جهد المعلم ذاته نحو الكوني... وتصبح التربية منبع سعادة عظمى للإنسان ، ويكون كانط صادقا حين يقول :
L’éducation est le plus difficile problème qui puisse être proposé à l’homme ; mais elle est aussi la source de la joie la plus noble que l’homme puisse goûter
تعرضت الفلسفة لأزمة حادة مع الفلسفة الوضعية حين جعل أوڤوست كونت دور الفلسفة لاحقا عن دور العلم ورأى أن المعرفة الحقيقة هي المعرفة العلمية ، وأن العلم وحده هو الذي يفكر، والفلسفة لا يزيد دورها عن تنظيم العلوم والربط بينها، وفي المرحلة الوضعية لا نهتم إلا بما هو وقائع تصلح لنقيم عليها التجربة ...
ـ أصبح أعلام الفكر الفلسفي بعد ذلك يخجلون من هذا الخطاب الوضعي الذي يقصي الفلسفة خاصة وأن العلماء أنفسهم شعروا بالحاجة إلى الفلسفة لشموليتها وبحثها فيما لا يطاله العلم رغم أهميته كالجانب النفسي والتربوي والخُلقي و الماورائي وكالابستيمولوجيا وغير ذلك ...
ـ ظهرت لذلك نزعة مقاومة للوضعية ، يقول "هيدڤر" في الرد على " كونت " " العلم لا يفكر " و هو لا يعدو أن يكون تقنية . على هذا الأساس نستطيع أن نقول :
إن ما يجري اليوم في مجال التكوين هو من قبيل التقنية لا التعلم.
إذا تخلينا عن أهداف التربية أصبحنا نعلّم ، ويمكن عندها أن نعلم الطفل ما نشاء ولكنه قد يتعلم كثيرا ويحصل على شهائد ويكون فاشلا .
القول الفلسفي في مجال التربية يجعلنا نجعل مسافة نقدية بين الأهداف والغايات (بمعنى ما يجب أن يكون ).
عندما نفكر في ما هو موجود نحاول أن نتعالى به.
لا بد أن نتفتح ونرفض الانغلاق والإقصاء.
التربية هي المجال الأرحب الذي يجب أن يقبل كل ألوان الفكر، ولا يجب أن تكون أنية فردانية ضيقة.
التفكير في التربية يجعلنا نكتشف مشاكل أكثر من النتائج فالحقيقة لها الوجه والوجه الآخر .
إذا علّمنا الطفل أخلاقا وقيما فقد ناقضنا الأخلاق التي يجب أن تقوم على الحرية أي أن يختار الطفل ما يشاء أن يريد أن يُقبل على ما يريد بذاته فيجب أن تصدر هذه الأخلاق من ذاته .
هذه التناقضات هي المجال الذي لا نقول تتخبط فيه التربية بل نقول تعيش فيه التربية فهذه المشاكل والمتناقضات هي روح التربية. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل عن أسباب هذه التناقضات وعلاقتها بالإنسان وعلاقة الإنسان بها، وعن منزلة القول الفلسفي في التربية والقضايا المركزية التي دار عليها الخطاب الفلسفي، وعن شرعية القول الفلسفي في قضايا التربية اليوم ...
فلسفة التربية وعلوم التربية :
1 ـ هل ما زال يمكننا أن نحدد مكانة فلسفة التربية في زمن كادت العلوم الإنسانية فيه تحتل فضاء البحث ، وتبين التوجهات الكبرى وتعيّن مراحل الفعل التربوي ووسائله ؟
أ ـ علوم التربية تصبح معيار العقلانية : إن علم اجتماع التربية وعلم النفس النشوئي وعلم التحليل النفسي وتاريخ المؤسسات التربوية هي من الآن فصاعدا علوم تامة التكوين، وتقريبا واثقة من نفسها لتكوّن معرفة داعمة للفعل التربوي وعلى سبيل المثال علم النفس النشوئي يوفر لنا معرفة بمستوى النمو الذهني للطفل الذي يجب أن ندرّس فيه مفهوما لغويا أو رياضيا معينا .
ـ إن مجلوبات علوم التربية تجيب عن تساؤلات صاغها البيداغوجيون أو أصحاب القرار، وهكذا تساهم في بلورة الممارسة في حقل " الأفعال التربوية " فعلوم التربية هي إذن علوم عملية ... إنها علوم تشترك في تحسين نتائج التربية وهي ليست مجرد معارف وإنما هي معارف من أجل التطبيق .
ـ نتحدث عن " علوم تربية " بصيغة الجمع لأن من خصائص التربية أن ننظر إليها من زوايا مختلفة : وجدانية / عرفانية / اجتماعية / بيولوجية ...ولذلك تحدث " أردوانو" عن تعدد المرجعية والمقاربة المتعددة المرجعيات .
ب ـ المكانة الغامضة لفلسفة التربية :
في الواقع لا يمكن للبحوث في علوم التربية أن تغفل الحديث عن فلسفة التربية ، لكننا نجد أن المكانة التي يجب أن تحتلها فلسفة التربية في بحث في علوم التربية باهتة غامضة : فكيف يمكن الحديث بعد عن فلسفة التربية في حين أن العلوم الإنسانية كما يبدو هيمنت على المجال النظري والعملي للبحث ، لتجد فلسفة التربية نفسها ـ في نفس الوقت ـ مرفوضة لتؤدي ضريبة التفكير العقيم ، ومطلوبة كمقاربة ابستيمولوجية قادرة على توفير التوضيح، وتحقيق وحدة العلوم الخاصة .
ج ـ هل يمكن اختزال فلسفة التربية في دور محدد وجعلها مجرد" مساعد ابستيمولوجي " ؟
لقد رفضت الفلسفة الوضعية كل فلسفة غير مواجهة مباشرة للوقائع ، ولكنها انتظرت في نفس الوقت من الفلسفة ـ كفكر نقدي ـ جهدا لبلورة مبادئ تؤسس المعارف التجريبية من أجل تنظيمها . في هذا الاتجاه شاركت الفلسفة في إنتاج إشكاليات خاصة بشروط إمكانية التربية وغاياتها : إصلاحات الأنظمة التربوية ، القلق حول المردود ، إدماج المدرسة في الحياة ...
فما هو رأي الفيلسوف في هذا الدور " ابستيمولوجي " الذي وجد نفسه محصورا فيه ؟ وهل أن المشاكل التي تطرحها التربية لا تتجاوز التفكير الابستيمولوجي ؟
د ـ الحدود بين : الفلسفة والعلوم الإنسانية :
لقد تطورت العلوم الإنسانية وتوسعت دائرة اختصاصها على حساب الفلسفة التي وجدت صعوبة في التواجد في مجالها الخاص بها وأصبح الدور الذي اختزلت فيه " كإبستيمولوجيا" ثانويا هامشيا ..
لا شك أننا حضرنا مقاربات وتوضيحات مثمرة في سؤال يمس بالأخلاق أو بغايات التكوين أو بالوضع الابستيمولوجي للعلوم الإنسانية أو بحدود التربية... في إقامتها العلاقة بين الطبيعة والثقافة هذه المقاربات التي يمكن اعتبارها بعثا أعقب القطيعة التي أحدثتها الفلسفة الوضعية في المعرفة يمكن أن ترد الاعتبار للفلسفة. ويبقى التساؤل قائما فيما إذا لم يشكل ردّ الاعتبار هذا مشكلا.
في الأول بدأت العودة إلى الفلسفة انطلاقا من الإرساء التجريبي لعلوم التربية ... ثم بدت الحدود بين الفلسفة والعلوم الإنسانية هشة ..
إن مهمة الفلسفة هي إعادة صياغة الأسئلة ذات المعنى والتأكيد على أنه لاشيء يسير لوحده ، والقول بأن فلسفة التربية ضرورية في الممارسة التربوية يؤدي إلى جعل سؤال الضرورة نفسه موضع التساؤل الفلسفي : إن الفلسفة ليس من مهمتها أن تملي سلوكات وإذا سألتاها : ما هي التربية الأخلاقية ؟ يجيب الحس المشترك : " هي أن نجعل الناس يتصرفون أخلاقيا " . ويكفي أن نتفكر في الجواب لنرى كم هو قابل للنقاش بل كم هو خطير ، لأن التربية إذا كانت مهمتها تكمن فقط في تدريب الأطفال على ألا يسرقوا، وألا يكذبوا ، وأن يخضعوا للمبادئ الموجودة فإنها لن تــُخرج لنا إلا أناسا آليين ، عاجزين عن فهم ما يفعلونه ولماذا هم يفعلونه أصلا كما يرى "أوليفيي ريبول " في كتابه ( فلسفة التربية ). وهنا تبدو الحاجة إلى الفلسفة لتُقنع الناس بالفضيلة والخير ، وتمكن المتعلم من التعليل والتفسير والفهم ...
ـ " التربية :الجوهر النادر " ( سبينوزا) في فلسفة التربية :
1 ـ المادة السابقة للتساؤل الفلسفي :
خاصية فلسفة التربية أن تصعد إلى منابع الفائدة الإنسانية للتربية ،وفي هذه النقطة بالذات يصبح التفكير الفلسفي جذريا . في الواقع إذا سألنا فيلسوفا : ما الإنسان ؟ وما الذي يميزه عن الحيوان ؟ فإنه يجيب : يتميز الإنسان بالعمل أو باللغة أو بالثقافة . ونحن نعرف حسب "ريبول " أنه لا وجود للعمل ولا للغة ولا للثقافة دون تربية . فالأمر إذن يتعلق بجوهر الإنسان الذي لا يستطيع إنسانا إلا بالتربية حسب كانط .
L’homme ne peut devenir homme que par l’éducation / KANT
وهكذا ننتقل من سؤال : ما الإنسان ؟ إلى سؤال : ما التربية ؟ . وإذا لم يكن الإنسان إنسانا إلا بالتربية فلا شيء إذن أكثر "حيوية" من التنقيب عن رهاناتها .
ـ السؤال عن التربية "حيوي " لأنها تعني قدر الأطفال ومصيرهم : وهو رهان وجودي يتأثر بالاختيارات
الأخلاقية والسياسية والاجتماعية ..
ـ السؤال " جوهري " لأنه لا يطلب معرفة كيف نعلـــّم ، ولكن يطلب معرفة فِعـْـل التعلّم ذاته، و المعنى الذي نعطيه لاتساع العملية التربوية التي هي سبب تعاسة عند الأولياء والمدرسين ، والتي هي أولوية من أولويات المجتمعات الإنسانية . وفي صورة ما إذا طوّرت التربية نظريات ، فما هي الأهداف التي تتبعها وما هي الحدود التي تقف عندها ؟ وما هي العلاقة البيداغوجية بين المعلّم والمتعلم؟ والقيم التي تستخدمها كل تربية ، هل هي كونية ؟
إذا كانت هذه القيم نسبية فبأي حق نفرضها على أبنائنا ؟ وعندما نعلن أننا نربي أبناءنا لمصلحتهم نجد أنفسنا على حد تعبير " ريبول " أمام السؤال الرهيب :" هل من الممكن أن نفعل خيْرَ شخصٍ رغما عنه؟
2 ـ الفلسفة والتربية :
On peut aller jusqu’à définir la philosophie comme la théorie générale de l’éducation
تعتبر التربية المشكل الفلسفي بامتياز على معنى أن كل فلسفة عظيمة تتحدد أساسا :" كتربية =paideïa " ،
أو" كتكوين " أو تربية عامة . فأفلاطون وأرسطو ومونتاني وروسّو وكانط وفيخته وهيڤل وآلان وديوي ...كلهم تناولوا قضية التربية وجعلوا منها محورا مركزيا في تفكيرهم ...
أفلاطــــون :
يرى أفلاطون أن التربية (paideïa ) والسياسة ( polis )يهدفان إلى ترقية الفرد. وهما ينطلقان من النقص الطبيعي في الفرد ويدفعانه ليكون ما لم يكن .
ـ يجب معرفة التمفصل القائم بين التربية والسياسة ومعرفة أن النقص الذي يشكو منه الفرد لا يمكن تجاوزه إلا بالوساطة التي تحمل محبة الآخر ... التربية إذن هي مهمة متميزة تربط بين المحبة والحكمة و تتموقع في قلب المؤسسة الفلسفية ...
ـ فكرة " الإنسان " مركزية في بيداغوجيا أفلاطون ، إنه المشكل الأكبر المطروح على مجتمع القرن الرابع ق.م : وهو كيف يمكن تربية أطر هذا المجتمع ؟ فكان جواب أفلاطون : إنه في الخمسين من العمر فقط يمكن للذين أتمّوا تكوينهم الأخلاقي أن يصلوا أخيرا إلى الهدف : تأمل الخير في ذاته . هكذا " يجب خمسين سنة لتكوين رجل "
وليس أدل من خمسين سنة يحتاجها الإنسان الذي يريد أن يكتسب تربية تمكنه من أن يكون عارفا للخير في ذاته، قادرا على التصرف السليم ونفع المجتمع...
روســّـــــــــو :
نفس هذا المشكل الكبير " مشكل الإنسان " نجده مطروحا في كتاب روســّو " إميل " هذا الإنسان المضطرّ إلى مصارعة الطبيعة أو المؤسسات الاجتماعية ، فيجب الاختيار لتكوين إنسان أو مواطن ، لأنه لا يمكن ( حسب روسو) أن يكون الفرد في نفس الوقت هذا وذاك . وهكذا نلاحظ أنه ما كان متجمعا عند أفلاطون أصبح مفرّقا عند روسّو، حتى يمكن التفريق بين "إنسان" و "مواطن" .
ـ " فمواطن" مفهوم جليّ، وهو يُحيل إلى قوانين وحقوق وقومية. وبهذا المفهوم للمواطن هناك خطر الانغلاق في القومية.
بينما " إنسان " مفهوم أقل تحديدا، وهو يحيل إلى الفرد الذي يجب عليه أن ينمّي قدراته أي طبيعته، وبعيش الفرد على طبيعته يصبح إنسانا ..
ولكي يحقق الإنسان ذاته حسب ما جاء في ( إميل ) يجب عليه تحطيم الحدود القومية ففكرة الإنسان هي التي تحتوي فكرة المواطن . و يمكن للفرد العيش كإنسان في مدينة سيئة التكوين وذلك بإتباع قانون (داخلي / ذاتي ) منقوش في القلب ويكون هذا القانون أخلاقيا أو سياسيا. فالحرية إذن لا توجد في أي شكل من أشكال الحكومة، إنها مستقرة في قلب الإنسان الحر, وهو يحملها معه أينما ذهب. أما الإنسان الوضيع فإنه يعيش في كل مكان في يقين لأنه لا يفكر ولا يهتم بالفضيلة، ولذلك يمكن أن يكون عبدا في جنيف و حرا في باريس.. يتعلق الأمر هنا بأطروحة أفلاطونية.
السؤال البيداغوجي المركزي إذن هو : كيف يمكن تكوين إنسان فاضل مستقل ؟
فالسؤال عن التربية لا يُطرح إذن إلا انطلاقا من الفارق بين الفرد الذي يعيش دائما في دولة والإنسان الذي يتصرف طبق قواعد عامة.
كيف يمكن لحكومة فاسدة لا يعبر القانون فيها إلا عن النزوات والمصالح الفردية أن تربي الإنسان على الفضيلة ؟ يجب حسب روسو إحياء معنى المثل الأعلى للحكمة الذي يؤكد ضرورة الحياة الاجتماعية والحاجة الأكيدة للقيم الأخلاقية . وهذا النموذج هو من إهداء الحكيم ( سقراط ) .
كـــانــــــــــــط :
L’éducation est le plus grand et le plus difficile problème qui puisse être proposé à l’homme
هكذا يقر كانط بأن التربية هي أعوص المشاكل التي يواجهها الإنسان ، فما هي أسباب هذه الصعوبة ؟
نقطة الانطلاق هي أن هذا المشكل خاص بالشرف ولا يمكن أن يطرح على الحيوان الذي يولد بغرائز تسيّره وتحمله على أن يكون ما سيكونه طيلة حياته .
أما الإنسان فهو ليس في الأصل شيئا ، ويجب عليه أن يصبح بعد ذلك شيئا ( باكتساب التربية والتعليم والثقافة ) وفي هذه المرحلة تُطرح ثلاثة أسئلة :
ماذا يجب على الإنسان أن يكون ؟ ماذا يقدر أن يفعل ؟ ما هي حدود قدراته ؟
يجب أن ننظر هنا إلى فكرة( أن يكون الإنسان إنسانا) من ثلاث زوايا هي : الوجهة والقدرة والحدود . وإذا وجدنا صعوبة في توجيه الإنسان في صيرورته الإنسانية أي في تأسيس تربية فذلك لكون المكلف بتربيته هو أيضا إنسان متأثر بطبيعته الخشنة ويجب عليه أن يعطي للآخر ما هو نفسه في حاجة إليه ، وهذا ما يجعل الإنسان يحيد دوما عن غايته .
الإنسان ـ حسب كانط ـ في حاجة إلى معلم ، وهذا طبيعي ، ولكن هذا المعلم هو بدوره في حاجة إلى معلم ، وهنا تظهر الصعوبة لأن الإنسان نفسه الذي كلفَ غيره بتعليم الإنسان ليس بعدُ إنسانا عند كانط ...
ويفسر كانط هذه الصعوبة بأن الإنسان حيوان في حاجة إلى معلم ، لكن أين سيجد هذا المعلم ؟ لن يجده في أي مكان إلا في النوع البشري . إذن هذا المعلم بدوره حيوان مثله وفي حاجة إلى معلم. وهكذا فإن الحل حسب كانط هو ربط صيرورة الإنسان به لا بغيره فليس هناك كائن أرقى منه يسيره ، ولو تحقق هذا سنرى ماذا يمكن أن نفعل بالإنسان والقول بأن صيرورة الإنسان بيده هو قول بأن الإنسان حرّ. وهذه الحرية هي سبب صعوبة المشكل التربوي ، لأن حريتنا تضعنا في مواجهة مسؤوليتنا ، ولا تعني أن تفعل أي سلطة أي شيء ، فأن يكون الإنسان حرا هو بالأساس أن يكون مسؤولا عن نفسه .
فوائد هذا القول بالحرية هي :
ـ إن الإنسان قادر على التطور المستمر، وهذا أفضل من القول بأن طبيعة الإنسان تتطور دوما بالتربية ( لأن الأمر يصبح بيده )
ـ إن الإنسان لكونه حرا فهو المخلوق الوحيد الذي يجب أن يتلقى تربية
ـ القول بأن الإنسان حر قول بأنه يملك مستقبلا، ويقدر أن يصنع تاريخا
ـ أنه مسؤول عن سعادته وشقائه
ـ أنه مركز التاريخ وأن الطبيعة بكليتها خاضعة له
ولكن لكون الإنسان حرا يجب عليه أن يتـثـقـف بنفسه وأن يختار، فالحرية مطلب ثقافي، أي أن هذه الحرية في حاجة إلى أن تتهذب وتُصقل من خشونتها. المقصود هنا تقييد هذه الحرية في شكل " حرية اختيار " إذ لو تبقى هذه الحرية دون تنظيم وتهذيب فإنها ستتسبب في الاضطرابات الأكثر والأخطر في تاريخ البشرية، فالعدو الأكثر قسوة للإنسان هو الإنسان. وقد أشار أرسطو إلى أن " إتباع الإنسان لهواه وميله للرذيلة أخطر من حيوانية الحيوان" وذلك حسب رأيي لأن حيوانية الحيوان طبيعية ومحدودة فالحيوان الذي تُشبع غرائزه أقل خطرا من الإنسان الذي يسير حسب هواه و غرائزه لأنه لا يشبع ولا يقف عند حد...
هذه الحرية الثمينة والهشة في نفس الوقت وسبب الخير كما هي سبب الشر، هي التي أسست المؤسسة التربوية ولكن هي أيضا التي جعلتها ضعيفة والأكيد أن التطور ممكن لكنه لن يسير دون تعثر.
في إطار هذا التطور و هذا التعثر الممكن فإن الإنسانية كلها هي المعنية. فالتربية إذن هي تجربة الإنسانية، ولو أصبحت علما بالمعنى الصارم للكلمة فالنتيجة هي أن يكون الإنسان غير حر أو أن يرتفع العقل ليبلغ المعرفة المطلقة التي لا يملكها إلا الله.
فالتربية إذن تجربة وليست معرفة، وهي تعني الإنسانية كلها ومن هنا تتصل بفلسفة التاريخ...
والإنسان مطالب بالعمل والترقي ليعطي معنى لذاته ولوجوده. وأن يكون الشخص معلما لا يعني أن يعطي معنى لحياته فقط وإنما يعني أيضا مساعدة الآخرين على إعطاء معنى لحياتهم... وبذلك يتجاوز جهد المعلم ذاته نحو الكوني... وتصبح التربية منبع سعادة عظمى للإنسان ، ويكون كانط صادقا حين يقول :
L’éducation est le plus difficile problème qui puisse être proposé à l’homme ; mais elle est aussi la source de la joie la plus noble que l’homme puisse goûter